القضية الأرمنية فى المصادر العربية 1878 – 1923 |
الدكتور محمد رفعت الامام* مرت القضية الأرمنية فى الدولة العثمانية بثلاث مراحل متميزة ، وإن كانت متكاملة. الأولى: زمن السلطان عبد الحميد الثانى (1876 – 1908 ) ، والثانية إبان الحكم الاتحادى (1909 – 1918) والثالثة خلال الحكم الكمالى (1919 -1923). ملامح القضية وهكذا ، تصاعدت المسألة الأرمنية عقب برلين من كونها مشكلة محلية عثمانية إلى كونها قضية دولية. بيد أن مراوغات الإدارة العثمانية عن تنفيذ الإصلاحات وانشغال الجماعة الدولية عن متابعة القضية الأرمنية ، انزلق بالتوجه الأرمنى العام إلى المسار الثورى لحل القضية بعد فشل تسويتها سلمياً. وبذلك ، تبلورت الطاقات الأرمنية فى هيكليات حزبية ثورية سرية وعلنية جيّشت قواها داخلياً وخارجياً لمزاولة ممارستها الدعائية والثورية. هذا ، وقد تمخض عن تنامى المد الثورى الأرمنى وانتهاج السلطات العثمانية سياسة قمعية صوبه ، اندلاع سلسلة من الاضطرابات والقلاقل والمذابح ضد الأرمن بين عامىّ1894- 1896 راح ضحيتها عدة آلاف من الأرمن ، وهاجرت عدة آلاف أخرى منهم إلى البلاد العربية وروسيا القيصرية والبلقان وأوربا وأمريكا. وهكذا ، غدت " المذبحة" آلية عثمانية رسمية ؛ التخلص من الناس حتى لا يتشبثوا بأراضيهم دون مراعاة لأية شرعية دولية أو إنسانية. ولعل ميوعة الموقف الدولى آنذاك قد يسّر هذه المهمة على النظام العثمانى. ومع هذا ، عدّل الأرمن الثوريون إستراتيجيتهم وتحالفوا مع جماعة " تركيا الفتاة" بغية إسقاط النظام الحميدى ، وهو ما نجحوا فيه فعلياً إثر انقلاب 24يولية1908. وبذا ، أُسدل الستار على المرحلة الأولى من القضية الأرمنية لتبدأ المرحلة الثانية الأكثر زخماً بصعود نجم " تركيا الفتاة" ذات النزعة العنصرية المتطرفة ؛ الطورانية. تمخض عن فعاليات هذه المرحلة أن صار التخلص من الأرمن ضرورة سياسية للاتحاديين بقدر ما هى اقتصادية وعرقية بقدر ما هى دينية كى تنسجم المنظومة الطورانية. ولهذا ، استغل النظام الاتحادى تقهقر جيوشهم على جبهة القوقاز وألقوا لوم الهزيمة على الأرمن. إذ استغلوا وجود الأرمن الروس المتطوعين يُقاتلون فى الجيش الروسى واتهموا الأرمن العثمانيين بالخيانة العظمى لأنهم لم يتطوعوا فى جيشهم شأن أقرانهم الروس. وفى هذا المناخ ، قرر الاتحاديون فى فبراير1915 إبادة الأرمن بالدولة العثمانية ووقعت مهمة تنفيذها على عواتق الدرك والعصابات والتشكيلات المخصوصة. وفى مارس1915 قررت الحكومة العثمانية تدمير مركزيّ المقاومة الأرمنيين الرئيسيتيين زيتون وفان. وفى مساء 24أبريل 1915 اعتقلت السلطات الاتحادية أكثر من مائتى أرمنى من النخبة المثقفة بالأستانة واغتالوهم جميعاً. ومنذ مايو أبرقت السلطات العثمانية أوامرها الصريحة إلى الحكام والقادة العسكريين ب" ترحيل" الأرمن عنوة من وطنهم الأم بحجة حماية المدنيين وحماية القوات المسلحة من خيانة متوقعة من الأرمن الممالئين لروسيا. وفعلاً ، نفذت الأستانة هذه العملية فى الولايات الشرقية على مرحلتين: أولاً ، قتل كل الرجال الأكفاء ، ثم ثانياً ، نفى بقية الأرمن. بيد أن النفى لم يكن سوى الفصل الثانى من برنامج الإبادة. وفى نهاية يولية1915 قطع برنامج النفى أشواطاً كبيرة ، ولم يعد ثمة أرمن فى تلك الولايات التي كانت أوربا تُطالب الباب العالى دوماً بإجراء الإصلاحات فيها. بيد أن الاتحاديين قلقوا من الأرمن قاطنى الأناضول وقيلقية. ومن ثم ، جاء دورهم منذ نهاية يولية1915. وبذلك نجح الاتحاديون تماماً فى تصفية الأرمن من أراضيهم التاريخية التي قطنوها منذ ما ينيف على ثلاثة آلاف سنة. ويكمن أساس هذه المأساة فى تبنى الاتحاديين المتعصبين قومية متطرفة ، وليس فى خيانة الأرمن كما ادعت السلطات العثمانية. والحقيقة أن التخلص من الأرمن وقضيتهم سيُجنب الحكومة العثمانية التدخلات الأوربية المستمرة وسيُزيل العقبة الرئيسية بين الأتراك العثمانيين والشعوب التركية الأخرى فيما وراء القوقاز وبحر قزوين ، ويُمهد السبيل لملكية جديدة أمام أبطال الطورانية. وفى كلمة موجزة: تطورت فكرة التخلص من الأرمن بشكل متواز مع اندفاع تنامى الطورانية. وبأفول نجم الاتحاديين (1918) يُسدل الستار على المرحلة الثانية من القضية الأرمنية بعد أن نجحوا فى إنجاز الشطر الأكبر من إبادة الأرمن العثمانيين. ويبدأ الفصل الثالث والأخير ببزوغ نجم الكماليين الذين تبنوا مشروع إقامة "وطن قومى لا يقبل التجزئة" مما يعنى رفض قيام دولة أرمنية فى شرق الأناضول تضم الولايات الأرمنية الست وقيليقية. ولكى يُقنع الكماليون المجتمع الدولى والأرمن سوياً بجدية نواياهم ، صبوا جام غضبهم على قيليقية وراحوا يُطهرونها من الأرمن بهجمات منظمة على المدن والقرى المأهولة بهم تحت بصر فرنسا وسمعها. ولم يكترث الكماليون بأوامر الأستانة ، واعتبروا أنفسهم " الحكومة الفعلية" فى الدولة. وهكذا ، أنذر الهجوم التركى على قيليقية ورفض الفرنسيين الدفاع عنها بموت قيليقية الأرمنية. ورغم هذا ، نجحت الدبلوماسية الأوربية فى أن تُملى على الأستانة قبول معاهدة سيفر فى10أغسطس 1920 التي كرّست تمزيق الدولة العثمانية واختزالها فى دولة أناضولية صغيرة محصورة بين بلدين ما تزال حدودهما غير مرسومة وهما أرمينية واليونان. وبغية إسقاط سيفر وتجنب التهديد الذي تُشكله " أرمينية مستقلة" أصدر مصطفى كمال فى أواخر سبتمبر1920 أمره إلى الجيش التركى باختراق الحدود وسحق الجمهورية الأرمنية القائمة فى القوقاز ( 1918 – 1920 ) ، وتابعت دول الوفاق تقدم الجيش التركى فى قلب الجمهورية الأرمنية فى منتصف نوفمبر حتى احتلت المنطقة بأسرها وسيطر الأتراك على المناطق التي كانت لهم قبل انسحابهم فى نوفمبر1918. وأخيراً ، أُبرمت معاهدة لوزان فى 24يولية1923 بشكل يتماشى مع أمانى الأتراك القوميين. إذ أنها اعترفت لتركيا بحدود مستقرة تستوعب تراقيا الشرقية والأراضى المتنازع عليها فى الأناضول ؛ إقليم أزمير ، قيليقية ، ساحل البحر الأسود ، الولايات الشرقية (أرمينية ). وانعكس الانتصار المطلق للأتراك بأنه لم ترد فى بنود لوزان النهائية كلمتا "أرمينية " أو "الأرمن" ، إنما تضمنت نصوصاً عامة حول ضرورة عدم اضطهاد "الأقليات" غير المسلمة عموماً فى تركيا. وهكذا ، أُخليت تركيا من أضخم أقلية غير تركية وترسخت أسس الجمهورية " التركية" بإنجاز مستوى رفيع من التجانس على حساب الأرمن الذين حُكم عليهم إما بالهلاك أو الشتات. وتبعثر الناجون من الأرمن على ظهر البسيطة ليكونوا بمثابة " بصمات الجانى على جسد المجنى عليه". الديوان العربى وترتكز هذه الدراسة على النصوص العربية بشكل جوهرى ، ومن ثم ، تخرج الأرشيفات الرسمية عن إطارها. إذ أن المحتوى الأرشيفى العربى آنذاك كان صدى للأرشيفات العثمانية والبريطانية والفرنسية ، وهى أرشيفات الدول صاحبات الهيمنة السياسية والعسكرية على الديار العربية. ومن ثم لا تتسم هذه الأرشيفات بخصوصية عربية وقتذاك. ومع ذلك يُمكن العروج إليها بين الحين والآخر لقياس واختبار مدى موضوعية ومصداقية النصوص. وتتسم المصادر العربية بالتعدد والتنوع واختلاف المشارب والمضارب. وفى هذا الصدد ، ثمة ألوان متباينة من المصادر : الدراسات والمؤلفات ، الكتابات الصحفية ، الأدب ، الشعر....إلخ وتأسيساً على ما سبق ، يُمكن تقسيم المصادر العربية قيد الفحص والتمحيص إلى نمطين أساسيين وهما: فيما يتعلق بالنمط الأول ، نذكر منه على سبيل المثال لا الحصر: أعمال الزعيمين المصريين الوطنيين مصطفى كامل لاسيما كتابه " المسألة الشرقية" ومحمد فريد وكتابه " تاريخ الدولة العلية" وكذا ، أعمال المفكرين الشوام من أمثال فايز الغصين وكتابه " المذابح فى أرمينيا" ومحمد كرد على وكتابيه " خطط الشام" و"مذكرات". وفى هذا المنحى ، لا يُمكن تجاهل كتابات ولى الدين يكن – التركى الأصل والعربى الهوية _ لاسيما مذكراته المعنونة ب"المعلوم والمجهول" ، وراويته الأدبية " رائف ودكران". ولعل رواية " رائف ودكران" ، تنقلنا إلى المصادر الأدبية ، ونذكر منها مثالاً : نثريات مصطفى لطفى المنفلوطى فى كتابه "النظرات" ، وروايات الضاحك الباكى لفكرى أباظة المصرى "والأرمنية الحسناء" لمحمود الحفنى المصرى ، وأشعار معروف الرصافى العراقى. وثمة ملاحظة جد مهمة على هذا النمط من الكتابات مفادها أنها لم تنكر وقوع المذابح الحميدية أو الإبادة التى اقترفها الاتحاديون. لكن معظم هذه الكتابات قد انصبت فى قوالب تبريرية. على سبيل المثال ، لم ينكر مصطفى كامل وقوع المذابح الحميدية ، ولكنه اجتهد فى نفى أنها سياسة عثمانية رسمية تبناها النظام الحميدى ، وسعى حثيثاً لإثبات أنها رد فعل على خيانة الأرمن لدولة الخلافة الإسلامية وتعاونهم الوثيق مع بريطانيا _ وهى الدولة المحتلة مصر. وأيضاً ، اجتهد كامل لترويج القضية الأرمنية فى سياق دينى مؤداه: أقلية أرمنية مسيحية تتعاون مع ، وتحتمى ب"القوى الصليبية" للنيل من الإسلام مجسداً فى السلطنة العثمانية. وثمة مثل ثان. فايز الغصين الذى يُعد ، بحق ، رائد التأريخ لوقائع الإبادة الأرمنية عام1915 ؛ إذ أن كتابه صدر بالقاهرة فى خريف عام1916 قبل أن تنتشر كتابات برايس وتوينبى وغيرهما. ورغم هذه الريادة ، فإن جُل مبتغى الغصين من وراء عمله هو تبرئة الإسلام كدين وعقيدة ونصوص مقدسة من كونها المحرََض على إبادة الجنس الأرمنى. وفى هذا الخصوص ، لم تخرج كتابات ولى الدين يكن عن كونها صوت الأحرار العثمانيين واللامركزية فى مواجهة الاستبداد الحميدى. وكذا ، وقعت كتابات كرد على فى دائرة صراع الهوية العربية ضد الطورانية. الصحافة العربية أولاً: ثانياً: ثالثاً : رابعاً : خامساً: • الوقائع المصرية : لسان حال الحكومة وهكذا ، نستطيع صياغة الرؤية الجمعية العربية نحو القضية الأرمنية من تجميع وتركيب هذه التكوينات. ونظراً لمحدودية عدد الصفحات المخصصة لهذا البحث ، فإننى سوف أُحلق فى سماء الصحافة العربية لألتقط للقراء بعض المشاهد ذوات الدلالة على سبيل المثال فقط. الحقبة الحميدية وثمة نص تداولته الصحافة المصرية يصف أوضاع أرمن أضنة عام1896 على النحو الآتى ؛"فإن الحكام هنالك أُشربوا مبدأ السلطان فجعلوا يُضيقون على الأرمن ويُعاملونهم معاملة المرء لعبده أو بهيمه ، وسمحوا لزنادقة الترك ووحوش الكرد أن يستبدوا بهم ، ويأتوا ما أرادوا من النُكر معهم حتى لم يبق مع أولئك المساكين من أموالهم الكثيرة درهم. وأصبح الكبير منهم عبداً لأحقر أعدائهم المتوحشين. وتقرر فى الأذهان أن قتل الأرمن لا يُعد من قبيل المخالفات الصغرى ، وأن إقدام الأرمن على الشكوى من تركى أو كردى جناية كبرى يُجاز عليها الأرمنى المسكين بالسجن طويلاً أو بالتعذيب إلى أن يموت. وأدى ذلك إلى قحة زادت عن حدود الوحشية عند جماعة الكرد والترك فى تلك الولاية إلى حد أن فلاحيهم المحتقرين صاروا يستعيضون عن الثيران والحمير بالأرمن فى فلاحتهم. فيربطون إلى النير اثنين أو ثلاثة من الذين كانوا بالأمس كبراء ولايتهم ، ويُجرجرونهم فى الفلاحة وهم يسوقونهم بالوخذ المُدمى والجلد المؤلم حتى تسيل منهم الدماء ويعجزون عن جر المحراث أو يموتون ونير الفلاح فوق أعناقهم. وما كان نير الفلاح التركى أثقل من نير سلطانه". مذابح أضنة1909 وعلى المستوى الشعبى ، فرحت عموم الجماهير المسلمة من فتوى الشيخ الأزهرى لأنها حسمت النزاع بين طائفتين من الجنس البشرى. ونلمس رد فعل الجماهير العادية فى قصيدة نشرها شاعر مغمور بجريدة " الأفكار" القاهرية يوم الجمعة7مايو1909 على صدر صفحتها الأولى. وجاءت تحت عنوان " فى مدح شيخ الأزهر وفتواه". ومن أبياتها: نفس المعنى نسمع صداه بقوة فى منظومة الشاعر العراقى الكبير الرصافى عن " أم اليتيم" ، ونثرية مصطفى لطفى المنفلوطى " لا همجية فى الإسلام" بجريدة " الجريدة" القاهرية. المرحلة الاتحادية فى هذا الإطار ، سوف أبتعد عن الصحافة الرسمية مثل القبلة الحجازية والعاصمة السورية على أهميتها الشديدة وسوف أُركز على بعض صحافة الرأى النادرة جداً. ومما ورد فى هذا المقال على لسان الضابط:"...إن ما قرأتموه وسمعتموه عن مصائب الأرمن ليس إلا نقطة من بحر ، فإن الجحيم الذى وصفه دانتى _ الشاعر الإيطالى _ نعيم إذا قوبل بالجحيم الذى تجتازه أرمينية." وأختم الحقبة الاتحادية _ حقبة الإبادة _ باقتباسين: الأول : يقول الضابط:"... قررت جمعية الاتحاد والترقى انتداب أنور باشا ناظر الحربية للقيام بمهمة التخلص من خطر الأرمن الموهوم. فجاء أنور باشا أرضروم ، وعقد هناك مجلساً سرياً فى منزل والى الولاية حضره الاتحاديون وزبانيتهم ، وقرروا أن يُؤلفوا عصابات من الجناة والقتلة والمسجونين وأطلقوا عليها تشكيلات مخصوصة...". الثانى : جريدة الأهرام القاهرية فى عدد الخميس12مارس1919 ، أثارت " الأهرام" قضية الإبادة الأرمنية عام1915 على هامش مطالبة الأرمن بإنشاء مملكة خاصة بهم. وقد علقت على هذا قائلة:" إن الألمان وتلاميذهم الاتحاديون لم ينظروا إلى حل مسألة الأرمن على هذا الوجه ، بل كانت خطتهم محو العنصر الأرمنى. وقد اتضح ذلك من عملهم وأقوال الشهود العدول." وفيما يخص عملية تهجير الأرمن إلى ولاية حلب العربية ، علقت الأهرام بقولها :" أما الجهة التى قاموا بنقلهم إليها فهى ولاية حلب العربية ، ولكنهم كانو يفنونهم فى الطريق لأن الغرض الصحيح لم يكن الإبعاد ، بل الإفناء...". وهكذا ، يتضح مما سبق أن القضية الأرمنية قد تواجدت بقوة فى بطون المصادر العربية. وتجدر الإشارة إلى جدوى هذه المصادر لاسيما فى المعركة الأيديولوجية المشتعلة حول إثبات وقوع الإبادة الأرمنية ونكران وقوعها. محاضرة القيت في مؤتمر الابادة الارمنية والقانون الدولي * د.محمد رفعت الإمام |