حلب، مركز جهاز الإبادة وعمليات إِغاثة المرحلين

ريمون هـ. كيفوركيان مؤرّخ وأمين مكتبة نوبار، باريس من كتاب ذاكرة أرمنية- صور من مخيم لاجئي حلب 1922-1936 كان الوصول إلى حلب والاحتماء فيها يشكّلان للعديد من المرحلين هدفاً حيوياً. على هذا النحو، كانوا يأملون الذوبان في النسيج المديني لهذه المدينة الكبيرة، والإستفادة من المعونة، التي في وسع الجماعة الأرمنية، المستثناة من الترحيل، وفي وسع الدبلوماسيين والمرسلين الأجانب الحاضرين، أن يقدّموها لهم. إذ سرعان ما بدا، من جانب السلطات، عقب ارتجال الأسابيع الأولى، التي تدفّق خلالها بضعة آلاف من المرحلين على المدينة، أنه لا بد لنجاح خطة الإبادة من السهر بكل الوسائل المتاحة على منع المرحلين من دخول حلب. حوالى 5 حزيران 1915، أعلن القنصل جاكسن أن موجات عدة من المرحلين يتّجهون ضاحية حلب قادمين من مرعش، زيتون، حسن بيلي، عثمانيه، بهشته، اضنه، درتيول، وهاجين سيراً على الأقدام، في حين أن ألفين وست مائة لاجئ أُبقي عليهم في المدينة . ولاحظ ليروفبيه بابازيان، مستشار مطرانية اضنه الموفد من قبل الكاثوليكوس ساهاك إلى جمال باشا، لاحظ لدى عودته من عاليه، نحو منتصف حزيران، ومروره بحلب، وصول أوائل المرحلين الآتين من الشمال، وهم بشكل أساسي “نساء وأطفال بين الثامنة والعاشرة من أعمارهم”، يقيمون مؤقتاً في باحات الكنائس والمدارس، وبالأخص في الدير العائد لأخوية القديس يعقوب الأورشليمي (“هوكه دون”). لم يدّخر الكاثوليكوس جهداً في تخفيف مصير المرحلين، حتى أنه أقدم، بناء على نصح القنصل الالماني روسلر، على الكتابة إلى القيصر غليوم. كل يوم كان خمسون إلى سبعين شخصاً يلقون حتفهم جراء إصابتهم بحمى التيفوس أو التيفوئيد، على الرغم من عمل لجنة الإغاثة الأرمنية بإشراف سركيس دجيرجيان لتأمين التموين والعلاجات للمرحلين، الذين لا يكفّون عن المرور بحلب. فيما الشرطيون يسهرون في الواقع على الإسراع في توجيههم إلى خارج المدينة . وفي تموز 1915، تم تجاوز مرحلة بنقل الوالي جلال إلى قونيه، لإِقدامه على مقاومة الأوامر الصادرة عن القسطنطينية. تسارعت الأحداث منذ ذلك الحين، وازداد تدفق موجة المرحلين يومياً. وفقدت سلطات حلب بالتدريج السيطرة على الوضع، بحسب القنصلين الأميركي والألماني، ج. جاكسن و. روسلر، اللذين يُعتبران بكل تأكيد الرجلين الأحسن إطلاعاً على المعاملة التي انتهجتها الحكومة العثمانية مع المرحلين الأرمن. ولاحظ كذلك والتر روسلر أن المرحلين لا تجري معاملتهم بالطريقة ذاتها، وفقاً لأماكن منشئهم: إذ ينال سكان كيليكيا مساعدة من السلطات، ولو بشكل غير منتظم، فيما الأرمن الوافدون من المقاطعات الشرقية يحرمون كل عون . في هذه الظروف، بلغ وباء الكوليرا الذي ظهر في مخيمات الشمال مدينة حلب في أيلول، مرغماًَ السلطات على إخلاء المدينة من مرحليها بأقصى السرعة، على وتيرة أربعة أو خمسة آلاف شخص تقريباً كل أسبوع، وحملهم في عربات السكة الحديدية المخصصة للحيوانات أو للبضاع المتجهة إلى دمشق وحوران. لم تحظر السلطات المرحلين من دخول حلب إلا في مستهل تشرين الثاني 1915، كذلك عمليات النقل بالقطار نحو الجنوب، باتجاه دمشق وحوران. من الآن وصاعداً، بدأ ارسال هؤلاء المرحلين بانتظام، سيراً على الأقدام أو بالقطار، إلى “خط بغداد”، صوب رأس العين، أو إلى “خط الفرات” نحو دير الزور . هذه التدابير ليست على الأرجح عديمة الصلة بوصول الوالي الجديد مصطفى عبد الخالق وعبد الاحد نوري في آن واحد قبل أسبوعين، وهما اللذان ترأسا منذئذ إدارة فرعية معززة للمرحلين. لم يعد الأمر يتعلق بعد، كما في المقاطعات الداخلية، بممثّل عادي لـ “إدارة إسكان العشائر والمرحلين” الاسطنبولية، حتى لو كان هذا الممثّل يحمل لقب “مدير سَوْق المرحلين”، بل صار مرتبطاً بإدارة حقيقية أنشأت شبكة معسكرات اعتقال الفرات. إِن سدّ طريق الجنوب أمام المرحلين، المعروف بأنه أقل إزهاقاً للأرواح لخلوّه من معسكرات الاعتقال، والإستعاضة عنه بمحورَي خط بغداد والفرات كمحطتين للوصول لا يهدفان إلى شيء آخر سوى تدمير المرحلين بفعالية أشد. في كل الأحوال، نقل هوفمان، نائب قنصل الإسكندرون الألماني، في برقية موجّهة إلى سفارته في القسطنطينية، مؤرخة في 8 أيلول 1915، كلاماً لأحمد أيوب صبري، مساعد عبد الأحد نوري، لا يدع مجالاً للشك حول السياسة التي تتّبعها السلطة: “يبدو أنك لا تفهم ما نريد، إِننا نريد إستئصال الاسم الأرمني”.” بالرغم من الآمال التي أثارتها حلب لدى المرحلين الذين يرغبون ألا يتم إرسالهم تجاه معسكرات الجنوب أو الجنوب الشرقي، فإن دخولها بات منذ ذلك الحين أمراً صعبا. فالمدينة تعجّ برجال الأمن وعملاء المخابرات المطّلعين تمام الإطلاع على الأوضاع بظل شبكة واسعة من المخبرين، بمن فيهم بعض الأرمن. من المستطاع دائماً، حالما يدخل أحدهم المدينة، أن يتمكن من التواري عن الأنظار. أما الواقع، فإن حضور آلاف المتخفّين الأرمن محتمل بشكل أفضل لأنه يتيح فرصة للربح غير مأمولة للعديد من موظفي إدارة البلدية والشرطة وحتى من أفراد الجيش. فقد نشأ تدريجاً نوع من قانون اللعبة، ومن النادر جدا أنّ شخصاً استطاع الاحتفاظ ببعض المال ألا يجد وسيلة للتفاهم مع الموظفين المحليين. هذا، على الأقل، هو الوضع الواقعي الذي كان سائداً حتى تسمية عبد الخالق ونوري في تشرين الأول 1915. غير أن قدومهما لم يكفِ لإيقاف عطف الإدارة المحلية المغرض بشكل قاطع. كان عليهما أن يكافحا لفترة لا تقل عن عشرة أشهر للتوصل حقيقةً إلى قطع سيل المرحلين الذين يتمكنون من الاختفاء في حلب. شبكات الإعلام والإغاثة الأرمنية الرسمية أو السرية العاملة في حلب وجوارها في مرحلة أولى، شُكّل، بناء على إيعاز من الكاثوليكوس ساهاك الثاني خابايان، الملتجئ إلى المدينة منذ أواخر حزيران 1915، لجنة لإغاثة اللاجئين مؤلفة من شخصيات بارزة من طائفة حلب الأرمنية ، التي كانت يومئذ تضم ما يناهز الثلاثة عشر ألف نسمة، وتتمتع بسمعة حُسْن التنظيم. فأعضاؤها المقيمون منذ عشرة أعوام على