الإبادة الأرمنيـة في صحافة المهجر السورية

نورا أريسيان narissian@hotmail.com هايكازيان-مجلة الدراسات الارمنية بيروت 2010 تعتبر الصحافة من أكبر المصادر التاريخية التي تعكس الأحداث والوقائع التاريخية في حقبة زمنية محددة. وبهذا فإن الصحافة السورية لها اعتبارها الكبير حيث رصدت بشكل مفصل المذابح والإبادة التي تعرض لها الأرمن في الإمبراطورية العثمانية، وكذلك وصفت أحوال الأرمن الناجين من تلك المجازر، حيث يتمثل كل ذلك أمامنا كوثيقة تاريخية هامة الى جانب التقارير التي كتبها الدبلوماسيون الأجانب من خلال ممثليات الدول الأجنبية في تركيا، وكذلك شهادات الإرساليات الدينية التي كانت تزور البلاد. لقد أدت الضغوطات التي فرضت على الصحافة في فترة السلطان عبد الحميد والرقابة في الامبرطورية العثمانية الصارمة من قبل الاتحاديين إلى ملاحقة الصحفيين المعروفين والتسبب في ابتعادهم عن البلد وتأسيس صحافة في بلاد الغربة والمهجر. ويرجع السبب الحقيقي لهجرة الصحفيين السوريين، إلى ما كانوا يعانونه من قسوة القيود التي يضعها الحكم العثماني التركي على حقهم في التعبير . لقد ولدت صحافة المهجر تحت هذه الظروف في دول أوروبا وأمريكا اللاتينية. وتجمع الصحفيون السوريون حول الجرائد التي أسسوها هناك، فقد حصلوا على إمكانية التعبير عن أفكارهم ومطالبهم الوطنية بحرية تامة. وكانت صحافة المهجر السورية تحمل الطابع السياسي والتحليلي والاقتصادي والأدبي. هذه الصحف ذات الطابع الحر المطلَق كانت تخصص صفحاتها للأخبار المحلية، وكانت المراسلات التي ترد إليها تكون عن طريق اسطنبول-الاستانة-القسطنطينية ومصادر أجنبية أخرى. ويلاحظ أن صحافة المهجر السورية لها تاريخ غني، فقد صدر العديد من الصحف في فرنسا وبريطانيا والبرازيل والأرجنتين. ولا بد من الإشارة إلى أن ما هو في متناول أيدي الباحثين من صحافة المهجر فهو فقط ما أرسله بعض أبناء المهجر المفكرين إلى الوطن لتكتمل صورة الصحافة السورية. وتجدر الإشارة الى أن الصحف السياسية تلك كتبت عن سياسة التتريك التي اتبعها الاتحاديون وكانت تدافع دوماً عن العنصر العربي وتطالب بالإصلاح خلال مراحل تطور تاريخ الصحافة السورية. ومن خلال الدراسة وجدنا عدداً لا بأس به من تلك الصحف التي اهتمت بمواضيع الأرمن، ولكننا سنسلط الضوء هنا على بعض النماذج منها . ونبدأ مع جريدة المستقبل الأسبوعية الصادرة في باريس لما تنفرد به من مقالات وتغطية شاملة لأحداث المذابح الأرمنية. فهي جريدة رسمية وقد أنشأتها حكومة الجمهورية الفرنسية في باريس أثناء الحرب العظمى في آذار 1916. وفوضت شؤون إدارتها وتحريرها إلى حقي بك العظم رئيس الحكومة السورية سابقاً . وبعد فترة استلم إدارة الجريدة شكري غانم. كانت المستقبل تعتبر جريدة سياسية حرة، لم تكن تورد فقط أخبار فرنسا المحلية بل كانت تنقل صورة سوريا ولبنان الحقيقية. وقد نشرت على صفحاتها حوالي السبعين مقالة خلال فترة 1916-1919 تخص إبادة الأرمن، تلك الجريمة الصامتة في تاريخ الإنسانية. فمنذ عددها الأول بدأت المستقبل بنشر أخبار عن سقوط أرضروم وموش ومعظم بلاد أرمينيا العثمانية في يد الروس، وقد أدرك أصحاب القلم فيها أن أبناء الأمة العربية يهدرون دماءهم في القوقاز تحقيقاً لمطامع عصبة الظالمين وخدمة لمطامع أسيادهم الألمان. وورد في العدد الثالث تاريخ 17/3/1916 ما يبين لنا الفرق بين العرب والأتراك في معاملة الأرمن، ويتحدى صاحب المقال القارئ بأنه لن يجد في تاريخ العرب في أي عصر مثل تلك المذابح المتتابعة والمتكررة في بلاد الأرمن منذ نزلوا أرض الشام. وهو إذ يرجئ المذابح إلى أن الترك حملوها معهم من بلاد المغول وألصقوها بالإسلام والمسلمين زوراً. وحول رفضه لعملية المذابح يقـول: “فالعالم العربي يقابل هذه المذابح الأرمنية بالاحتجاج عليها، مبرئاً الإسلام والمسلمين الصادقين أمام التاريخ من عارها…”. ويأتي حقي العظم ليوقع في العدد الثالث تحت مقالة كتب فيها عن حكومة الاتحاديين بنظر فاضل من أفاضل المسلمين، حيث يعتقد بأن المسيحي السوري لا يقل عن أخيه المسلم السوري وطنية عربية وقومية. إشارة منه إلى المعاملة السيئة التي لقيها الأرمن والمسيحيون من الدولة التركية، إذ يقول: “وإنني لا أعلم كيف نسي أو تناسى هؤلاء الذين يرمون المسيحي من أرمن وأروام وغيرهم من رعايا الدولة التركية بخيانة وطنهم، أنه يصعب على المرء بل يستحيل عليه أن يقبل يد قاتله ويشكره على إرهاق روحه”. وسنلاحظ دائماً أن المستقبل تأتي من خلال عدد من مقالاتها بشهادات مختلفة من بينهم الألمان والجنود الترك والعرب. حيث كانوا يروون تفاصيل عن المذابح الأرمنية بحكم مشاهدتهم لمعاناة وعذاب الأرمن عن طريق الصدفة. وهذا ما تظهره لنا مقالة أخرى في العدد الثالث نقلاً عن خبر في صحيفة ألمانية أورده صحفيون ألمان في الأناضول. وفي بداية المقالة تبرز المستقبل هدف تقديم هذا الخبر، وهو أن الجريدة تأمل في أن يسلك الاتحاديون الصراط المستقيم رحمة بالإنسانية المتألمة. ويعترف الجنود الأتراك أنهم جروا النسوة راكعات، وبعضهن ألقين بأولادهن في النهر لإنقاذهم من عذاب الذبح ويروي جندي آخر بافتخار أنه كان يسوقهم أمامه كقطيع من الماشية، وكان العشرات منهم يذبحون على مشهد من ذويهم. وكتب الصحفيون تحت عنوان “موكب الضحايا” ما يلي: “وفي صبيحةَ اليوم الثاني شاهدنا موكب هؤلاء الضحايا السائرين إلى الموت على أقدامهم… وأنا لا أنسى ولا أستطيع أن أمحو من لوحة خيالي ما حييت صورة مشهد هذين الرجلين ونسوة هذه القافلة وأولادهن البيض الوجوه الزرق العيون يمشون أمامنا بكل سكون وهدوء إلى الإعدام وهم ينظرون إلينا بعيون كأنها تلتمس الرحمةَ ولا تجسر على التفوه بها، أنني لا أنسى أبداً مشهد هذه القافلة التي تسير ساكنة هادئة إلى الفرات ليشد بعضها إلى بعض عند ضفته ويلقى هذا الجمع الغفير في قعره”. وتتعمق الجريدة في سرد التفاصيل وتورد قصة عن الأتراك، حيث تتجلى كوصمة عار على جبين حكام الاتحاديين، إذ تقول تحت عنوان “الجثث تسبح في الفرات”: “وقد ألقت الحكومة القبض على 1200 وجه من وجهاء الأرمن وغيرهم في ولايتي ديار بكر ومعمورة العزيزية. وشحنت 674 شخصاً منهم في 12 زورقاً كبيراً وأرسلتهم في الدجلة بحجة أنها تود إرسالهم إلى الموصل”. لكن لم تمض فترة قصيرة حتى سلبهم الجنود جميع أموالهم ثم خلعوا عنهم ثيابهم وقذفوا بهم إلى قعر النهر. وقد ظَل الناس مدة شهر يرون هذه الجثث طافية على سطح الفرات مشدودة بعضاً إلى بعض وقد بقرت بطون البنات والنساء وقطعت بعض أعضاء أجساد الرجال. والأسوأ في الأمر أن قائم مقام جرابلس التركي رفض دفنها بحجة أنه لا يفرق بينها بين المسلم والمسيحي وهكذا بقيت الجثث طعاماً لكلاب الأرض وطيور السماء. وكتبت الجريدة في نهاية المقالة: “هذا ما رواه الألمان أنفسهم عن فظائع الترك ورجال هذه الحكومة التركية الذين يودون الانتساب زوراً وكذباً إلى الإسلام والإسلام بريء مما يعملون”. وتؤكد الجريدة أن الأتراك كانوا يعملون على تلطيخ الإسلام بتلك الجرائم وقد طهر الإسلام مما يجرمون. أما فيما يتعلق بتعداد الأرمن فنقرأ في العدد السادس تاريخ 7/4/1916 أنه وحسب الإحصاءات الأخيرة للحكومة التركية فيبلغ عدد الأرمن في سوريا ولبنان وحلب ودير الزور وأضنة في العام 1910 مليون و750.000 شخصاً. وتبدأ الصحيفة الرسمية بنقل أخبار مذابح الأرمن مستندة إلى مصادر أجنبية. ومن أهم ما نقلته هو عن جريدة تيجت الهولندية أن المراسلين الكاثوليك الألمان في تركيا أخبروا مراكزهم الرئيسية أن الأتراك ذبحوا مليون أرمني منهم مائة ألف من الكاثوليك (العدد 8 تاريخ 21/4/1916). وتأتي مقالة بعنوان “وصف مذابح الأرمن الفظيعة” في العدد 15 تاريخ 22/5/1916 لتسجل ما يلي تحت عنوان ثان مثير للاهتمام “سهام في صدر مدنية القرن العشرين”: “يستحيل اليوم على الكاتب، وعلى الكاتب السوري على الخصوص، أن يكتب أو يقرأ أو يعرب فصول هذه الفظائع الدامية المحزنة ولا يجول في خاطره شبح ما يسمعه ويقرأه ولا تصر أسنانه حقداً وغيظاً للانتقام من هؤلاء الجناة أعداء الإنسانية…”. ثم يحذر القارئ العربي من أنه سيقرأ في الجريدة أخباراً وقصصاً فظيعة. وتتابع الجريدة إذ تورد أخباراً من أرضروم أنه في أيار 1915: “في مثل هذا الشهر، شهر الربيع والحياة والأزهار من سنة 1915 قَررت جمعيةُ الاتحاد والترقي إبعاد جميع الأرمن الذين يقطنون ولايات أرمينيا والأناضول وأطنة إلى صحراء بلاد العرب جنوبي بغداد وقتلهم ونهب أرزاقهم وأملاكهم وأصدر أنور باشا ناظر الحربية أمره بذلك”. وهنا تورد المستقبل على الهامش أنه في مثل هذا التاريخ من هذه السنة بدأ إبعاد العائلات السورية إلى الداخلية. وتثبت هذه الكتابات حدوث الإبادة المنفذة من قبل تركيا ضد الأرمن في صحراء سوريا. وتختم هذه المقالة بالتعليق التالي: “هذا بعض مما رواه مكاتب جريدة له جورنال في أرمينيا عن فظائع الترك والأكراد والاتحاديين فيها جعلناه تقدمة لمن أخذوا بيد تلك القتلة وأتوا عليهم ومدحوهم في صحفهم وشجعوهم على القتل”. ويجد صاحب المقالة أنه من الضروري ضم أسماء الخونة إلى أسماء الاتحاديين القتلة وصنع لوحة تعلق على جدران كل منزل كي تتذكر الأجيال القادمة هؤلاء الخونة وتلعنهم. يكتب مدير المستقبل شكري غانم بكل جرأة في العدد 16 تاريخ 16/6/1916 ما يلي: “يقولون إن جمال باشا الذي تولى بنفسه إدارة هذه المشانق وكان يقال عنه حتى أمس أن ظل الألمان غير خفيف عليه وقال مرة قتلنا الأرمن بالسيف ونقتل السوريين بالجوع”. وبذلك يرى المفكر السوري حقيقة الحكام الأتراك وأفعال منظمي الجرائم مشيراً إلى القدر الذي يواجهه الأرمن والعرب على السواء. ونقرأ في العدد 20 تاريخ 14/6/1916 تحت العنوان الدائم “أخبار الدولة التركية” ما يلي: “ليس في البلاد التركية حادث جديد يلفت إليه النظر غير حوادث القتل والشنق والإعدام والمجاعة تتجدد كل يوم في صورة جديدة كلما مر عليها الزمن فلقد فتكت الدولة التركية بأرمنِ الولايات الأرمنية، … ولا تزال المجاعة ضاربة أطنابها في بلاد الشام ولبنان طولاً وعرضاً ومشانق منصوبة لا تحل لها محال”. وفي النهاية يصف صاحب المقالة البلاد التركية على أنها عبارة عن مقبرة كبيرة يحرسها الجنود لنهب موتاها. فها هي المستقبل تصف بصدق حال البلاد بكل وسائل التعذيب والفتك المستعملة من قبل الأتراك بحق شعوبها، مستنكرة الوضع الذي آلت إليه البلاد. وفي نهاية الأمر تبرهن على أن العرب والأرمن قد تعرضوا للمعاناة والفظائع ذاتها. نعود إلى ما نشرته المستقبل من معلومات حول تعداد الأرمن المهجرين أو المقتولين. فنقرأ في العدد 13 تاريخ 20/5/1916 أن أخبار حلب الواردة من مصادر يوثق بصحتها أفادت أن 492 ألف نسمة من الأرمن وصلوا إلى جهات حلب والشام والموصل ودير الزور في أوائل شهر كانون الثاني من هذه السنة ومعظم هؤلاء من النساء والأطفال والعجز. ويؤكد الخبر أنهم قد عدموا جميعاً وسائل القوت واللباس وفتكت بهم الأمراض القاتلة. ويكتب صاحب المقال عما سمعه حول قتل الأرمن: “ويقول طلعت بك رسمياً إنه أبعد 800 ألف أرمني عن مساكنهم وبلادهم وقتل 300 ألف”. إلا أنه ينهي المقالة معلقاً بأن الحقيقة هي “أن عدد المبعدين بلغ مليوناً ومائتي ألف والمقتولين 500 ألفاً”. ونأتي إلى بحث اجتماعي سياسي أجرته المستقبل في العدد 30 تاريخ 22/9/1916، وفيه يشير صاحب المقال إلى فكرة أن الأتراك بحدودهم الطورانية يودون استئصال شأفة العرب، وأنهم يظلون أهل الخراب والدمار. وحسب البحث الاجتماعي السياسي يذكر أن مجموع عدد سكان ولايات الأناضول من جميع العناصر والأديان ويكثر فيها العنصر التركي هو 10.053.097 نسمة. ثم يذكر عدد السكان في ولايات أرمينيا التركية. ويعدد صاحب المقال تلك الولايات حسب إحصاء رسمي: أرضروم 1871071 نسمة – بتليس 410079 – طرابزون 1084374 – وان 285947 – أورفة 154961 – ديار بكر 424760 – أطنة 488954. ويحسب المجموع 3630173 نسمة. فيكون مجموع عدد سكان الولايات الآسيوية كلها 13.683.270 نسمة. وفي الحديث حول عدد العناصر التي تسكن تلك البقعة الشرقية كما سماها والأقليات وتعدادهم تستنتج الجريدة أن الأرمن لا يزيدون عن مليون ونصف مليون نسمة وهم يسكنون الولايات الأرمنية ويذكر أعدادهم على النحو التالي: أرضروم 180 ألف – طرابزون 80 ألف – ديار بكر 158 ألف – أطنة 120 ألف – سيواس 180 ألف – أنقرة 110 ألف – الأستانة 90 ألف – معمورة العزيزية 90 ألف – قونية 25 ألف – وان 150 ألف – بتليس 220 ألف. فيكون مجموع ذلك مليون و400 ألف نسمة. وأما الأرمن الباقون فهم مفرقون في الولايات العثمانية الأخرى كحلب وأدرنة وغيرها. وأهم ما تذكره الجريدة هو إحصاء الحكومة الرسمية الذي يبين توزع الأرمن في العالم وأعدادهم في ذلك العام. وهو على الشكل الآتي: 1460000 في تركية آسيا، 250000 في تركية أوروبا، 1500000 في أرمينيا الروسية، 150000 في أرمينيا الفارسية، 50000 في مصر أميركا وغيرها. مما يؤكد تواجد 3.410.000 أرمني في حينه. من خلال دراستنا للصحف السورية، يجب القول إن معاناة الشعب الأرمني قد لاقت صداها حتى في صحف المهجر السورية التي وصفت بإسهاب مشاهد التهجير والمذابح، وهذا برهان لا جدال فيه على أن الفظائع غير الإنسانية تشكل قسماً من أول إبادة مدبرة في القرن العشرين. هذا ما تحدث عنه الصحفي أحمد الداري في العدد 25 تاريخ 18/8/1916 في مقالة مطولة له بعنوان “تركيا والمسألة الأرمنية”، حيث يصف الدولة التركية على أنها مستمرة في سلب حقوق العناصر التي تحكمها “وقد ذاق الأرمن من هذه السياسة المعوجة ما لم تذقه أمة”. ويتساءل الكاتب عما فعلته الأمة الأرمنية لتستحق هذه المعاملة القاسية والظالمة والوحشية. ويرجع السبب إلى أن ذكاء الأرمن ونشاطهم وأعمالهم قد حال دون تنفيذ رغائب الأتراك التخريبية. بل بالعكس فقد صدت الحكومة التركية الأرمن نيل حقوقهم، ثم ينتقل إلى موضوع الإصلاحات التي صارت آفة بدل من أن تكون نعمة على الشعب الأرمني. ويفسر أحمد الداري أن الإصلاحات كانت ستعود بالفائدة على الأرمن مما يتعارض مع مصالح تركيا وألمانيا، حيث أن مصالح تركيا تتفق مع مصالح ألمانيا في التنكيل بالأرمن فقد أضحوا عقبة في طريقهم لذلك أرادوا أن يزيلوه، وبرأيه هذا ما يجعل الإنسانية تقبح عملهم وجريمتهم. وينهي مقالته متوجهاً إلى القراء بالأسطر التالية: “هذه هي الحقيقة بسطناها أمام القراء ليعلموا اليد المجرمة التي فتكت بالأرمن واليد الدافعة التي دفعت إلى ارتكاب الجرم، لذلك يستقبل العالم انتصار الحلفاء كنعمة تصيب العدل بالإنسانية والأمم الضعيفة..”. ومن الأمور اللافتة للنظر في المستقبل تخصيص مكان كبير لأخبار إبادة الأرمن. ويعتبر الباب “أقوال الصحف الكبرى” من الأبواب الدائمة في جريدة المستقبل، ونجد في العدد 46 تاريخ 18/5/1917 عنوان “شهادة ألمانيا في الفظائع الأرمنية” لمقالة مثيرة تحكي عن كتاب نشر في جريدة سويسرية أرسله معلمو المدرسة الألمانية في حلب. ويتحدث الكتاب حول آلاف التلاميذ الذين تعرضوا للموت وحول معاناة النساء وحول العراقيل والتهديدات المقدمة ضد الألمان الذين رغبوا في تصوير الأرمن المسوقين. فتختم الجريدة بالسطور التالية وهي مستاءة من الكتاب نفسه. “فهذا الكتاب يظهر أنه لا يزال في العالم بعض الألمان الذين لم تنتقل إليهم عدوى القسوة والهمجية والفظاعة التي استحكم داؤها الأمة الألمانيةَ… الظاهر أن هؤلاء الشهود لم يكونوا عارفين لما أرسلوا كتابهم هذا إلى وزارة الخارجية أن الفظائع كانت تقترف بموافقة الحكومة الألمانية ورضاها…”. أما النص التالي “تركيا والعرب” في العدد 68 تاريخ 9/7/1917 وهو بتوقيع الصحفي المعروف علي الغاياتي فيمثل لنا علاقة العرب بالأتراك وطريقة تفكير العرب واهتمامهم بمواضيع الأرمن واستنتاجهم لسياسة الأتراك، إذ يقول: “اتصل بنا من مصدر يروى بسند عال عن جمعية “الاتحاد والترقي” أن حكومةَ الأستانة بعد أن رأت أن ما أنزلَته بالأرمن من الويلات والبلايا لم يقض القضاء المبرم على الشعب الأرمني كما كانت تروم وبعد أن بدا لها أنه لا يمكن لها أن تميت أمة بأسرها مادام فرد واحد من أفرادها يتمتع بالحياة في أية أرض كانت. رجعت على نفسها باللائمة فيما صنعته مع العرب، وأيقنت أنها لن تنال منهم منالاً بالرغم من مشانق جمال ومجاعاته وأوبائه التي منيت بها سورية ورزئ بها الشعب العربي الكريم… وقد هداها البحث الطويل والدرس العميق إلى الرغبة في منح العنصر العربي كل حقوقِ الاستقلال الداخلي… فالأستانة تشعر بعجزها عن مقاومة الحركة العربية…”. نستدل من ذلك، أن الصحفي الغاياتي كان قد توقع ومنذ عام 1917 الوجه الحقيقي للأتراك. لقد أدرك تماماً أن الاتحاديين قد خططوا ودبروا الكابوس الأرمني، الذي يمكن أن يذهب ضحيته العرب أيضاً. ويتحدث الصحفي الغاياتي ذاته في العدد 94 تاريخ 10/2/1918 وتحت عنوان “طلعت باشا والأرمن” حول رأي طلعت باشا في المسألة الأرمنية أبداه خلال مؤتمر الاتحاديين. فيقول ناقداً “… ما دعانا إلى عرضه هنا على أنظار العالمِ العربي الحر، ليشاطرنا الدهشة من وقاحة “الصدر الأعظم” واستخفافه ويحتج معنا على محاولة الرجل تبرير حكومته المجرمة، وإيقاع الملامة على ضحايا بغيها من الأرمن أنفسِهم …”. ويختم علي الغاياتي مقالته قائلاً: “هذا ما يقوله طلعت باشا مبرراً به سلوك حكومتي الاستبداد والحرية – كما يقول – مع الأرمن، ومعتذراً بذلك عن ظلمهم وسفك دمائهم. وهو مع كل هذا لا يخجل من تلقيب نفسه وجماعته بلقب “الأحرار” ولا من ذكر “الحرية” التي أنقذوها قبل أن “تخنق في مهدها” حسب ما يدعي. والأعجب في ذلك هو اعترافه بأنه قد حدث من الجندرمة ما أخل بنظامِ “نقل” الأرمن إلى “خارج منطقة الحرب” وتصريحه بأن الحكومة عاقبت من أساء”. يربط الغاياتي حديث طلعت باشا بأفعاله ليرى في النهاية أن التناقض موجود في إدعائه للحرية وسياسة الاستبداد وسفك الدماء التي يتبعها ضد الشعب الأرمني، ويطلب من العرب الاحتجاج على حكومة الأتراك التي تبرر وتعتذر للجرائم التي ارتكبتها بحق الأرمن. ومن جهة أخرى يأتي حقي العظم ليحلل خطة الطورانية وخطرها من خلال حوار بين القنصل الألماني ونوبار باشا في العدد 103 تاريخ 10/5/1918 فيقول: “ثم يجيء دورنا إذا بقيت سوريا تحت نير تركيا الثقيل فينال السوريون نصيباً آخر من القتل والشنق والتعذيب بمقياس كبير جداً. وسوف تكون المذابح في بلادنا أشد هولاً من المذابح الأرمنية…”. فها هو رجل السياسة المعروف حقي العظم يحذر العرب من خطر الأتراك ويشجعهم على الاستقلال من نيرهم. ويتابع حقي العظم كتاباته التشجيعية ويقول في مقال له نشر في العدد 115 تاريخ 30/9/1918 بعنوان مثير “ما أعظم الفرق بيننا وبينهم” حيث يتحدث عن الاجتماع الذي عقد لدراسة سبل تحسين أحوال سوريا في المستقبل ويتوقف حقي العظم عند كلمة المندوب الأرمني نوبار باشا حيث يحث الأخير العرب على التكاتف والوفاق كما يفعل الأرمن. فيقول حقي العظم: “… هذا قول صدر من رجل ينتسب إلى شعب نشيط حي لا يدع الفرص تفوته ولا يتمسك إلا بالجوهر… لم يكتف هذا الرجل بوقف حياته على تحسين أحوال الأرمن في مصر مثلاً حيث له أيادٍ بيضاء على الجمعيات الأرمنية من خيرية وسياسية وعلى البائسين والمعوزين أو المهاجرين من أبناءِ شعبِه.. لم يكتف بوغوص نوبار باشا بهذه المكرمات بل شد الرحال إلى أوربا بعد نشوب نيران الحرب ملبياً صوت ضميره ونداء شعبه ليسعى وراء ما فيه الخير لبلاده الأصلية… هكذا يكون حب الأوطان!”. وبعد ذلك يقارن صاحب المقالة بين دوافع الأرمن في مساعدة بعضهم البعض وما على العرب أن يفعله. ويختم مقالته بالقول: “هكذا كانت نظرية صاحبنا وهكذا كان جوابه. وقد ذكرني ذلك بالوسائل التي كان الأرمن يتخذونها فيما مضى للحصول على النقود من بعض أغنيائهم البخلاء على أوطانهم وشعبهم. فما أعظم الفرق بيننا وبينهم!..” . لقد اهتمت الصحيفة بقضايا الأرمن ومصيرهم، ويبدو أن رجال الفكر السوريين أرادوا الاستفادة من تجربة الأرمن وكيفية مجابهتهم للأمور. وفي المقالة المذكورة يشجع حقي العظم العرب بالتمثل بالأرمن لمساعدة بعضهم البعض. يبدو للكثيرين أنه بعد عام 1915 لم تحصل أية حوادث ذبح أو قتل، لكن مقالات جريدة المستقبل تثبت العكس. ففي العدد 124 تاريخ 17/1/1919 يكتب علي الغاياتي بعنوان “أخبار الدولة التركية” عن زوج أخت أنور باشا قائلاً: “… وقد انتهز فرصة وجوده على رأسِ هذه الولاية ليغتني ويجور على من بقي من الأرمن حتى إنه أمات عدة آلاف منهم رمياً “بالمترلييز”. وأمعن على الخصوص في نهب الأسر السورية المنفية بداخل الأناضول. وقد سطا على ما يملكه الأرمن. وأوعز بذلك إلى أعوانه فوضعوا النار في منزل هناك كانت به مستندات تدل على الحقيقة. وقد أصاب الأرمن فوق ما أصابهم بالأناضول كثير من البلاء والشقاء بالأستانة نفسها حتى أنهم كانوا يساقون بلا جرم ولا إثم إلى سجن المجلس العسكري بها. وهناك كانت تخلع أظافرهم بأمر مدير البوليس العام بدري بك. وعينوا قهوجياً ايرانياً ذبح الكثيرين من الأرمن واليونان بسجن إدارة البوليس”. تؤكد المقالة على أن الأرمن كانوا يعانون الويل في الأستانة والأناضول على السواء. فحتى في عام 1919، كانت وسائل التعذيب المبتكرة تنفذ بحقهم عدا عن النهب الذي كانوا يتعرضون إليه مع العرب. لقد تأثرت صحافة المهجر السورية بالأحداث والتيارات السياسية في سوريا. وبناء على حديث مكاتب المستقبل المتمثل بالصحفي علي الغاياتي مع الأمير شكيب أرسلان في جنيف نشرت الجريدة الحديث في أعداد متتالية. وحول سؤال عن العناصر الأرمنية أجاب الأمير أرسلان في العدد 134 تاريخ 20/5/1919 بأن الأرمن أصبحوا موجودين في كل ولاية، واقترح بإعطائهم مملكة مستقلة من الأراضي الروسية والعثمانية في جنوبي القوقاز، وبذلك يبلغ عددهم مليونين نسمة إلى ثلاثة وينتهي التشويش واللغط الحاصل في مسألة الذبح بين المسلمين والأرمن – كما أشار شكيب أرسلان. وعن مشروع مبادلة أملاك المبعدين السوريين يرى الأمير في العدد 137 تاريخ 20/6/1919 أن قانون المبادلة يقصد به الأرمن الذين يريدون مبادلة أملاكهم بأملاك في الأماكن الجديدة التي استوطنوا فيها. وفي الأعداد المتلاحقة التي نشرت الحديث بأكمله، كان الحديث يدور حول سياسة الاتحاديين وتحالفهم مع الألمان، وكذلك حول معارضة روسيا في دخول إنكلترا في الولايات الأرمنية من أجل الإصلاحات. نرى مما سبق أنه كان للمفكرين العرب دور كبير في عملية إنشاء الصحافة وتطويرها في المهجر. وكان أمام الصحافة في المهجر مسائل وطنية والتي بسببها تعطلت وتمت ملاحقتها. وتأتي مقالات المستقبل لتشهد على أن الصحافة السورية ورجالاتها، كانت لهم نظرة جدية بالنسبة لأحداث المعاناة التي تعرض لها الشعب الأرمني. وننتقل الى جريدة أخرى في المهجر وهي جريدة القلم الحديدي التي أصدرها الصحفي المرموق جورج حداد من سان باولو عام 1913. كانت ترويسة الجريدة تحتوي على الجملة التالية: “جريدة أنشئت لإطلاق حرية الفكر وتحطيمِ الخرافات والجهل”. وفي أعدادها جميعاً نلاحظ أن الباب الدائم “طاولة التحرير” كان يتضمن مقالات تحليلية نقدية حيث كان يتطرق من خلاله إلى أحوال الأرمن. فيستغرب صاحب المقال في العدد 30 تاريخ 15/9/1914 على أن سفير الدولة العثمانية في نيويورك أقر رسمياً بوجود مذابح، ذبح فيها بعض الأرمن والمارونيين في المملكة. وكتبت الجريدة عن سياسة التتريك التي اتبعها الاتحاديون في العدد 33 تاريخ 15/10/1914 ما يلي: “يتساءل الناس إزاء مصائب سوريا الآن… الأتراك الأحرار لا يطيقون ذكر اسم عربي وأرمني وكردي ، بل يريدون تتريك وسحق هذه العناصر من البلاد…”. إنه انتقاد واضح للواقع الذي كانت الأقليات تعيش فيه في ظل الإمبراطورية العثمانية ودليل على إدراك سياسة التتريك المتبعة بحقهم. وتصدرت إحدى صفحات العدد 54 تاريخ 3/8/1915 من الصحيفة صورة نادرة حيث كتب في أسفلها: “هذه الصورة الفوتوغرافية تمثل قسماً من ساحة الذبح في القرية التي كان فيها المراسل الأمريكي حيث ترى جثث رجال ونساء مقطعة تقطيعاً فظيعاً وصار من الصعب تمييزها وهي كما ترى رؤوس بلا أبدان وأبدان بلا رؤوس وقطع أجساد مبعثرة هنا وهناك. والخيالة الواقفون بأفراسهم هم خيالة الروس الذين لسوء حظ هؤلاء التعساء وصلوا متأخرين إلى القرية أي بعد المذبحة المريعة كما ترى في الرسم”. وقد جاء إلى جانبها وتحت عنوان “مذابح الأرمن” ما يلي: “مقدمة بقلم التحرير. كان بودنا أن لا ننشر ما سننشره هنا من وصف وتصوير هذه المذابح المحزنة لعدة أسباب أهمها هو أن هذا الوصف يثير الأشجان حزناً وأسفاً.. ومن جهة أخرى فإن كثيرين من المواطنين يعودون حين مطالعة وصف هذه المذابح إلى ذكرى مذابح سوريا القديمة التي تعد بجانب هذه المذابح التي سنذكرها هنا لعبة أولاد. نقول إن الجهل والغباوة مع مزج التعصب الديني هما السبب الوحيد لكل هذه الويلات التي يخطها التاريخ … ومثل هذه المذابح التي ستطالعون عنها الآن ما تقشعر منه الأبدان ويدمي له قلب الإنسانية والتمدن حزناً وأسفاً …”. ومن ثم تنقل الصحيفة رسالة القنصل الأمريكي هربرت حيث يصف الحالة الفظيعة للجثث. لم تكتف الجريدة بنقل الحدث بل ختمت المقالة بتحليل لأسباب الأحداث. فهي ترى أن الجهل والتعصب هما من الأسباب الرئيسية التي أدت إلى مذابح الأرمن وإبادتهم، وفي نفس الوقت أدت إلى حزن الإنسانية جمعاء. على أي حال، كانت القلم الحديدي تتساءل في مقالاتها عن مسبب الحزن في سوريا والعراق وأرمينيا والأناضول، وتلمح وتشير إلى الدولة العثمانية كونها المستعمرة من نسل جنكيز خان المغولي التركي في العدد 55 تاريخ 15/9/1915، وتستنكر المذابح التي حصلت للمسلمين في دمشق وعمليات الشنق التي أجروها بحق أبناء الوطن من زعماء العرب، ولذلك تحذر المواطنين المسلمين العرب من التركي وتنعته بالكافر وبلا ضمير لأنه يكره العرب والمسلمين والنبي العربي وقرآنه العظيم (العدد 60 تاريخ 1/12/1915). حاولت جريدة القلم الحديدي الصادرة في سان باولو إبراز كراهية الأتراك نحو العرب وبشكل عام نحو المسلمين. وكان كتاب مقالاتها يرجئون ذلك إلى انحدار الأتراك من جيل جنكيز خان والمغول. وتوضح الجريدة أنه يجب الحذر من الأتراك لأنهم يسببون الألم وينشرون الرعب في سوريا وأرمينيا وغيرها. لقد عانى الشعب العربي السوري الكثير من المجاعة وذاق طعم الحرمان، وجابه تجارب من اضطهادات أخرى نظمت من قبل الاتحاديين. مقالة بعنوان “الجوع في الممالك المحروسة” في العدد 72 بتاريخ 1/6/1916 تشرح لنا الظروف المحيطة في البلاد وسياسة تجويع نفذها الأتراك بحق 80 ألف سوري ولبناني. وتستدرك الصحيفة: “أما سياسة الأتراك هذه فهي من أهول وأفظع ما جال بفكر الإنسانِ منذ الخليقة للآن وهذه السياسة هي مبنية على إهلاك كل العناصر التي لا تتكلم اللغة التركية إهلاكاً تاماً بقطع النظر عن دينِ هذه العناصر فقد بدؤوا بإهلاك الأرمن عن بكرة أبيهم وأتبعوهم باليونان… ثم حولوا وجههم نحو سوريا العربية ليعملوا بأهلها ذات العمل لكن بطريقة أخرى وهي غير طريقة إفناء الأرمن أي بواسطة الموت البطيء أو الموت “الأبيض” وهو الموت جوعاً…”. هنا إشارة واضحة إلى وعي الصحفيين السوريين إلى سياسة الأتراك المتبعة واسلوب تعاملهم مع الأقليات، والقدر الذي ينتظر العرب. وفي نفس الوقت تفهمهم للواقع الأليم الذي تعرض إليه الأرمن. وفي نفس العدد تتساءل القلم الحديدي عن مكمن الحقيقة والسبب الذي جعل رعايا الدولة يبتعدون عنها، وتجد الإجابة في الأتراك أنفسهم وأنهم أساؤوا إلى الشعوب وخصوصاً بعد مذابح وأهوال أرمينيا. وتؤكد الجريدة أن العالم المتمدن والتاريخ يشجبون مذابح الأرمن، وبذلك تكون قد شملت معاناة الأرمن بمعاناة الإنسانية جمعاء. وهنا بعضاً مما جاء في رسالة نقدية موجهة إلى أنور باشا في مقالة بعنوان “خطاب عربي ووطني إلى أنور باشا التركي” في العدد 76 تاريخ 31/6/1916: “أي أنورنا العزيز.. هل لم تزل تحلم بنابليون الكبير وتتقلده أيها التركي الحقير؟.. قل لنا أيها الفارس المغوار والبطل الكرار. قل لنا بالله عليك كيف رأيت ملامس أعناقِ الأطفال والنساء تحت مضارب سيفك الصقيل الذي سنـّته لتفتح به روسيا وبلاد القوقاس ففتحت به عروق أبناء بلادك المساكين… إنك رجعت مكسوراً من معركة صاري كاميش وحسامك لم يزل أبيض كما كان فأحببت أن تراه أحمر يقطر دماً ولكن بمن؟ إننا نخجل أن نقول أين تلوث هذا الحسام وبدم من تدشن سيف “نابليون”! فاتح القوقاس ومصر إنه تدشن بدماء نساء وأطفال أرمينيا!! فكل ما كان الروس يزيدون قتلاً بجيشك كنت أنت تزيد قتلاً بالنساء والأطفال..”. ليس من الصعب معرفة مغزى الخطاب الوطني هذا، إذ جرد أنور باشا من أقنعته وظهر دون قناع أمام العرب، وظهر بوحشيته وحسامه المدش بدماء النساء والأطفال الأرمن. فنجد أن السوريين في المهجر كانوا على إطلاع تام بما يجري في البلاد وكان لهم موقفهم من أفعال الحكام الأتراك. والأهم أنهم كانوا على دراية بماهية الأتراك. ففي العدد 105 تاريخ 16/10/1917 نجد صاحب القلم الحديدي في مقالته “جريمة الأتراك العظيمة” يفسر فظائعهم ويعود بها إلى هولاكو التتري ويعتبر “أن الأتراك حين يفتحون بِلاد غيرهم يرجعون بتمدن تلك الشعوب آلاف السنين إلى الوراء، فهم يخربون المدن، ولا يتركون في البلاد التي اقتحموها أثراً من آثارهم يدل على علومهم”. وتتابع الجريدة في عددها 120 تاريخ 1/6/1918 فتنتقد النظام الألماني وعبيدها الأتراك تحت عنوان “نظامات غربية في القرن العشرين” وتضيف: “كما هي عادة هؤلاء الألمانيين وحلفائهم، ويظهر بربريتهم للعالم المتمدن يعدونه كذباً فمذابح الأرمن عندهم كذب، وقتل أهالي سوريا جوعاً كذب..”. يفهم مما ورد أن الجريدة استطاعت بقلمها الحديدي أن تصف الحالة المتردية المتشابهة التي يعيش فيها العرب والأرمن على السواء، وإن كان هناك فارق في عملية التعذيب. ومن الصحف الملفتة للنظر في المهجر صحيفة الأفكار الصادرة في سان باولو عام 1903، حيث نجد فيها وثائق ومعلومات فياضة حول الإبادة الأرمنية. عرفت الأفكار بكونها “مستقلة لها عناية خاصة بالشؤون الشرقية” وكانت تصدر مرتين في الأسبوع. وكان رئيس تحريرها الدكتور سعيد أبو جمرة، الشخصية المعروفة في عالمِ الطب والصحافة وكان عضواً في المجمع العلمي في دمشق . عاشت الأفكار فترة طويلة في البرازيل. فنجد في أعدادها لعام 1918 مقالات تفوق الثلاثين تتحدث عن تفاصيل إبادة الأرمن وتحليلات حولها، نقرؤها في الباب الدائم والمشهور في الجريدة “أخبار سوريا ولبنان وفلسطين” وكذلك في الافتتاحيات. كما ذكرنا، شغل الأرمن مكاناً خاصاً في الصحافة السورية. وها هي الأفكار تظهر إلى النور تفاصيل حول أوامر اتخذت من أجل عملية تهجير الأرمن وإبادتهم من قبل الاتحاديين الأتراك التي دامت فترة طويلة. ورد في العدد 1194 تاريخ 2/1/1918 وتحت عنوان “الأرمن في سوريا” ما يلي: “يؤخذ من الأخبار الحديثة الواردة من سوريا أن الحكومة العثمانية أمرت ولاية حلب بِجمع الأرمن الذين لجؤوا إلى تلك الولاية والذين كانوا فيها قبل الحرب وإرسالهم إلى الداخلية كما فعلت بالأرمن في الولايات الأخرى”. ويتساءل كاتب المقالة عن المكان الذي تقرر نقلهم إليه، وقد ولد هذا القرار إرباكاً لدى الصحافة إن كان يخص بولاية حلب أو يعم الولايات الأخرى السورية التي لجأ إليها عشرات الألوف من أرمن ولاية الأناضول. مما يؤكد تقبل السوريين لواقع تواجد آلاف الأرمن المهجرين من الأناضول على أراضيهم من جهة، ومن جهة أخرى استمرار أوامر إزاحة الأرمن وترحيلهم جبرياً بقصد إفنائهم في صحراء سوريا. انطلاقاً من حقيقة أن الأقليات العرقية تعيش مع بعضها في الإمبراطورية العثمانية، كانت الأفكار تدعو العرب والأرمن واليهود ليكونوا مع بعض بوئام ويطالبوا بالحرية. لقد تطرقت الأفكار في صفحاتها إلى الدور السلبي الذي تلعبه ألمانيا وإلى أن إبادة الأرمن كانت تتم بعلمها وبتحريض منها. وحسب ما تناقلته الجريدة بين صفحاتها أن روسيا قد طلبت بإلحاح من ألمانيا بالتدخل لإيقاف تلك المذابح وعملية إبادة الأرمن (العدد 1239 تاريخ 15/6/1918). عديدة هي المقالات المكتوبة حول تفاصيل معاناة الأرمن وعذابهم أثناء ترحيلهم من ديارهم بعد أن حكم عليهم بالموت جوعاً. ونستدل من الصحيفة على أن قسماً من الأرمن قد اتجهوا نحو فلسطين. وقد أجرت الصحيفة مقارنات بين معاناة الأرمن والعرب الذين واجهوا معاناة مشابهة. أما النص التالي في العدد 1206 تاريخ 16/2/1918 فيعطي فكرة عن تعداد الأرمن: “عدد الشعوب التي كانت تحكمها تركيا قبل الحرب تقدر بـ 21 مليوناً منهم 7 ملايين من الترك و9 من العرب ومليون ونصف من الأرمن ونصف من الأروام والأكراد وما بقي من اليهود وغيرهم. على أن هذا العدد قد هبط كثيراً بعد الحرب الحاضرة بسبب هذه الحرب والجوع والأوبئة التي حدثت في البلاد العثمانية في السنوات الأخيرة”. نلاحظ أن سعيد أبو جمرة قد سجل في العديد من مقالاته رأيه حول سياسة التتريك الطورانية وكذلك موقفه ضد مخططات الاتحاديين في نفي العناصر غير المسلمة الذي أشعل بين المسلمين مشاعر الحقد والعدوانية ضد الأرمن. ويستشهد بقرار الاتحاد والترقي عام 1911 والذي يعطي غير المسلمين بموجبه حرية الحفاظ على الدين واللغة. وفي افتتاحية العدد 1212 تاريخ 9/3/1918 يشار إلى شروط الصلح بين روسيا وألمانيا بعودة أرمينيا كلها إلى الحكمِ العثماني وهكذا سوف تعود سياسة الإفناء إلى ما كانت عليه حال نشوب الحرب الحاضرة. حسب ما أوردته الأفكار أن حلفاء تركيا أي الألمان قد ساعدوا الأتراك في تنفيذ خطة إفناء غير المسلمين والدليل على ذلك معاملة الجنود غير الأتراك في الجيش العثماني التي تشبه معاملة العبيد (العدد 1214 تاريخ 16/3/1918). يعترف كاتب تركي في مقالة له بعنوان “شؤون شرقية – بعض الأخطار التي يتوقّعها العرب” صدرت في العدد 1215 تاريخ 20/3/1918 أن “الظلم الحاضر قائم على أساس منظم… اقترح المحرضون على هذه السياسة أمرين للحصول على أغراضهم وهما المذابح والمنافي… وأول تجربة جربوها كانت في الأمة الأرمنية”. ويتابع صاحب المقالة ويتحدث حول المذابح في أنقرة “عندما كان الترك يطهرون أنقرة من أرجاسِ الأرمن”. لكن تلك الأرجاس أي الأرمن لم تكن تطلب إلا حقّها الطبيعي في الحياة. أما ما يتصل بالأرمن المنفيين فيصف الكاتب التركي كيف كان الأرمن يمشون طريقهم حسب الأوامر المشددة “وكانت فرقة من المجرمين والأوباش تنتظرهم عند أول عطفة من طريقهم إلى المنفى بالفؤوس فانقضوا عليهم وقطعوهم إرباً إرباً”. ونجد في المقالة نفسها وصفاً لقدر الأطفال الأرمن حيث وزعوهم ضمن العائلات التركية ليفسدوا عليهم لغتهم وجنسيتهم. ويختم الكاتب بتحذير العرب من مغبة الوقوع في نفس القَدر ويدعو إلى تذكر ما حصل للأرمنِ دائماً. ونلاحظ أن الأفكار قد حوت على شهادات قدمها شاهدو عيان عرب. وحمل العدد 1219 تاريخ 25/3/1918 شهادة أحد شاهدي العيان من بغداد بعنوان “فظائع الترك في أرمينيا” حيث يحكي ما رآه: “أخرج الترك ثماني مائة عائلة أرمنية من قره حصار أغرقوا نصفها بانقلاب الزوارق في نهر الفرات… لما وصل بهم الجندرمة إلى مسافة تسعة أميال من المدينة ابتدأت المذبحة بالعصي والحجارة وقليل جداً من العيارات النارية الرحيمة ونقول رحيمة لأن الموت بها أقل آلاماً من الأدوات الأخرى…”. ومن ثم يأتي على وصف صورة الجثث الطافية على وجه النهر. تكتب الجريدة على لسان الراوي: “رأس العين، لا يجوز ارتكاب المذابح فيها على الطراز القديم ولكن لا مانع من موت النساء والأولاد جوعاً”. وفي شهادته هذه تبرز عدم مبالاة الجنود الألمان من مذابح الأرمن مما يثبت مشاركة الألمان فيها. “كان الضباط الألمان في حلب ورأس العين يسيرون جنباً إلى جنب مع هؤلاء الأشباح أشباح الجوع والقتل والموت ولم يحركوا إصبعاً ولا لفظوا كلمة بل كانت كلمة السر عندهم ” ليس من اللائق أن نتدخل.. “. وتختم الجريدة برواية أخرى من مصدر آخر بقولها إن “التركي فني ماهر في صناعة التعذيب”، ويأتي صاحب المصدر بمثال على ذلك “كان الحراس يضربون الجمهور المنهوك القوى من الإعياء رجالاً ونساء وأولاداً ويبعدونهم عن القطار ثم يفتحون الحنفيات ويطلقون الماء الثمين في الرمل المحرق أمام أعين أولئك الألوف المساكين الذين يموتون احتياجاً إليه”. وتذكر الأفكار بكل جرأة أنها نشرت هذه المقالة ليطلع العالم المتمدن على هول الفظائع التي ارتكبها الترك فيحكم عليها بما يستحقون. تعلق الأفكار في عددها 1225 تاريخ 27/4/1918 على كتاب مذابح أرمينيا الصادر لكاتب ألماني يبرز ذنب ألمانيا في البقاء صامتة تجاه مذابح الأرمن. برأي المؤلف فإن أسباب المذابح ليست دينية إنما هي نتيجة التعصب التركي. ومن جهتها تعقب الأفكار على ذلك بالأسطر التالية: “وخلاصة القول إن المذابح الأرمنية قد حصلت بمشاركة ألمانيا كما يقول هذا الكاتب الألماني لأنها كانت قادرة على منعها أو إيقافها عند حد معلوم ولكن المصلحةَ قد حالت دون تدخلها في ذلك”. أما فيما يتعلق بمعاملة غير المسلمين فتؤكد الصحيفة أن الخدمة في الجيش العثماني بالنسبة للجنود الأرمن تعتبر اسلوبأ آخراً تعمدته الحكومة العثمانية لإفناء الأرمن، لأنهم كانوا يرغمونهم على المشي في صحراء سيناء جائعين وحفاة (العدد 1239 تاريخ 15/6/1918). وتتابع الجريدة وصفها للأرمن الناجين في عددها 1239 تاريخ 15/6/1918 وتكتب تحت عنوان “ألف وخمسمائة أرمني ينجون من أيدي الأتراك” قائلة: “في برقية من القدس لشركة الصحافة المتحدة أن الإنكليز وجدوا في أريحا 1500 أرمني وهم البقية الباقية من ألوف المنفيين الذين ذهبوا ضحية سياسة التتريك. وقد كان هؤلاء المساكين الذين جاءت بهم الحكومة العثمانية من أدنة ومرعش وعنتاب وكساب يقطعون الأحجار ويرصفون الطرق للجيش التركي ويكافأون على ذلك بالموت جوعاً…”. من الملاحظ أن صحفيي المهجر أيضاً قد أدركوا أن النفي كان نتيجة لسياسة التتريك المتبعة. أما في الوطن فلا ننسى أن الكثيرين من ممثلي العرب رفعوا أصواتهم عالياً تحت قبة مجلس المبعوثين وفي خارجه ضد سياسة التتريك التي يمارسها الحكام الاتحاديون، وكانوا يدعون إلى مكافحتهم بكل قوة . ومن المقالات الملفتة للنظر في الأفكار، مقالة بعنوان “سوريا والسوريين” في العدد 1241 تاريخ 22/6/1918، وفيها تكتب الأفكار أن عدد الأرمن اللاجئين إلى حلب لا يقل عن 250.000 شخص. وتنقل الخبر غير المنشور سابقاً “فقد طاردت الدولة التركية الظالمة أبناء الأمة الأرمنية وشتتت شملهم بعد أن ذبحت من وقع بيدها وهرب كثيرون منهم إلى صحراء سوريا وهناك لفهمِ البدو فأتوا بهم إلى حلب… وقد صرح مشايخ العرب للقناصل أنهم أنقذوا أولئك الأرمن إكراماً لله وخدمة للحكومة الأمريكية”. ويختم صاحب المقالة بطلب مباركة الله بالعرب حافظي الولاء والتي هي صفة من صفاتهم الحميدة. وهنا بدا واضحاً مساعدة المشايخ العربية للأرمن، الأمر الذي وضحته الصحافة السورية كوثيقة تاريخية. وقد ورد تحت باب “شؤون شرقية” في العدد 1244 تاريخ 6/7/1918 ما استخلصته جريدة الأفكار حول مسألة الأرمن، فكتب ما يلي: “ليس بين شعوب الأرض شعب قاسى من العذاب ما قاساه الأرمينيون… أن الحد المخيف الفظيع الذي وصلت إليه المذابح الأرمنية في آسيا الصغرى إبَّان الحرب الحاضرة لم يعرفه العموم حتى الآن ولكن سيعلم الأتراك أن ما فعلوه كان خطأ فاضحاً وجريمة كبرى لا تغتفر…”. ويعتبر تعليق المقالة المذكورة من الاعترافات الجلية بجريمة الأتراك التي تدين فظائعهم الممارسة ضد الشعب الأرمني. وحسب تحليل الجريدة يجب على الأرمن الاتكال على إنكلترا من بين دول الأحلاف لأنها تستطيع تحريرهم وتحرير سوريا أيضاً. وغالباً ما نلتقي في الباب الدائم “شؤون عربية” بمعلومات حول الأرمن. فتحت عنوان “بين العرب والأرمن” في العدد 1255 تاريخ 14/8/1918 نقرأ رسالة التهنئة موجهة من نوبار باشا إلى الأمير فيصل، وذلك لأن الأخير “قد خلص عدداً من الأرمن رجالاً ونساء وأطفالاً من صحراء سوريا”. حيث كان الأمير فيصل قد تلقى العديد من برقيات الشكر بهذه المناسبة. وقد أجابه ا

إعادة الأسماء الكردية لقرى دياربكر

الارمن العراقيون

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *