مسار الارمن في الحياة السياسية اللبنانية

د. فاديا كيوان * “القضية الارمنية في الفكر اللبناني” بيروت – 2000 24 نيسان هو اليوم الوطني الأرمني، الذي استعادت فيه الطائفة الأرمنية اللبنانية ذكريات مرة متصلة بالإبادة التي لحقت بالشعب الأرمني في العام 1915. هكذا تقاطعت الذكرى الخامسة والثمانون للإبادة مع الذكرى الخامسة والعشرين لانطلاق شرارة الحرب الأهلية في لبنان في 13 نيسان 1975، وهي أيضا ذكرى مرة يردد اللبنانيون جميعا في شأنها “تنذكر وما تنعاد”… وفي المحطتين الألم عينه يرافق إستعادة الحدث، وأعمال القتل والتعذيب والتشريد والتهجير تنقل صور كلا الحدثين. وإن كان الرابع والعشرون من نيسان 1915 هو تاريخ مجازر ارتكبت في حق الشعب الأرمني على يد شعب مجاور له لم تكن علاقاته به تتسم بحسن الجوار في أحيان كثيرة، فإن الشعب اللبناني إنقسم على نفسه واستل السكين مقابل السكين لمحاولة ذبح نفسه مع بداية الحرب اللبنانية في 13 نيسان 1975. وفيما يحاول اللبنانيون قراءة الحرب اللبنانية الأخيرة بحثا وراء العبر منها ومن ويلاتها، لا بد من أن تتجه أنظارهم، كذلك عاطفتهم، نحو الشعب الأرمني، وخصوصا الطائفة الأرمنية اللبنانية التي تشكلت في لبنان بعد تشريد الأرمن نتيجة مجارز عام 1915. واللافت في مسار الشعب الأرمني اللبناني أنه انخرط في الحياة اللبنانية من دون أن يدخل في نسيج نزاعاتها، وحاول دائما في الأزمات الحادة التي واجهها النظام اللبناني الا ينزلق في المحاور التي تؤجج الخلافات، بل حاول أن يكون عامل إعادة توازن واستقرار. واللافت خصوصا كان موقف الشعب الأرمني في مواجهة الحرب اللبنانية، تلك الحرب التي احتفلنا في الشهر الفائت بيوبيلهاالبرونزي… لا للحرب فمع أن الأرمن من متداخلون إلى حد كبير سكانيا في بعض المناطق التي شهدت نزاعات مسلحة، ومع أن اللبنانيين كانوا، وكذلك الفلسطينيين، على تماس، ومن ثم في حالة نزاع مسلح، فقد جهد الأرمن للبقاء خارج الصراع المسلح ودأبوا على ترداد تمسكهم بالثوابت اللبنانية وبالنظام اللبناني وبالصيغة اللبنانية، كذلك ببديهيات تعزيز سلطة الدولة على الأراضي اللبنانية وحفظ الأمن الشرعي، وقيام دولة القانون والمؤسسات، وتفعيل التنمية لتطاول أوسع الفئات والمناطق، وتحسين مستوى البنى التحتية ومستوى الخدمات العامة…وكانوا يصمّون آذانهم عن خطاب الحرب الذي كان يهدف إلى التعبئة والقتال طمعا بمكاسب سياسية أو حفاظا على مكاسب سياسية. وقد أثار موقفهم هذا الحيرة في نفوس اللبنانيين الآخرين الذين تباروا وراء المتاريس لتدمير قلب العاصمة والإنقضاض على مخازن الأسواق التجارية والعبث بمستودعات مرفأ بيروت، ثم لهدم ما استطاعت أن تطاله بنادقهم وأن يغطيه حقدهم الأعمى من مناطق وأحياء في المدن ومن قرى وبلدات ومنشآت مختلفة، مشددين في كل مرة على تدمير المنشآت العامة قبل سواها… لم يشارك الأرمن في الحرب، فاغتاظ منهم بعض اللبنانيين الآخرين، و”لم تسلم دائما الجرة”. أما اليوم، وبعدما توقفت الحرب في شبه تسوية وبدأت مرحلة الإعمار، فرأى اللبنانيون عظمة الكارثة التي أحلوها بوطنهم، وتراكمت الديون لعشرات السنين في مرحلة إعادة إعمار البنى التحتية، وما زالت البلاد تتعثر في إعادة اللحمة الوطنية وتعزيز سلطة الدولة وسيادة القانون وتلبية الحاجات الأساسية للشعب اللبناني، فإذا بالأنظار تعود فتتجه نحو الأرمن اللبنانيين، وهي أكثر تفهما لموقفهم المعادي للحرب في العام 1975. اليوم في إمكان الفئات المختلفة من اللبنانيين أن تتعاطف أكثر مع الأرمن في ذكرى المجازر، لأن الجميع اليوم يستعيدون ألما مشابها وإن في ظروف مختلفة. وما من بيت، وما من عائلة إلا وأصيبت بأفرادها أو بممتلكاتها ورزقها، أو بكل هذه الأمور معا. اليوم في إمكان مختلف الفئات من اللبنانيين أن تتفهم أكثر موقف الأرمن المتحفظ عن الحرب. فهم قد ذاقوا طعم القتل والتعذيب والتهجير، وبلغوا مستوى من النضج فرض عليهم البحث عن وسائل غير مكلفة لحل النزاعات وإتقاء شر الحروب، أيا كانت المكتسبات التي قد تعد بها. الشعب الأرمني اللبناني إعتنق قبل سواه عقيدة النظام اللبناني الآيلة إلى التوافق بين الجماعات والى مشاركة مختلف الفئات في الحياة العامة، بحيث لا يكون هناك مجال لتهميش فئة أو لأستئثار أخرى وهيمنتها. كذلك أبدى الأرمن اللبنانيون دائما تشبثهم بالطرق السلمية لحل النزاعات الناشئة. وتمسكهم بالشرعية اللبنانية دائما موقف مبدئي يعبر عن تثمينهم للكيان اللبناني الذي انتموا إليه وشاركوا في مؤسساته، واعتبروا الشرعية الدستورية في لبنان خطا أحمر لا يجوز أن يطاله أي نزاع ولا أي هجوم. قد يختلف اللبنانيون على آليات تشغيل الديموقراطية وعلى “حصصهم المختلفة” في المشاركة، لكن ما لا يجوز أن يطاله أي سجال هو ثوابت هذا النظام الديموقراطي القائم على الحريات والذي رافق لبنان منذ نشأته. ومن غير الجائز للمرء أن يقطع الغصن الذي يقف عليه… لكن ما فعله لبنانيون آخرون تقاذفوا التهم في مسؤولية إشعال الحرب، وقد شاركوا فيها من مواقف مختلفة طمعا بالربح على حساب خراب الوطن. اليوم في إمكان اللبنانيين أن يفهموا أكثر موقف الأرمن. فإذا ببعض من شارك في الحرب نادم على ذلك ومن لم يشارك في أعمال حربية مرتاح الضمير إلى أنه لم يساهم في ويلاتها وإن وقع ضحيتها كسواه. لكن هل وصل عدد من اللبنانيين إلى ترسيخ الإقتناع بوجوب العمل الدؤوب على استئصال كل فكر كلياني أو جامح أو طامع أو مستهتر بقدسية السلم الأهلي في لبنان؟… الحياة الحزبية وما دمنا نتحدث عن النضج السياسي، فلا يسعنا إلا أن نلفت إلى أن الأرمن، دون سواهم من اللبنانيين، انخرطوا في شكل إجمالي في الحياة السياسية الحزبية متجاوزين الولاءات التقليدية الأخرى. ففي الطائفة الأرمنية تحكم التوجهات السياسية خيارات المواطن، فيتوزعون مناصرين للأحزاب على اختلاف مشاربها، وليس أزلاما ومحاسيب وعائلات وعشائر ومذاهب… فتعيش الأحزاب الأرمنية حياة مؤسساتية تغيب عنها العباءات وتكثر فيها الإنتخابات على المستويات المختلفة. وقد عرفت القوى السياسية الأرمنية كيف تستوعب التداخل بين المواقف الإقتصادية والمالية والإجتماعية والنقابية والمهنية، وتجعل كل هذه المواقع تصب داخل المؤسسات. ففي الأحزاب الأرمنية نرى تثمير الطاقات الشخصية من دون الوقوع في الشخصائية والعائلية والمحسوبية. فالشعب الأرمني منظم سياسيا في إطار حزبي متعدد ومتنافس، وهو يقارب الحياة السياسية اللبنانية عبر مؤسسات تمثله وتشارك بإسمه في العمل الوطني. تكافل وتضامن أمر آخر لافت في مسار الشعب الأرمني في لبنان هو تضامنه بل حالة التكافل التي يعيش فيها، حيث أن الهيئات والجمعيات الأهلية متعددة وناشطة وفاعلة في الوسط الأرمني، كذلك المؤسسات الإجتماعية والإنسانية والتربوية والتي تعنى بالميادين الحياتية كلها. صحيح أن هذا التكافل الذي يميز الأرمن يعود في بعض جذوره إلى الضرورة الناشئة أصلا من حالة التشرد التي ضربت الأرمن ابان مجازر العام 1915، وقد نمت المؤسسات الإجتماعية والإنسانية وسواها في سياق تضميد جراح العائلات الناجية من تلك الإبادة والمثقلة بالجراح والمصائب. لكن بعض هذا التكافل يعود إلى أمر آخر لا يجوز للبنانيين الآخرين من غير الأرمن تجاهله، وهو إهمال المجتمع اللبناني للشعب الأرمني وإهمال الدولة على مر العهود للبنانيين الأرمن، وللمناطق التي يعيش فيها هؤلاء. قد يقال أن إهمال الدولة على مر العهود كان إهمالا عاما ولم يكن موجها ضد الأرمن خصوصا، بل كان لامبالاة – وهي أقل من الإهمال – ولامبالاة من الوسط تجاه الأطراف. والوسط هنا ليس جغرافيا، بقدر ما هو ايدولوجي سياسي وكذلك الأطراف والوسط ليس طائفيا وكذلك الأطراف في مفهوم الإهمال واللامبالاة. فاللامبالاة هي دون التمييز الطائفي. ويخطئ من يعتقد من اللبنانيين أن الوسط كان جبل لبنان والأطراف كان المحافظات الأربع، أو أن الوسط كان مسيحيا والأطراف مسلمة. فهذا الإدراك للوسط الجغرافي الطائفي ساذج وبسيط وغير دقيق. فالأرمن، لمن لا يتذكر – يدعون أنهم أول شعب اعتنق المسيحية في العام 301… والمناطق الأرمنية تقع في صلب الوسط الجغرافي، لكن حالها حال أطرافه من ضعف البنى التحتية – بل غيابها في بعض الأحيان – وانعدام الخدمات التربوية والإجتماعية – إلا ما ندر منها بمبادرات إستثنائية. وحال برج حمود مثلا، من الناحية العمرانية، شبيهة بالضاحية الجنوبية لبيروت، حيث تفتقد هذه المناطق وتلك، وهي مكتظة بالمواطنين، لأبسط البنى التحتية – من مجارير ومياه شفة وشروط سلامة صحية وطرقات وأبنية مدرسية لائقة… وحال الإهمال هذه لم تدفع الأرمن إلى الكفر بلبنان والى اللجوء إلى حالات عدائية تجاه الدولة فيه والنظام، بل تشبثوا بثوابته ودعوا الجميع إلى إعتماد الوسائل الديموقراطية لتسوية كل الخلافات ودعوا إلى الإلتفاف حول الدولة بدلا من الإلتفاف عليها. إضافة إلى الميزات الخاصة بالأرمن اللبنانيين، فهم قريبون جدا من اللبنانيين الآخرين في القيم الإجتماعية والعائلية السائدة، وهم اشتهروا تاريخيا بروح المبادرة وروح التجارة – ومن لا يتذكر مساهمة الأرمن في إزدهار أصفهان في بدايات القرن السابع عشر في عهد الشاه عباس الأول؟… كذلك فإن تاريخ الشعب الأرمني في أرمينيا التاريخية مثقل بالذكريات عن النزاعات المسلحة مع الجوار. لكن هذا الوعي الجماعي الأرمني لكلفة الحروب جعلهم يحملون معهم إلى لبنان، بعد مجازر 1915، رغبة جامحة في العيش بسلام مع غيرهم من الناس. وربما ساهمت هذه الذكريات في ثنيهم عن الإنجرار وراء النزاعات المسلحة بهدف الإستيلاء على حصة أكبر في السلطة، كما فعل لبنانيون آخرون من الفئات المختلفة. جاء موقف الأرمن اللبنانيين من الحرب في لبنان باردا ممانعا لها، باحثا عن تسوية وإلا عن الحوار. فكانوا جزءا من قلة في هذا البلد لم تعبث بمقوماته بحثا عن زيادة نفوذها أو للمحافظة على نفوذها، فساهموا مع هذه القلة في بقاء المقاومة المدنية لمنطق الحرب، وفي تثقيل المقومات الأهلية لوجود الكيان اللبناني في مواجهة العواصف التي هبت عليه منذ إندلاع الحوادث عام 1975. وفي ذكرى المجازر التي أصابتهم منذ خمسة وثمانين عاما، في محاذاة ذكريات الحرب اللبنانية الأليمة، يزيد تعاطفنا معهم وتقديرنا لعظمة التجربة التي مروا بها فاعتبروا. أما بعد، فأسئلة نطرحها على أنفسنا في مجال تعاملنا مع بعضنا بعضا في لبنان وفي تعامل النظام اللبناني والدولة مع المواطنين. ومنها سؤال أول عن سبب تهميش الأرمن في مختلف الميادين. وسؤال ثان عن كيفية تعامل الدولة على مر الأجيال والعهود مع حاجات المواطنين الأرمن وتطلعاتهم. لكن هناك ما يطمئن إلى عدم الفئوية، حيث أن حرمان برج حمود مماثل لحرمان برج البراجنة وحي السلم وبئر العبد، وكذلك الضنية وعكار والهرمل وجرود جبيل والبقاع الغربي من المناطق. فمن سوّاك بنفسه ما ظلمك!… في ذكرى 13 نيسان 1975 كما في ذكرى 24 نيسان 1915 نبحث عن العبر، ويتوحد في استذكار الحوادث الأليمة اللبنانية جميعا بحثا عن الوسائل الأقل كلفة في تسوية النزاعات، سعيا إلى أسس عادلة للعلاقات بين الناس تضمن حقوق الجميع وحرياتهم. * مديرة معهد العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف

السياسة التركية والقضية الارمنية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تقرير طلعت باشا حول الإبادة الجماعية الأرمنية

أرشيف