الأقل في العاصمة الإقليمية السورية، أُعفوا بالفعل من عمليات الترحيل. لذا اهتمت اللجنة باستقبال الأيتام وإيواء المرحلين الوافدين إلى حلب. عندها قابل ساهاك الثاني، وعلى فترات متعددة، جمال باشا سيد المنطقة، ساعياً في كل مرة إلى انتزاع تدابير منه متّصفة بالرأفة حيال المرحلين. كذلك نظّمت الكنيستان الأرمنيتان الإنجيلية والكاثوليكية شبكات إغاثة خاصة بهما. في مطلع تشرين الثاني، أُبعد، مع ذلك، ساهاك الثاني وبطانته إلى القدس، بناء على مبادرة اتخذها الوالي عبد الخالق على الأرجح . في تلك الأثناء، أتاح وصول العديد من المرحلين الاسطنبوليين إلى حلب كالدكتور بوغوصيان، الذي عيّن طبيباً للبلدية بالوكالة ، اقامة شبكة سرية تكوّنت تدريجياً ووسّعت نطاق عملها ليس إلى حلب وحسب، بل إلى المنطقة بأسرها وكانت لها إرتباطات حتى بالعاصمة نفسها . لكنها استطاعت أن تعتمد خاصة على وجهاء محليين أمثال الأخوَين أونيك وأرميناك مظلوميان، صاحبَي فندق “بارون” الشهير، وهما من ناحية ثانية من خلصاء جمال باشا، وتعتمد أيضاً على العدد الكبير من موظفي سكك الحديد الأرمن ، الذين لا يمكن السلطات الاستغناء عنهم، وكذلك على رجال محترمين شأن القسين أهارون شيرادجيان، القادم من مرعش، وهوفهانس اسكيدجيان. نشأ بين هؤلاء الرجال نوع من تقاسم الأعمال: فاهتم بعضهم بالأيتام (القسيسان)، فيما عُني آخرون بإنقاذ وإخفاء الشبان والمثقفين، وبالإبلاغ بإقامة شبكة توزيع المساعدات المباشرة على المرحلين حتى دير الزور. كما أن عطف القنصلين جسّ جاكسن، وبشيء من التحفظ يمكن تفهّمه، سهّل والتر روسلر نقل مبالغ طائلة، كانت الشبكة في حاجة إليها لمدّ يد المساعدة إلى المرحلين. وأدّت المبشّرة السويسرية بياتريس روهنر مع زميلتها باولا شافر دوراً بالغ الأهمية في تنظيم المساعدات والحصول على الإعانات المالية الضخمة. كانتا كلتاهما تابعتين لجمعية المرسلين الألمانية لأعمال البِرّ المسيحية، وتمكنتا، بدعم من الدكتور فرد شيبرد من مستشفى عنتاب الأميركي، من استلام الموارد التي جمعها في الولايات المتحدة مجلس إدارة مندوبي الإرساليات الخارجية. وإذا توصّل وزير الداخلية، أواخر تموز 1915، إلى معرفة أن موفدَين أرمنيين أرسلا من حلب إلى دير الزور، يوزعان الأموال على المرحلين، وتالياً أمر باعتقالهما ، فان كثراً آخرين مرّوا من دون أن ينتبه إليهم أحد وأنجزوا مهماتهم من غير إثارة الشكوك. الكاتب يرفانت أوديان أفلح، على سبيل المثال، في التسلل إلى حلب بفضل تواطؤ بيليك اربياريان، المستخدم في السكك الحديدية، ثم أخذه الدكتور بوغوصيان على عاتقه وأخفاه في المدينة، حيث خالط القس كروزيان، الذي يدير ميتماً موضوعاً تحت رعاية سيدة ألمانية صديقة لـ جمال باشا، الذي تغاصى عن هذه المؤسسة الخاصة بالأرمن. ولما تعرّض لمشكلات، فإنه توجّه بكل بساطة إلى أونيك مظلوميان، صاحب فندق بارون، المشغول غالباً من قبل القيادة العامة للجيش الرابع، والذي عُدّ ملاذاً للمثقفين المعتقلين وسط سيل المرحلين. واقع الأمر أن أحد أنشطة الشبكة كان يقوم على أفضلية إنقاذ الأدباء، مع الوعي التام أن “بقاء الأمّة” لا يمكن أن يتحقق إلا بهذا الثمن. أما أرام أندونيان، الذي بقي متخفياً طوال أشهر في حماية الأخوين مظلوميان، فشرع يجمع باكراً الوثائق المتعلقة بإبادة مواطنيه. وفي فندق بارون، رأى المسؤولين الرئيسيين عن الإبادة الجماعية يتوالون ويتنعّمون بالمآكل على حساب صاحبي الفندق، وكان بعضهم لا يتورّعون عن التصريح لماذا هم متواجدون في سوريا. مع ذلك، ما كان عمل صاحبَي “بارون” الحازم ليمرّ من غير أن يلفت أنظار ادارة تركيا الفتاة. لذا عملت على نفيهما في أيلول 1916 إلى زحلة في سهل البقاع. شخصية أخرى في المدينة هو الدكتور صموئيل شمافونيان الذي كان يعالج برفق أيتام المؤسسة التي أنشأها القس أهارون شيرادجيان، أُحيل إلى القضاء وحكم عليه بالسجن لمدة خمسة عشر عاماً. ثم “أُطلق سراحه”، بعد تعذيبه بصورة منتظمة، ولكن في حال لا مثيل لها، حتى أنه توفي لتوه متأثراً بجروحه . إنّ تصفيته كان نذيراً بتحييد مصادر الإِعانات. بيد أن أعمال القمع التي أقدم عليها الوالي عبد الخالق لم تستطع أن توقف كليا سيل المرحلين الذين كانوا يبحثون عن ملاذ لهم في حلب، وذلك بسبب اتّساع رقعة المدينة، الذي منع السلطات من مراقبة كل شاردة وواردة. بعضهم تمكنوا من دخولها سراً، وآخرون أشد يسراً، نجحوا من طريق رشوة الموظفين. لكن شبكة التضامن المنشأة في المدينة، بمؤازرة الدبلوماسيين والمبشرين الأميركيين، والألمان والسويسريين، هي التي سمحت خصوصاً بإنقاذ المزيد من المرحلين، لدرجة أن حلب كانت، في نهاية 1915، مكتظة بنحو 40000 مرحل غير شرعي . حين علمت السلطات بالدعم الذي قدّمته الخدمات القنصلية الأجنبية لهؤلاء المنبوذين أصدرت إليها تعليمات صارمة مانعة إياها من القيام بأي نشاط لمصلحة الأرمن. رغم ذلك، لم يتردّد بعض الدبلوماسيين والمبشرين الغربيين، ولا سيما الأميركيين منهم، في توظيف أنفسهم شخصياً لمساعدة الضحايا، حتى أن الارساليات الأميركية توصلت إلى جمع 100000 دولار لمصلحة المنكوبين” في الشرق الأدنى، وهو مبلغ تولى إدارته القنصل جسّ جاكسن. لكنّ المهمة الأهم كانت إخفاء آلاف الأرامل والأطفال الملتجئين إلى المدينة. عدد كبير منهم آوتهم عائلات مسيحية عموماً وأرمنية خصوصاً – أما الفتيات الشابات والنساء فقد تم تشغيلهن كخادمات في أغلب الأحيان. وموّلت القنصلية الأميركية جمعية المساعدة الألمانية ودفعت معونة شهرية إلى لجنة الإغاثة التي شكّلتها مطرانية حلب الأرمنية. ولاحظ جاكسن أيضاً أن وجيهين من وجهاء حلب الأرمن قاما في الفترة نفسها بمساعٍ لدى أحمد جمال، قائد الجيش الرابع، لمصلحة مواطنيهما الملتجئين إلى المدينة، أحدهما هو الدكتور ألطونيان . قَبِل جمال باشا العرض، فأنشئت في غضون شهرين، ستة مصانع شغّلت أكثر من عشرة آلاف شخص، أكثرهم نساء وفتيات شابات . إنهنّ غزلن الصوف وصنعن ألبسة لتأمين حاجات الجيش، بينما عمل الرجال المتواجدون بندرة بصفة حدادين وخياطين أو نجارين. وقد عوملوا كعبيد يشتغلون في ظروف مروّعة، ولا يتقاضون أجراً أو مقداراً من الطعام كافياً لسدّ رمقهم. وكان لا بد أن يلفت وباء التيفوس الناجم عن حضور حاشد لمرحلين أرمن إنتباه قائد الجيش الرابع والضباط الألمان في أركانه العامة، خاصة عندما أصاب الوباء جنودهم مسبباً فاجعة صحية حقيقية . لذا كان من الملحّ اتخاذ إجراءات جذرية للسيطرة على هذا البلاء. وتالياً لم يكن لجمال من خيار آخر غير الموافقة على فتح مستشفى، بإدارة الدكتور الطونيان، مخصص لمعالجة المرحلين الأرمن. أما المشكلة الكبرى الأخرى فتتعلّق بالوضع المفجع لآلاف الأيتام المنكوبين في حلب والمتروكين لمصيرهم، وهم يتسكّعون في الشوارع وقد هدّهم المرض والجوع. وإذا تمكنت عائلات محلية من تبني البعض منهم، فإن أغلبهم حرموا أية مساعدة. ولا ريب أن المبادرة الحلبية الأهم في هذا المجال كانت، بلا منازع، تأسيس القسيس أهارون شيرادجيان ميتما منذ 31 تموز 1915. إن تأسيس مثل هذه المؤسسة في وقت كانت السلطات على وشك تطبيق برنامجها الرامي إلى إبادة الأرمن، يمكن أن يبدو أمراً متناقضاً غير معقول. إلاّ أنه تجدر الإشارة إلى أن الميتم أنشئ في حين كانت موجات المرحلين تتدفق على حلب، قبل تسمية الوالي عبد الخالق، وبخاصة ان المبادرة كانت مدعومة من القنصلين الأميركي والالماني ومن الإرسالية الالمانية-السويسرية كذلك، وإنه بفضل مساعيهم لدى جمال باشا أمكن إنشاء المؤسسة . ولكن تأسيسها يعود بصورة خاصة إلى شجاعة القس شيرادجيان الذي هُجّر من مرعش ولجأ هو بالذات إلى حلب، فتطوّع على الفور في العمل الإنساني، مستقبلاً أولاد المتروكين، المرضى والمشرفين على الهلاك عموماً، في منزل محاذٍ للقنصلية الالمانية والكائن في حي “عقبه”، وقد وضعه تحت تصرفه مجاناً أميل زوللنغر، تاجر سويسري مقيم في حلب . كل يوم، كان أطفال مصابون بالكوليرا، التيفوس، بالتراخوما والزحار، وذوو أجسام مهزولة في الغالب، يفدون إلى الميتم، حيث كان اهارون شيرادجيان يستقبلهم دون استثناء، ويعالجهم الدكتور شمافونيان إلى أن تم اعتقاله. كان هذا الميتم المرتجل في الحقيقة بناء متواضعاً، أرضه مغطاة بالتبن تقوم مقام أسرّة. وإذا كانت الوفيات فيه متكرّرة، فإن المؤسسة كانت مع ذلك تؤدي خدمات جلّى. وفي غضون الأشهر التالية، وسّع شيرادجيان عمله باستئجار عشرة منازل أخرى، وذلك خصوصاً بفضل الدكتور أسادور الطونيان، مدير مستشفى ذائع الصيت، تمت فيه معالجة العديد من كبار المسؤولين العثمانيين. وقد بلغ عدد الأيتام فيها، في نهاية الحرب، ألفا وخمس مائة طفل. بناء على طلب باولا شافر وبياتريس روهنر، المبشرتين السويسريتين أذن لهما جمال باشا، أواخر كانون الأول 1915، بفتح ميتم في حلب، مخصص أيضاً لإيواء الأطفال الأرمن المتروكين، ولكن تحت إشراف السلطات المحلية. كان تحسين حالة المدينة الصحية الحجة الرئيسية التي تقدمت بها المبشرتان لإقناع الباشا . فإن نحو أربع مائة طفل واجدين ملاذا لهم في هذه المؤسسة، التي تنعم بدعم القنصل الالماني و. روسلر. وتستفيد من المساعدة المالية الأميركية . وجّه وزير الداخلية، محمد طلعت، ربما لوضع حدّ لهذه التجربة، برقيتين دوريتين إلى السلطات المحلية، مؤرختين في 23 آذار و3 نيسان 1916، “مذكّراً” بأن الإدارة العثمانية وحدها هي المخوّلة إدارة المساعدات للمرحلين، وبالتالي فإن جميع الاذونات الممنوحة إلى الأجانب غير شرعية وتستوجب فرض عقوبات على الموظفين المذنبين لمخالفتهم هذه القاعدة . كما آوت لجنة إغاثة حلب بضع مئات من الأيتام في المدرسة المحاذية لكنيسة الأربعين شهيداً، برعاية خ. كروزيان . مخيمات عبور في ضاحية حلب لئن جرى إيواء أوائل الوافدين في صيف ومطلع خريف 1915 داخل خانات حلب، فقد حظر الوالي مصطفى عبد الخالق على قوافل المرحلين، بدءاً من تشرين الثاني، دخول المدينة. وإستناداً إلى أوامره، أنشأت الإدارة الفرعية للمرحلين أول مخيّم للعبور على مسيرة ساعة شرق المدينة، أنشأته في السبيل، وهو سهل فسيح ينمّ عن صحراوات سوريا. يصل إليه كل يوم موكب، في حين ينطلق منه موكب آخر باتجاه مسكنه في دير الزور. يتجمّع فيه إذاً آلاف المرحلين بصورة مستمرة. على ان مؤسسة مخصصة للأرمن ما زالت قائمة في المدينة: انها الخان الفسيح في حي اشيول، المسمّى كاسلده، الذي نُصبت في باحته خيام شاسعة هي أشبه بسجن. هذا المخيم مخصص، في الواقع، للرجال الراشدين الذين ما انفكوا بأعجوبة يؤلفون المواكب الوافدة إلى حلب، وللأشخاص المتخفين في المدينة الذين يستردّهم رجال الشرطة أو الدرك أثناء مداهماتهم الليلية المتكررة. وبعد إقامة تستمر نحو عشرين يوماً وسط هذا العالم المريع، يتم تسيير هؤلاء الرجال أيضاً تحت حراسة مشدّدة . والوفيات في المخيم من الكثرة بحيث “تقرّر في أواسط تشرين الأول، على ما كتب والتر روسلر، تهيئة مقبرة جديدة خارج المدينة. ولكن قبل الشروع في دفن الموتى، كانت الجثث تفرغ فيها أكواماً تبقى أياماً عدّة في الهواء الطلق.” كذلك أُقيم مخيّم ثان على مقربة من قرية تقع في ضاحية المدينة الشمالية، في كارلك، على امتداد الخط الحديدي. وقد نُصبت فيه، بحسب القنصل جاكسن، خمس مائة خيمة كحد وسطي، ألفين أو ثلاثة آلاف مرحل يقيمون فيها في ظروف مخيفة، شبه محرومين من المياه. ويُجمع فيها يومياً ما يقرب من مائة ميت. اِكتشف يرفانت أوديان، الذي أقام في “السبيل” حوالى نهاية تشرين الثاني 1915، آلافاً من الخيام يحتلها أرمن متحدّرون من برديزاك، رودوستو، اضابازار وادرنه، “عدد أقل” من هاربوت، دياربكر وافيون قره هيصار . ولمح، وهو ينتظر ترحيله، مشاهد رهيبة. وقد ذكر بوجه خاص خندقاً حُفر على حافة المخيم، حيث كان يُلقى، كل صباح، موتى الليلة السابقة، وبالأخص ضحايا وباء الزحار الذي فتك في “السبيل”، مطلع كانون الأول 1915. ولاحظ كذلك كيف ان أتراكاً وعرباً ويهوداً من سكان حلب، محرومين من الأولاد، كانوا يأتون إلى المخيم لشراء الصبيان والبنات من والديهم. وكانت تقلبات الطقس والبرد والمطر، تفتك خصوصاً بمن لا يملكون خيمة، فيما كان نقص الغذاء يتكفّل بالباقي. في هذه البيئة، اِنقلبت معالم الأخلاق والآداب رأساً على عقب. وكانت الأمهات يعارضن غالباً هذه الصفقات فلا يسمحن لأنفسهن دائماً بالإقتناع بحجج الشارين عندما يلفتون إنتباههن إلى أنهنّ يتوجّهن إلى الموت وأن أولادهن ستكتب لهم النجاة على هذا النحو. بعض الأمهات الموافقات في بادئ الأمر وقعن بُعيد التنازل عن أولادهن فريسة الجنون أو البله. والأولاد الذين تراوحت أعمارهم بين السابعة والعاشرة، ولا سيما البنات الصغيرات، كانوا مرغوباً فيهم أكثر من غيرهم. هكذا تم بيع الصبيان والفتيات من قبل والديهم. لكن بعض المحظوظين المتحدرين من هاربوت أنقذهم الدكتور كيلدجيان، طبيب بلدية حلب، المتحدر بدوره من المدينة عينها، والذي آوى هؤلاء المرحلين في منزله . وتمكّت لجنة إغاثة حلب بعض الشيء من تخفيف آلام هؤلاء الأرمن المارين عَرَضاً عبر المدينة، دافعة لهم بشتى الوسائل الإغاثات المالية التي توصلها إليها بانتظام بطريركية القسطنطينية الأرمنية، من خلال قنوات مختلفة، حيث يرضى مدراء المخيمات بأن يرتشوا، وهذا يحدث في كل مكان تقريبا.ً لعل السلطات حاولت كذلك، بتجنيب قوافل المرحلين المرور عبر حلب، ان يحجبوا قدر المستطاع تصرفاتهم عن أنظار الشهود الأجانب. وقد لاحظنا، في هذا الصدد، ان الشبكة الأرمنية السرية أتاحت للبطريركية أن تظلّ مطلعة على مجريات الأمور وتنقل المعلومات المجمّعة إلى الأوساط الدبلوماسية. وروى البطريرك زافين انه كان يتلقى بانتظام أنباء عن قونيه بواسطة مسروب نارويان من طريق الموظفين في الخط الحديدي، وأنباء عن حلب، بطريق المصادفة أحياناً كثيرة، من قبل الكاثوليكوس ساهاك الثاني، الذي بعث إليه بفضل زوجة القنصل روسلر ترجمان السفارة الالمانية، هايك طايكيسانيان، بتقرير دقيق عن الوضع عندما توقفت قوافل المرحلين عن الوصول إلى حلب . ففي برقية أرسلها محمد طلعت إلى مصطفى عبد الخالق بتاريخ 1 كانون الأول 1915، شكا الوزير إلى صهره أن “القناصلة الأميركيين يحصلون على معلومات بوسائل سرية، جاعلين نفيه ظروف الترحيل أشد إثارة للشكوك. وقد كتب “انه لمن الأهمية القصوى بالنسبة إلى سياستنا الحالية أن يقتنع الأجانب الذين يتجولون هناك بأن الترحيل لا يتم إلاّ بهدف تغيير الإقامة. لهذا السبب، من الأهمية بمكان التحلّي موقتاً بسلوك ملؤه الرقة مراعاةً للظواهر وعدم تطبيق الوسائل المعروفة إلاّ في الأماكن الملائمة. واني لَموصيك بإلحاح في هذا الخصوص باعتقال الأشخاص الذين ينقلون الأخبار أو يقومون بالتحقيقات وتسليمهم بذرائع أخرى إلى المحاكم العرفية”. تفصيل مهم، تحمل هذه الوثيقة حاشية نائب المدير العام [للمرحلين]، عبد الاحد نوري الذي أُرسلت إليه البرقية .

الرئيس المصري يلتقي بقيادات الكنائس

“أرمن الإسكندرية”أشطر تجار في مصر..وملوك صناعة الأحذية..ومدموزايل”آن سيراكيان”أشهر حكيمات الثغر

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *