أرمينيا..عندما تسخر الثقافة في خدمة الهوية

بقلم : أحمد سعيد الفران جريدة القاهرة قبل أيام كنت مرافقاً لوفد من المثقفين والصحفيين المصريين في زيارة لأرمينيا، وتزامن ذلك مع احتفال أرمينيا بالعيد الحادي والعشرين لاستقلالها عن الاتحاد السوفييتي، وأرمينيا دولة صغيرة وجميلة، لها تاريخ طويل وامتداد حضاري عميق، تجمع بين الشرق والغرب، لكنها تتفرد بروحها التي تعشق الموسيقي والشعر والعمارة والكتاب. ورغم المعاناة الاقتصادية التي يعيشها الشعب الأرميني منذ الاستقلال، إلا أنه لفرط ودّ وطيبة وسلام مع الذات، يعبّر في فنونه ونصوصه وحتي أسماء الأماكن عن روحه المتفائلة التي تحب الحياة، فالموسيقي والرقصات لا تستعير الحزن، بل تشف عن جمال يردد صدي الحب، وصوت السنونو. خلال الزيارة التقينا وزيرة الثقافة هاسميك بوغصيان ،والتي أكدت أن العلاقات المصرية ـ الأرمينية تطورت بشكل كبير علي مختلف الجوانب خاصة في الجانب الثقافي، فقد أحيت مكتبة الإسكندرية عام 2011 ذكري مرور 500 عام علي ظهور أول طباعة أرمينية، وشاركت أرمينيا في مهرجان المسرح التجريبي بالقاهرة، ونظمت العديد من الأسابيع الثقافية بالقاهرة ويريفان، وشكرت لمصر دورها الكبير في الحفاظ علي التراث الأرميني. وعلي الصعيد الداخلي تدعم الوزارة جميع الكتّاب والمفكرين بأرمينيا وتساعدهم علي نشر أعمالهم من خلال أربعة برامج حكومية مختلفة، وتنظم عددا من المهرجانات الفنية الكبري منها مهرجان المشمش الذهبي الدولي للسينما، ومهرجان آخر للمسرح، وآخر للموسيقي وسينما الأطفال، وتقدم الوزارة الدعم لجميع الأقليات الموجودة داخل أرمينيا وتحول الحفاظ علي تراثهم، كما ساهمت في ترميم الجامع الأزرق في وسط العاصمة والمعبد اليهودي. كما التقينا ممثلين عن وزارة الاقتصاد، وقطاع السياحة، ونائب وزير الخارجية، وعدد من رموز المعارضة علي رأسهم وزير الخارجية ألأسبق رافي هوفنسيان، وحضرنا إحدي جلسات البرلمان، واختتمت اللقاءات الرسمية بلقاء امتلأ بالمودة مع بطريرك الأرمن الأرثوذكس كاريكين الثاني والذي طالب أثناء اللقاء في المقر البابوي بكنيسة ” إتشميادزين” في العاصمة الأرمينية يريفان ، بوقف كل الأفعال المتطرفة دينيا، مشيرًا إلي أن بعض الجماعات تعمل علي استغلال التطرف الشخصي من قبل بعض الأفراد لتحقيق أغراضها الدنيئة وذلك في تعليقه علي الفيلم والرسوم المسيئة للرسول، وأشاد بعمق العلاقات المصرية ـ الأرمينية والعلاقات الممتازة بين الشعبين، وعبر عن حبه لقيادات الكنيسة المصرية وشيخ الأزهر والذي التقاهم بالقاهرة قبل ذلك، وأكد أنه سيشارك في احتفال تنصيب البابا الجديد في حال تسلم دعوة مشاركة من الكنيسة المصرية. لم تقف الزيارة عند حد اللقاءات الرسمية فقط، فقد قمنا بزيارة كلية الدراسات الشرقية بجامعة يريفان الحكومية، ومعهد التاريخ ومعهد الاستشراق التابعان لأكاديمية العلوم بجمهورية أرمينيا، والتي تدرس تاريخ الشرق القديم والدراسات التركية، والشرق المسيحي، والشرق الأقصي، والبلاد العربية، إلي جانب اللغات العربية والفارسية والتركية ولغات شرقية أخري. وتسني لنا خلال الزيارة والرحلات إلي المتاحف والمعابد والكنائس، معرفة قيمة الكتاب ومكانته في الثقافة الأرمينية التي حاكت حوله القصص والأساطير، وربما يأتي مثل هذا الاهتمام للإحساسٍ بالخوف علي الذاكرة التي تعرضت لمحاولات المحو والإلغاء وقت المذبحة التي ارتكبها الأتراك تجاه الشعب ألأرمني، وفي مثل ذلك تغدو الكتابة نوعاً من الدفاع عن الذات و«النضال ضد الموت»، والكتاب في مثابة الصورة التي تدون الذات. يتلاحظ في الأرمينيين تمسكهم الشديد بدينهم، فبالرغم من أن الدولة تتجاور حدودها بدول أغلبها إسلامية إلا أن الدين الإسلامي ينحسر بشدة داخل ذلك المجتمع، فلا تجد مثلاً أي دور دعوي للأزهر داخل الدولة، كما أن المسجد الأزرق وهو المسجد الأشهر بالعاصمة يعد مسجداً شيعياً، ويمثل المسلمون نسبة لا تتعدي 0.1 % من تعداد السكان حيث لا يتعدي عددهم الألف نسمة حسب إحصاءات مراكز المسح الديموغرافي. مصر تشكل رمزا وقيمة وحماية بالنسبة للشعب الأرميني، فكل مكان تذهب إليه تجد الترحاب والتقدير من أبناء الشعب الأرميني في الشوارع والأسواق والمقاهي والمطاعم، يحملون لمصر العرفان والتقدير ويدركون أن مصر كانت من أوائل الدول التي ناصرت قضاياهم وأوت مشرديها من البطش التركي قبل وبعد الحرب العالمية الثانية، وحافظت علي تراثهم، ويقدرون أن مصر كانت أول دولة عربية فتحت أبواب العلاقات الدبلوماسية إبان الاستقلال عام 1993. ولفرط اهتمام المدينة بالكتاب، اختارت أجمل الأماكن المطلة لإقامة متحف المخطوطات الذي يمثل أي في العمارة والفن، وهو يمتد علي مساحة 12 ألف متر مربع، ويحتوي علي كنوز ثمينة في جميع لغات العالم القديمة والحديثة، ومنها مخطوطات عربية نادرة في مختلف الفنون. وقد صُمم المتحف لحفظ الكتب ونجاتها حتي في ظل حرب نووية، حيث تهبط الكتب إلي «قاصات» تحت الأرض. دار المخطوطات القديمة تعتبر أكبر مستودع للمخطوطات الأرمينية الثمينة في العالم، إذ يضم آلاف المخطوطات من مؤلفات العصور القديمة والوسيطة للأدباء والعلماء الأرمن في ميادين التاريخ والفلسفة والحقوق والطب والرياضيات والفلك والأدب والفنون. تلك المخطوطات المزخرفة في معظم الأحيان بأروع المنمنمات، وفي الدار مئات المخطوطات بلغات شعوب الشرق، وخاصة العربية والفارسية. رمزية الكتاب في ثقافة أرمينيا تعادل النفس والولد والذاكرة والحياة، فالأمهات اللواتي أُجبرن علي اللجوء تحزمن بقماش حول أجسادهن، ووضعن أطفالهن علي صدورهن والكتب علي ظهورهن. الكتاب بالنسبة لأرمينيا هو كينونة تشتمل اللغة والهوية، ومما يروي أن إحدي الأمهات لم تستطع -لكبر حجم الكتاب- أن تحمّله لواحدة من ابنتيها الصغيرتين، فاضطرت لقسمته إلي نصفين، وفي رحلة النفي والهجرة ضلّت كلٌّ من الفتاتين طريقها، وبعد وقت طويل، اهتدت إلي شقيقتها بنصف الكتاب. جبل أرارات، ثمرة الرومان، حجر خاتشكار، لعبة الشطرنج، كل هذا يمثل للشعب الأرمني مسألة من مسائل الهوية التي لايمكن بحال من الأحوال التنازل عنها، فجبل أرارات – والذي يعتقد أن سفينة نوح عليه السلام قد رست عليه – بالرغم من وقوعه خارج الأراضي الأرمينية حاليا إلا أنه يمثل بالنسبة لهم أهمية كبري فلا تكاد تخلو خليفة أي لوحة للفنان الأرميني من هيئة جبل أرارات، أشجار ثمرة الرومان تنتشر في كل بقعة من أرض أرمينيا وتمثل رمزا وقيمة بالنسبة لهم، حجر خاتشكار احد الرموز الدينية والمنقوشة علي أحجار أرمينية لا يكاد يخلو شبر في أرمينيا من تلك الأحجار.

الرئيس المصري يلتقي بقيادات الكنائس

“أرمن الإسكندرية”أشطر تجار في مصر..وملوك صناعة الأحذية..ومدموزايل”آن سيراكيان”أشهر حكيمات الثغر

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *