د. عدنان السيد حسين* “حق تقرير المصير في السياسة والقانون والتطبيق” بيروت – 1998 ثمة جدار عال من الشك بين تركيا والشعب الأرمني، أساسه المجازر الدموية التي وقعت ضد الأرمن، ثم تجاهل حكومة أنقرة على مر العهود مسؤوليتها عن تلك المجازر. ذلك لأن الإعتراف بالمسؤولية يرتب من الناحية القانونية واجبات على تركيا أقلها إنصاف الشعب الأرمني وتمكينه من إقامة دولته وفقا لمبدأ حق تقرير المصير. قد تختلف القوى السياسية الأرمنية حيال كيفية التعامل السياسي مع تركيا، وهذه مسألة عادية في الحياة السياسية. لكن الإجماع الأرمني يقوم على وجود أراض أرمنية في شرق الأناضول تم إبادة وترحيل سكانها الأرمن، وإن ضم هذه الأراضي إلى جمهورية أرمينيا مطلب مبرّر من الشعب الأرمني على رغم ما يكتنفه من صعوبات إقليمية ودولية. يبقى أن الوضع الداخلي التركي هو الأساس في استكشاف التطورات المستقبلية في شرق الأناضول، وفي الجوار الإقليمي كذلك. وقد حصلت تطورات مهمة في الداخل التركي بعد انقضاء الحرب الباردة جديرة بالدراسة. 1 – تركيا الأطلسية والطورانية بعد سقوط الإتحاد السوفياتي وحرب الخليج الثانية، أخذت تركيا تبحث عن تعزيز دورها الإقليمي، مستفيدة من مشاركتها في تلك الحرب وعضويتها في حلف شمال الأطلسي (NATO) وانفتاحها على الغرب. فسعت إلى ملء الفراغ الأمني الذي ولده إنهيار الإتحاد السوفياتي، خصوصا في آسيا الوسطى ذات الخصائص الثقافية القريبة من الأتراك والموقع المجاور لتركيا. وخلال السنوات الماضية – بعد إنتهاء الحرب الباردة – عملت أنقرة على توطيد علاقتها مع الجمهوريات المستقلة الناطقة بالتركية، وصولا إلى إقامة تكتل بين هذه الدول ذي أهداف إقتصادية مشتركة. وعلى ذلك إنعقدت قمة الدول الناطقة بالتركية في عاصمة قرغيزستان (بشكيك) في آب 1995، بمشاركة: تركيا، أذربيجان، كازاخستان، أوزبكستان، قرغيزستان، تركمانستان. وتضم هذه الدول نحو 150 مليون نسمة يتكلمون التركية. غير أن تلك القمة وازنت بين العلاقات مع تركيا والروابط التقليدية مع روسيا والعلاقات الطبيعية مع إيران نسبيا، نظرا لدقة التوازن الإقليمي بين القوى الثلاث: روسيا، إيران، تركيا. ولكنها دعت إلى مد أنابيب النفط والغاز الطبيعي من أذربيجان وكازاخستان إلى دول أوروبا الغربية عبر الأراضي التركية، وهذا ما أثار حفيظة موسكو التي ترغب بتمرير النفط عبر الأراضي الروسية، فراحت تحذر من مغبة التوسع التركي في آسيا الوسطى والقوقاز. على أن إيران تعامل مع هذه السياسة التركية في المجال الإقليمي إستنادا إلى العامل الإسلامي الديني، والى انتشار الفارسية في طاجيكستان حيث قبائل الطاجيك. وآثرت طهران تحقيق التسوية لمشكلة كاراباغ، ولحرب طاجيكستان الأهلية. فضلا عن مجهوداتها المستمرة لتطوير العلاقات الإقتصادية والتقنية مع موسكو، بما في ذلك المفاعلات النووية. كما تمكنت من التأسيس لمنظمة دول بحر قزوين منذ العام 1992، وتضم كلا من أذربيجان وكازاخستان وتركمانستان وروسيا. وهذه خطوة مهمة في المجال الإقليمي الآسيوي. على أن العلاقات الإيرانية – التركية لم تتجه إلى التصعيد والمواجهة، بل بقيت في إطار التنافس، وذلك لأسباب عدة: وصول نجم الدين أربكان – زعيم حزب الرفاه الإسلامي التركي – إلى رئاسة الحكومة خلال العام 1996، وإبرامه إتفاق أمني وإقتصادي مع إيران في إطار الإنفتاح على عموم بلدان العالم الإسلامي. ويقضي هذا الإتفاق أن تصبح إيران المصدر الثاني لتركيا للغاز الطبيعي (بعد روسيا)، إضافة إلى زيادة حجم التبادل التجاري، وتعزيز الأمن على الحدود المشتركة. تفاهم إيران وتركيا على رفض قيام “كردستان الكبرى”، أو الدولة القومية الكردية، في شمال العراق وبلاد الأناضول وشمال غرب إيران. وكثيرا ما أشارت اللقاءات السنوية على المستوى الوزاري، وبمشاركة سوريا أيضا، إلى رفض تقسيم العراق، والى الخشية من قيام الدولة الكردية التي تعني إعادة النظر بالكيانات الجيوسياسية لكل من العراق وتركيا وإيران. إنفتاح السياسة الخارجية الإيرانية في السنوات الأخيرة إقليميا ودوليا، في مواجهة سياسة الحصار الأميركية. لقد برز في هذه الصدد رفض الإتحاد الأوروبي لصيغة الحصار الإقتصادي أو العزل الإقتصادي، إضافة إلى المواقف الصينية والروسية واليابانية الرافضة لمثل هذا الحصار. إنطلاقا من هذه المعطيات، قد يكون من مصلحة أرمينيا والشعب الأرمني بوجه عام تطوير علاقات التعاون الإقليمي مع ايران وروسيا، إضافة إلى المحافظة على إستقرار العلاقات مع جورجيا القوقازية. خصوصا وأن تركيا الداخلية تمر في واقع متأزم على غير مستوى. إن تركيا الطورانية موجودة داخل الجيش الذي يعلن ولاءه الدائم لمبادئ كمال أتاتورك، ومتحركة في القوقاز وآسيا الوسطى ضد أرمينيا والنفوذ الإقليمي الإيراني. غير أن هذا التوجه الطوراني – الذي استعاد بعض قوته بعد وصول مسعود يلماظ إلى رئاسة الحكومة في العام 1997 – والمتحالف مع الغرب، سيتعارض مع الدور الروسي التقليدي ومع الدول العربية (خصوصا سوريا والعراق) لسببين: الإختلاف على إقتسام مياه دجلة والفرات، والتعاون الأمني الإسرائيلي – التركي المدعوم من حلف شمال الأطلسي. هذا فضلا عن النزاع الدائم بين تركيا واليونان في بحر إيجه وقبرص، أي في منطقة شرق البحر المتوسط. بتعيير آخر، ثمة حصار إقليمي لتركيا قوامه: روسيا وايران واليونان، وربما عدد من الدول العربية. لكن تركيا الطورانية قد تصطدم بتركيا الإسلامية، ومن يراجع نتائج الإنتخابية البلدية والتشريعية منذ العام 1994 يتأكد من صعود التيار الإسلامي بزيادة عدد ممثليه. صحيح أن حزب الرفاه الإسلامي لم يتمرد على تركيا الكمالية، ولا على تركيا الأطلسية، وإنما طالب بالإنضواء في الإتحاد الأوروبي، وحافظ على عضوية تركيا في حلف شمال الأطلسي. غير أن صعود التيار الأسلامي قد يولد خلافات داخلية عميقة، وهذا ما سينعكس سلبا على وزن تركيا الإقليمي بما في ذلك منطقة القوقاز المجاورة والموقف من القضية الأرمنية. يبقى عامل آخر مهدد لتركيا هو “المسألة الكردية” التي تفجرت في السنوات الأخيرة، واتخذت أبعادا اقليمية واضحة، كما استدعت إهتمامات وتدخلات دولية. لكن هذا العامل الذي يستأهل الدراسة والبحث، ساهم على صعيد آخر في تحقيق التقارب الإيراني – التركي من حيث رفض فكرة الدولة القومية الكردية، أو كردستان الكبرى. ماذا عن المسألة الكردية في هذا السياق؟ 2- تداعيات “المسألة الكردية” إن تعامل تركيا الطورانية مع “المسألة الكردية” بالإنكار والطمس منذ إنتهاء الحرب العالمية الأولى يعيد إلى الأذهان تجاهل الحركة الطورانية لحقوق الأقليات والجماعات غير التركية المقيمة في تركيا كالأكراد والأرمن والعرب. كما يطرح سؤالا مهما في نهاية القرن العشرين هو: إذا كانت السلطنة العثمانية قد دفعت بعض الأكراد للإنخراط في الحملة العدوانية على الأرمن منذ عهد السلطان عبد الحميد الثاني، مما أدى إلى تأزم العلاقات بين الشعبين الكردي والأرمني. هل تستمر هذه الأزمة بعد تفاقم العلاقات التركية – الكردية؟ قبل الإجابة عن هذا السؤال، نشير إلى أن الحركة الطورانية تجاهلت طويلا حقوق نحو 15 مليون كردي في تركيا، يقيمون على نحو ثلاثين في المئة من المساحة التركية. ومن المعروف أن أكثر من نصف عدد الأكراد الإجمالي الذي يبلغ أكثر من 27 مليون نسمة حتى العام 1996 يقيمون في تركيا، ثم تأتي المجموعة الكردية الثانية في إيران، وبعدها المجموعة الكردية الثالثة في العراق. هذا بالإضافة إلى إنتشار كردي محدود في روسيا ولبنان وروسيا وأرمينيا، وفي عدد من الدول الأوروبية وخصوصا ألمانيا. تتجاهل الحركة الطورانية الحقوق المدنية والسياسية والإجتماعية للأكراد، إنطلاقا من عقدة التفوق التركي التي عبر عنها رئيس حكومة أنقرة السابق عصمت إينونو بقوله: “إن للأمة التركية وحدهاالحق في المطالبة بالحقوق العرقية في هذا البلد – تركيا – وليس لأي عنصر آخر هذا الحق”. وكثيرا ما تحرك الأكراد ضد حكومة أنقرة، ونفذوا حركات عصيان مدني وإضطرابات أمنية وسياسية، مطالبين بحق تقرير المصير والإعتراف بلغتهم الخاصة وهويتهم القومية وحقوقهم الإجتماعية والسياسية. تجددت الإشتباكات بين أكراد تركيا والجيش التركي في الجبال العالية منذ العام 1984، وتفاقمت في العام 1992 في منطقة جنوب شرق الأناضول مع الإنفجارات والمواجهات المسلحة. حكومة أنقرة تحمل المسؤولية لحزب العمال الكردستاني، الذي تصفه بالإرهابي، وتطارد عناصره إلى شمال سوريا والعراق في إطار الضغط المستمر على البلدين العربيين لمحاصرة التحركات الكردية. هذا ما حول “المسألة الكردية” إلى مسألة إقليمية، مع وضع شمال العراق تحت الوصاية الدولية بعيد حرب الخليج الثانية، ومع بروز الإهتمام الإيراني بتحركات أكراد ايران وأكراد العراق في المنطقة الشمالية المتاخمة. فانعقدت الإجتماعات التركية – السورية – الإيرانية منذ العام 1992، وبصورة دورية، لمعالجة الأمن الإقليمي في إطار مسألتين أساسيتين هما: رفض تقسيم العراق، ومحاصرةالتحركات الكردية. ثمة خشية إقليمية من قيام دولة كردية تعيد النظر بالواقع الجيوسياسي لتركيا والعراق وإيران، كما يمكن أن تؤثر في شمال سوريا. في المقابل، هناك إمتعاض غربي عام – أوروبي خصوصا – من تجاهل حقوق الأكراد داخل تركيا، على رغم العلاقات الأميركية – التركية المتطورة بعد حرب الخليج الثانية والحديث عن توسيع حلف شمال الأطلسي باتجاه دول أوروبا الشرقية . وقد صدرت مواقف أوروبية مدافعة عن الحقوق الخاصة للأكراد، في إطار الحديث عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. لكن علينا ملاحظة أن التدخلات العسكرية للجيش التركي في شمال العراق لمطاردة الأكراد لم تجد رفضا غربيا، أو أميركيا، مباشرا. حصل ذلك منذ العام 1994، وبلغ التوغل العسكري مداه (نحو سبعين كيلومترا) داخل الأراضي العراقية في العام 1995 إبان حكومة تانسو تشيلر. واستمر التدخل العسكري التركي مباشرة داخل شمال العراق بما يخالف قواعد القانون الدولي من حيث المبدأ، بصرف النظر عن الإتفاق العراقي – التركي السابق الذي يسمح للجانبين بملاحقة الأكراد على طرفي الحدود. وهو إتفاق خرقته تركيا في مجمل الأحوال والظروف. قاد هذا التردي الأمني في شمال العراق إلى تدخل إيراني عسكري في فترات لاحقة لملاحقة أكراد إيرانيين داخل الأراضي العراقية. فبدت “المسألة الكردية” محاصرة إقليميا، على رغم بعض المواقف الدولية المحدودة المؤيدة لإعطاء أكراد العراق نوعا من الحكم الذاتي. كما أرمينيا، تبدو كردستان بموقعها البري المقفل محاصرة من القوى الإقليمية. هذا بالإضافة إلى الإقتتال الكردي – الكردي الذي حصل في شمال العراق منذ العام 1994، وأضعف موقف الأكراد إقليميا ودوليا. نسوق هذه الملاحظة في معرض دراسة عوامل الضعف والقوة للمسألة الكردية، وإفادة أنقرة من تداعيات هذه المسألة في نهاية القرن العشرين. هل تبدد “المسألة الكردية” أجواء الفتور التي سادت سابقا العلاقات الكردية – الأرمنية؟ ثمة إلتقاء غير مباشر بين القضية الأرمنية والمسألة الكردية في مواجهة الحكومة التركية، ولو بنسب متفاوتة. هذا فضلا عن إتصال الرقعة الجغرافية التي يعيش عليها الشعبان، بمعزل عن الإختلافات القومية والدينية والسياسية. غير أن القضية الأرمنية التي ما تزال مطروحة بقوة، ويهمها الدعم الإقليمي الإيراني والروسي، والتأييد العربي العام وخاصة من سوريا والعراق، لا تجد مصلحة أكيدة في التحالف مع الحركات الكردية التي تلقى معارضة العراق وإيران لأسباب جيوبوليتيكية أشرنا إليها. كيف يوفق الشعب الأرمني، بقواه الحية، بين إلتقائه غير المباشر مع الأكراد وبين الحصول على التأييد الإيراني والروسي والعربي في وقت واحد؟ هذا ما يرتب على الأرمن – داخل أرمينيا وخارجها – وعيا سياسيا لافتا، وتخطيطا استراتيجيا عاليا، وتكتيكا ذكيا لا يغضب القوى الإقليمية دون أن يضعف من وهج القضية الأرمنية. وهذا ما يؤكد مجددا على أهمية الإفادة من المتغيرات الإقليمية والدولية الجارية في كل مرحلة، من خلال المرونة السياسية والوعي العميق بطبيعة النظام العالمي وما تحيط به من متغيرات سريعة. إنها مسؤولية الشعب الأرمني كله داخل أرمينيا وفي بلاد الشتات في آن معا. * استاذ في الشؤون الدولية في الجامعة اللبنانية