شام بريس حلب .. 23حزيران/يونيو2009 يتوزع الأرمن في المدن السورية مثل : دمشق ، حمص، اللاذقية، دير الزور، القامشلي ، دون أن يشكلوا كثافة بالضرورة ، أما في حلب .. فشأن آخر .يقول شارلوته فيديمان ( كاتب ألماني ) :” مدينة حلب هي عاصمة الأرمن السوريين، وهم لا يمثلون إلا مجموعة في لوحة الفسيفساء السورية ، لكنها مجموعة متميّزة بسبب المجريات التاريخية “.والأرمن في حلب كما في المدن السورية الأخرى ليسوا بجالية ولا بأقليات ، بل هم مواطنون أصلاء ، تماماً كجميع الأطياف التي يعيشون إلى جانبهم والذين يشكلون معاً هذا النسيج المتناغم في العيش المشترك . الأرمن في حلب وغيرها ، هؤلاء الذين لم يتركوا حرفة من الحرف أو مهنة من المهن إلا وكان لهم يد طولى في تطويرها وانتشارها في البلاد .ولا يستطيع القادم إلى حلب أن يفرق بين شخص ينتسب إلى الأرمن وبين غيره ممن ينتمون في الأصل إلى هذه البلد ، فقد اندمج الأرمن في المجتمع الحلبي الذي هاجروا إليه منذ زمن طويل ، لكنهم امتلكوا قدرة عجيبة على عدم الذوبان رغم قلة عددهم، وما زالوا يتكلمون فيما بينهم بلغتهم الخاصة – التي تختلف لفظاً وإملاءً عن اللغةالأرمينية – ولم ينقطعوا عن جذورهم حتى لو زاروا أرمينيا كغرباء بجوازات سفر سورية. شام برس قامت بزيارة إلى مطرانية الأرمن في حلب بالإضافة إلى جمعياتهم ومدارسهم وبعض الفعاليات التي تمثلهم في البلد فكانت اللقاءات التالية : المحامي سونبول سونبوليان عضو مجلس الشعب يقول بأن الأرمن في حلب يرفضون مصطلح الجالية ، أو مصطلح الأقليات ، فتواجد الأرمن في حلب هو تواجد أصيل ، وليس كمهاجرين استوطنوا المنطقة ، فهم ليسوا دخلاء أو ظاهرة مؤقتة، وإنما مواطنون أصليون تماماً كغيرهم من الطوائف الأخرى التي تسكن في حلب وسورية التي اختاروها من بين البلدان العربية وذلك لقربها من لواء اسكندرون الذي هاجر منه الأرمن قاصدين سورية ، لافتاً إلى أن الأرمن لا يربطهم بأرمينيا سوى العلاقات الطيبة التي يشهدها البلدين ، وإنما انتماؤهم وحنينهم وولاؤهم هو لبلدهم سورية الذي أكلوا من خبزه ونعموا بخيره ويقدمون له كل ما يستطيعون في سبيل رقيه وتقدمه ، مشيراً بأن الأرمن قدموا لهذا البلد الكثير من الأعمال واشتهر منهم شخصيات عديدة في مجال الفن والسياسة والصحافة ، ومنهم على سبيل المثال الصحفي رزق الله حسون مؤسس أول جريدة عربية خاصة في العالم، والصحفي أديب إسحاق، واللواء آرام كارامانوكيان القائد العام للواءالمدفعية في الجيش العربي السوري، والدكتور آصادور الطونيان، والدكتور جبه جيان وكلاهما كانا من الأعلام الأوائل في الطب في سورية . وفي المجال الفني يظهر الفنان سلّوم حدَّاد ،والفنانة نادين وقائد الفرقة السيمفونية السورية المايسترو ميساك باغبوداريان، والفنان الموسيقي فاهه تيميزجيان، والموسيقي فاهه ديميرجيان. وعن دور الجمعيات الأرمنية يقول الدكتور بدروس بوياجيان رئيس الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية بحلب : هناك الكثير من الخدمات والمساعدات التي تقوم الجمعيات الأرمنية بحلب بتقديمها إلى المواطنين الأرمن ، فهذه الجمعيةالتي تأسست في حلب عام 1910 وذلك لمساعدة الأرمن في بداية اغترابهم مادياً ومعنوياً في ذلك الوقت .أما اليوم فهي تقوم بخدمات عظيمة في هذا الشأن ، فهي مشكلة من العديد من اللجان المنبثقة عن مجلس الإدارة وهي اللجنة التربوية التي تعنى بالنشاط التربوي الذي يعتبر من أهم أعمال الجمعية ، وهذه الجمعية يتبع لها مدرستان من مدارس الأرمن ، حيث تقوم الجمعية بإملاء الشواغر في الهيئة التدريسية لكلا المدرستين ، إضافة إلى تهيئة الميزانية اللازمة لاستمرار النشاط التربوي بهما ، وتخصيص الإعانات المدرسية للطلاب الفقراء وإيجاد معيلين لهم ، وهناك اللجنة الصحية التي تشرف على تقديم الإعانات الصحية للمرضى الأرمن المحتاجين للأدوية وتكاليف العلاج والعمليات الجراحية، بالإضافة إلى لجنة أكاديمية صاريان للرسم ، حيث تقوم هذه اللجنة بالإشراف على أكاديمية صاريان – وهي مدرسة مختصة بالرسم – التي تأسست عام 1955 بجهود الدكتور روبير جبه جيان والفنان البروفسور زاريه كابلان ، حيث ينتسب لهذه المدرسة طلاب وطالبات من جميع الأعمار ليتعلموا فنون الرسم وذلك تحت إشراف أساتذة مختصين ، حيث ينال الخريجون شهادات خاصة وذلك خلال حفلة تضم معرضاً لأعمالهم الفنية . ويضيف الدكتور بوياجيان : هناك اللجنة النسائية التي تعنى بتنظيم المحاضرات والندوات الخاصة بسيدات الجمعية ، كما تشرف على دورات اللياقة البدنية للسيدات ، بالإضافة إلى تنظيم الرحلات السياحية والاستجمامية وتوزيع هداياعينية من لباس وغيره على الطلاب المحتاجين أيام أعياد رأس السنة.وأضاف بويوجيان بأن لهذه الجمعية فروع في معظم المحافظات السورية التي يقطنها الأرمن كدمشق والقامشلي واليعربية واللاذقية وكسب. من جهتها تقول المحامية هوري أبا هوني عضو مجلس محافظة حلب بأن تاريخ الأرمن بحلب لا يعود إلى العام 1915 حيث كانت بداية الهجرة الكبيرة للأرمن من لواء اسكندرون السليخ وإنما وجودهم سبق ذلك بكثير حيث تعود جذورهم في حلب إلى القرن الرابع عشر ، عندما كان الأرمن يقومون بالحج إلى فلسطين وكانوا يتخذون من حلب مكاناً للراحة وذلك في منطقة كانت تدعى ( الهوكيدون )بالقرب من شارع التلل ، ونتيجة التجارة التي كانوا يقومون بهااستوطن الكثير منهم في حلب منذ ذلك الوقت ، وأكبر دليل على ذلك هو كنيسة الأربعين شهيد التي يعود عمرها إلى القرن الرابع عشر. وتضيف أبا هوني: أن الأرمن في سورية – والقسم الكبير منهم في حلب – حافظوا على تقاليدهم القومية قبل هجرتهم إلى سورية، وهي تقاليد شرقية بمجملها ولا تختلف كثيراً عن الأعراف والتقاليد الشرقية المسيحية، وتقتصر عاداتهم في الزواج على داخل الطائفة الأرمنية فقط ، وذلك بحكم الزواج لدى الأرمن هو زواج كنسي وليس زواج مدني . وبدوره أشار المحامي قره بت شوشانيان عضو مجلس محافظة حلب إلى أن وضع الأرمن في حلب لا يختلف عن بقية الطوائف من الناحية القانونية إلا فيما يخص الأحوال الشخصية ، فالأرمن يتمتعون بجميع حقوقهم وواجباتهم على أكمل وجه وهم يمارسون أعمالهم وقضاياهم كمواطنين أصليين في هذا البلد ، لافتاً إلى أن الأرمن يعيشون حياة اجتماعية قل أن تجد نظيراً لها في العالم إلى جانب بقية الطوائف وخاصة المسلمين الذين يشكلون معهم نسيجاً وطنياً أصبح العالم كله ينظر إليه بعين الاحترام . أضاف شوشانيان : كثيراً ما نخرج كعائلات أرمنية مع أصدقائنا المسلمين في رحلات أو إلى المطاعم والمقاهي والمنتزهات ، حيث نقضي أوقاتاً ملؤها المحبة والود والاحترام ، ويتعدى ذلك إلى الأطفال الذين كونوا صداقات حميمية مع بعضهم ربما لا تجد لها مثيلاً ضمن الطائفة الواحدة . وفي تصريح لـ شام برس أوضح الأديب والباحث الدكتور الكسندر كشيشيان عضو اتحاد الكتاب العرب وعضو مجلس إدارة جمعية العاديات إلى أن مدينة حلب امتازت على غيرها من البلاد بما بين أهليها على اختلف أديانهم من الألفة والتمازج والمودة والاتفاق ، وقلما يحدث بينهم شيء من التنافر أو التخاصم يكون منشأه التعصب والبغض الديني ، لافتاً إلى أن للمسلمين والأرمن علاقات صداقة مع بعضهم ربما تكون أكثر من التي يقيمونها بين أبناء دينهم . وأضاف كشيشيان مقتبساً مقالة للصحفي الحلبي المرحوم شكري كنيدر : بأن هذه العلاقات الاجتماعية الحميمية التي يعيشها الأرمن مع أبناء حلب كانت موجودة حتى قبل الدستور الداعي إلى المحبة والإخاء ، موضحاً أن أهالي بيروت رأوا عجباً حين شاهدوا وقت إعلان الدستور شيخاً وقسيساً يتصافحان ، وقد ملأ كتابهم يومها الصحف والمجلات في الكلام على هذا الأمر الذي عدوه غريباً بل أعجوبة باهرة ونعمة عظمى .وأضاف: آثار المحبة والائتلاف بين أصحاب الأديان المختلفة في الشهباء تظهر بأحسن مظاهرها في الأوقات الصعبة والمواقف الحرجة ، وإذا بحثنا عن أسباب تآلف المسلمين والمسيحيين في هذه المدينة لا تجد من سبب غير ما طبع عليه الأهالي عموماً من كرم الخلق ولين العريكة ورقة الجانب. فإنه ليس من تكافؤ ليحصل التوازن وعدد المسلمين أضعاف عند المسيحيين والكثرة تقتضي الأثرة واستضعاف القلة وليس شيء من ذلك في حلب. فليس إذاً لتلك الصداقة من سبب إلا ما ذكرناه من سهولة الطباع وصفاء القلوب. ولفت كشيشيان إلى أن أبناء سورية اعتادوا على رؤية هذه المشاهد المتناغمة حيث ترى الشيخ والقسيس في جميع الميادين إلى جانب بعضهم البعض مشيراً إلى ما تنعم به سورية من وحدة وطنية واخاء يعزز الثقة بالمستقبل المشرق ، مؤكداً أن سورية تعمل دائماً على حشد الطاقات وتحقيق التضامن العربي الفعال. وعن استقرار الأرمن في حلب أكثر من غيرها من المدن السورية قال كشيشيان : كانت حلب على مر الزمان تشكل نقطة تمركز استراتيجية بالنسبة للأرمن وذلك بحكم كون حلب تشكل منفذاً إلى فلسطين ومصر من جهة ، والى المنطقةالشرقية ومنطقة البادية من جهة أخرى ، وهذا الموقع الجغرافي الهام جعل الارمن يتخذون من حلب نقطة تمركز وتجميع التجارة للانتقال بها من حلب إلى المناطق الأخرى وهذا كله قبل الهجرة والاستقرار ، حيث تشير الدراسات التاريخيةالقديمة إلى أنه منذ القرن الثامن الميلادي، شيّدت في حلب دار أو خان لاستضافة الحجاج والتجار الأرمن ، حيث يحطون فيها الرحال بضعة أيام ، ثم يتابعون سفرهم إلى القدس أو إلى التجارة ، من أمثال الخان المعروف إلى اليوم” بالهوكيدون” (أي البيت الروحي)، الذي يرتقي بناؤه في وضعه الحاضر إلى القرن الرابع عشر، وبعد المذابح التي تعرض لها الأرمن في اللواء ، لم يجد الأرمن أفضل من أهالي حلب الذين فتحوا قلوبهم وصدورهم لاستقبال إخوانهم المنكوبين ليعيشوا بين ظهرانيهم . وعن الأوضاع التي يعيشها الأرمن داخل سورية قال كشيشيان: يتمتع الأرمن في حلب وسورية بجميع حقوق المواطنة ومنها الحقوق الاثنا عشر وهي:حق المواطنة و التسامح الإثني و التسامح الديني ، و التسهيلات التربوية وحقوق متساوية أمام القضاء وحرية الانتقال و الحريات الاقتصادية وحرية الاشتراك في المناقصات والأمن والأمان و الاحترام المتبادل ، بالإضافة إلى احتلال المناصب الإدارية والحكومية والسياسية واحتلال مناصب قيادية في الجيش العربي السوري. وفيما يخص المدارس والجمعيات قال الدكتور كشيشيان : تشير الإحصائيات إلى أن عدد المدارس الأرمنية في حلب بين عامي 1924 ـ 1925 كان 19 مدرسة ابتدائية ارتفع إلى 24 في عام 1984 ومدرستان لتعليم فن الرسم والنحت بينما في أربعينيات القرن 19 كانت هناك في حلب 4 مدارس ابتدائية أرمنية فقط: الحضانة الأولى ـ 1869 ومدرسة البنات ـ 1867 ومدرستان للذكور. فيما تأسست أولى الجمعيات الثقافة والعلمية والخيرية والرياضية وغيرها ابتداء من القرن 19 كجمعية روبينيان ـ 1846 وجمعية محبي العلم ـ 1880 والجمعية الخيرية العمومية الأرمنية ـ 1910 و 9 جمعيات ثقافية تستمر في نشاطها حتى يومنا هذا. وقد وصل عدد الجمعيات الثقافية بين عامي 1920 و 1978 إلى 42 جمعية وزال بعضها بسبب انخفاض عدد الأرمن في حلب وبقي منها حوالي الثلث. ولجميع المدارس والجمعيات مكتباتها الغنية يصل عددها اليوم إلى 28 وهناك 29 مكتبة خاصة. وكان الأرمن يملكون أكثر من 30 مطبعة في المدينة وجميع المطبوعات من كتب مدرسية و 40 دورية أرمنية من جرائد ومجلات وإبداعات الأدباء كانت تصدر عنها بين عامي 1918 ـ 1968ثم تعرض وتباع في 49 مكتبة لبيع الكتب أصحابها من الأرمن أيضاً. وختم كشيشيان بقوله : الأرمن مهما اختلفت أجناسهم وتباينت أقطارهم أمة نشيطة وعاملة، لا تعتمد إلا على نفسها، حريصون على الذهاب إلى عملهم مبكراً ، نبغوا في شد المجالات مثل التجارة والطب والصيدلة والهندسة والفن والكتابة والميكانيكا وغير ذلك. والغريب انك قلما تجد بين الأرمن عاطلاً عن العمل إلا أصحاب الإعاقات، وليس بينهم متشرد أو متسول، وهم يبادلون العرب الحب والاحترام ويمزجون عرق جبينهم في تعمير وتطوير هذه البلاد التي تستضيفهم، ويناضلون في سبيل حريتها واستقلالها.