هل تبقى الابادة دون حساب ولاعقاب؟

موسى برنس * “القضية الارمنية: تحديات وتطلعات” بيروت – 1996 عايشت القضية الأرمنية بفخر ومحبة واجتهاد ثلاثين سنة ونيف، فالقيت بشأنها المحاضرات وكتبت عنها المؤلفات وأشهرها (Un génocide impuni: L’Arménocide). والذي أصبح فيما بعد الجزء الثاني من خماسيتي بالفرنسية بعنوان (Le Génocide). هذا بعد ان افتتحت شخصيا وبصفتي امين عام له مؤتمر Prophylaxie Criminelle في باريس بتاريخ تموز 1967. فلا حاجة بالتالي هنا في أسباب تلك الجريمة الابادية الشنعاء ومراحلها على ممر السنين وجلها قد تحقق في الربع الاول من القرن العشرين بخاصة كما نعلم وقد قام بها أكثر من حكم وحزب ورجل في السلطنة الحاكمة التركية، ظاهرة جد عنيفة ومخيفة أمر بها عهد السلاطين وعبد الحميد في الطليعة، وصولا إلى عهد جمهورية اتاتورك الرئاسية، مرورا بعهد الاشتراكية المزعومة والاخوة الملغومة في حزب “تركيا الفتاة” حزب العدالة والأخاء والحرية كما زعموا. فالقضية كانت تستحق اذا البحث والتدقيق في التحقيق والشرح اكثر من سواها من قضايا الابادة الجماعية في العالم، لأنها كانت ابادة مدروسة محسوسة من قبل القائمين عليها، وقد تجسدت فيها بصورة شبه متواصلة الابادة العنصرية والدينية والطبقية بغية قتل الجسم والفكر والروح معا وذلك انطلاقا من قطع الاعناق عند شعب مخلص امين صاحب وفاء وقومية، ويغير بالتالي مجرى التاريخ بعد النيل من معالم الجغرافية. لقد درست مطولا وفي مؤلفات عدة وقائع المجازر الشعبية الجماعية الأرمنية في كل بقعة من ارض موطن جبل “ارارات” وبحيرة “فان” فلا حاجة للعودة اليها، في كلمة افتتاح هذا المهرجان الدراسي، للبحث في جريمة الابادة الأرمنية وذيولها في المسؤوليات اكثر من الاسباب، اذ ان المطلوب منا اليوم هو الجواب على سؤال المسؤوليات وهو الذي يتردد في كل مكان من بلاد المعمور وعلى لسان كل انسان او كل ارمني فيها على الاقل، اذا لم نقل يجول في الفكر والحاضر تحسبا للمخاطر الا وهو “هل تبقى الابادة الأرمنية دون حساب ولا عقاب؟” أجل! لا بد من البحث بالامر لمعرفة مغذى السكوت الاجمعي عن تلك الجريمة الجماعية المتمادية البشعة النكراء والوقوف قدر المستطاع على سره، وبالتالي لا بد من التساؤل اما يحق للشعب الأرمني اولا وللشعوب المتحضرة على غراره. ثانيا ان يطالبوا في آخر القرن العشرين بجواب على السؤال ولو من أجل وضع السياسة الدولية في الغربال وفي ريادتها السياسة الاميركية على ما يبدو وهي تكلمنا بين الفينة والفينة عن نظام عالمي جديد على كل حال؟ هناك اذا مسؤوليات عدة لا بد من الرجوع اليها ولو اعلاما للذكرى والتاريخ لا سيما وانه لا يحق لنا ونحن بصدد تجرد تاريخي قانوني علمي ان نكتفي بتحميل تركيا المسؤولية كاملة غير منقوصة، مع انها تتحمل في الواقع المسؤولية الرئيسية الكبرى دون ريب من جراء تلك السياسة الابادية الشنعاء لأن مسؤوليتها هذه ناتجة عن عمل ايجابي في تنفيذ المؤامرة، واما مسؤولية الباقين من حلفاء لها او اعداء، فهي تعود للعمل السلبي دولا وافرادا مجسدة في السكوت عن مجازر جماعية بين حكم وحاكم وشعب مساهم في الاجرام ضد شعب اخر كان ضحية هذا الاجرام. في كتاب بالفرنسية (Les Enfants Errants) يقول الكتاب الفرنسي “هنري باربي” “Henry barby” بأن صوت الاولاد كان يتهم الجلادين الاتراك والاكراد. نشير إلى ذلك بادئ ذي بدء للانتقال إلى الوقوف ولو هنيهة أمام المسؤوليات الدولية العديدة في تنفيذ تلك المسألة الفريدة في بشاعتها دون ريب وهي التي كانت على اقل تعديل توطئة لمأساة بين اسرائيل في عهد النازية وحلفائها بخاصة. نعود بالتذكير في المسؤوليات الدولية العديدة انه إبان الحرب العالمية الاولى أو من بعدها وقد اردناها بادئين بالاحق انتقالا إلى الباقية ومن بعدها طالبين بالنتيجة الرجوع من اجل شرحها إلى مؤلفنا الانف الذكر. 1 – في المسؤولية النمساوية المجرية تكلم عنها “اولريخ ترمبرنر Ulrich Tremperner” الذي استقى اهم معلوماته من رسائل الكاردينال “اكسرنوخ Csernoch” بتاريخ 7 تموز 1916 إلى “تزا Tisza”، والثانية من هذا الاخير إلى “بوريان Burian” في 9 تموز 1916، كما من تدخل “ارزنغر Erzenger” والكنيسة النمساوية المجرية بواسطة اسقف “براغ ” “Leon Von Skzbensky” واسقف “فيينا P.R.” “Psiffl” وقد بقيا دون جدوى لدى المراجع السياسية في الامبراطورية النمساوية انذاك والتي لم تحرك ساكنا ولم تكترث لنداء لأن كل من Wilhelmstrasse, Ballhauspletz وقد بات في سكون مدقع مزري أما صرخة الدم ووحشية الامة التركية جنودا وشعبا. 2- في المسؤولية الالمانية عندما نتهم الاتراك بتقتيل النساطرة وابادة الأرمن وتجويع اهل الجبل اللبناني الاشم وتعليق المشانق للمواطنين في بلاد العرب اجمعين يجيبوننا وهم يحاولون التنصل من كل مسؤولية مرددين عباراتهم التاريخية الشهيرة “تعليمي الالمان Taalimi al alaman”، فهل هذا يعفيهم، حتى ولو ان هذا القول مشوبا بشيء قليل من الصحة، من المسؤولية؟ اما سبق لنا وسمعنا تاريخيا – واذ بالرئيس “ولسن Wilson” يقطع الوعود ويعطي العهود باسم الدولة الاميركية العظمى وفي آخر الحرب العالمية الاولى فلم يف في حينه لا بعهد ولا بوعد، وهل ان قول الرئيس “بوش Bush” وهو المحاضر بالنظام العالمي الجديد ويليه الرئيس “كلنتون Clinton” في نهاية هذا القرن سوف يكون ادق واصدق باسم من يمثل يا ترى؟ لقد قال ما قاله الرئيس الاميركي ابان حرب الخليج فجعلنا ننتظر الترياق من غير العراق ولكن وبسبب حرب العراق والحق يقال وكلنا امل بحق او بغير حق كما قيل وهل هو في خانة المستحيل؟ فلنتذكر… يتسائل البعض لماذا وعد الرئيس “ولسن” باحقاق الحق واعادة السلام إلى أرمينيا وهل رأت أميركا منذ الحرب الكونية الاولى وبالاستقلال عن واقع محالفاتها وعداوتها في تلك الحرب ان هناك ابادة ارمنية طاغية متمادية يجب وضع الحد لها والعمل على نسيانها؟ نجد الجواب على لسان غير الدولة الاميركية على كل حال، اننا نراه في المانيا النازية مثلا وليس في ألمانيا الامبراطورية حليفة الدولة العثمانية في عهد الابادة والتشريد دون هوادة لا سيما عندما قال الفوهر “ادولف هتلر” في الامر اليومي لجيش “الورماخت Wehrmacht” الزاحف على “بولونيا” في الحرب العالمية الثانية بيان على جنود الريخ الثالث ان لا يخافوا من قتل النساء والكهال والاطفال ولا يرتدعوا صارخا، من الأعماق وبقحة وحشية بلغت ذروتها: “من يسأل عن تقتيل الأرمن كبارا وصغارا وبالملايين في الحرب العالمية الاولى وليس من رادع او معاقب او سائل”. وإذا عدنا إلى المسؤولية الالمانية فلأن هناك مسؤوليات عدة لا بد من الرجوع اليها وسبق لنا وكتبنا بهذا الصدد: “Le Pangermanisme se servait du Panturquisme pour des intérêst allemands d’ordre politique, économique et militaire. Le Sultan, ne l’oublions pas, doit en grande partie à l’Allemagne l’échec du Traité de San Stefano et la paralysie du Traité de Berlin.” ولا يجوز الاكتفاء بالقول بأن اتجاه الروح التركية نحو ألمانيا لا سيما تنطبق “الريال بوليتك Real Politique” تجاه سياسي عائد لحنكة الدبلوماسية الالمانية البسماركية في “اسطنبول” وبخاصة في الربع الاخير من القرن المنصرم فقط بل للمنطق الذي لا يرد، وهو العائد للأحداث التاريخية في ذلك الحين. لقد ايدت المانيا الرسمية المتعطشة للسياسة السلطان عبد الحميد في مقاومته للتدابير الانكليزية. وهكذا تبنى الحكم الالماني موقفا مناهضا للأرمن والقضية الأرمنية حتى بلغت القحة الامبراطور غليوم الثاني إلى مبايعة ومصافحة من أسماه “كليمنصو” “Clémenceau” السلطان الأحمر “Le sultan rouge” و”غلادستون Gladestone” نعته بلقب “السفاح الأكبر “Le grand assassin” مما جعل المارشال “فون ولدرسي Von Waldersce” يكتب في يومياته مترجما في كتابنا إلى الفرنسية بعبارة: “Le voyage à Constantinople de l’Empereur a sanctionné les horreurs commises contre les Arméniens. Ce triste fait ne nous portera pas bonheur”. وبما ان تيار الابادة كان وراثيا عند الأتراك فهو لا يعود إلى عهد او سلطنة او حكم فردي او جماعي بل إلى العثمانية الحميدية ومن ثم إلى “تركيا الفتاة” وصولا إلى الانفجار الكبير الغني عن كل تعبير عنينا مذابح الحرب العالمية الاولى صاحبة مليون ونصف شهيد ومن بعدها الجمهورية الكمالية وهكذا قيل بحق: La grande aduratrice de la force, l’Allemagne se dressait à côté des renegats de la liberté comme pour les protéger”. ان صفحات كتاب القس ف. “نيومان F.Naumann” قد بنيت بصورة جد صريحة حتى لا نقول وقحة على الاهداف البانجرمانية، وقد عبر عنها تعليقا على مذابح 1895 – 1896 وذلك بالرغم من تعليقات زميله ومواطنه “لبسوس Lepsius” الذي لم يرضخ لمنطق القوة والسيطرة، فألقى حرمه على الفلسفة الالمانية التي، باسم السيطرة على العالم والتشبه بالامبراطورية الرومانية، حملت بلذة مسؤولية الابادة على غرار تحميل تلك الجريمة الجماعية المتمادية البشعة إلى الدول التركية. وإذا ما اردنا التدقيق غائصين في اعماق قضية الابادة الأرمنية واقعا وتاريخا نجد ان بعض الكتاب الالمان قد افتوا في بدء القرن العشرين بوجوب اتباع سياسة التهجير بالنسبة للأرمن لا سيما عقب مؤتمر انعقد في “برلين Berlin” وهكذا كتب “بول روهرنغ Paul Rohrnach” في صحيفة (Le Temps) في باريس بهذا الشأن ما يلي: “Il ya quelque temps on recommandait l’évacuation de la nation Arménienne; celle dispersée du côté de la mésopotamie serait remplacée par des Turcs, afin de soustraire le pays à toute influence russe, tandis que la Mésopotamie serait peuplée de fermiers dont elle a grand besoin”. فالهدف اذا كان جد مفهوما سلفا. لقد كانت ألمانيا قائمة بتنفيذ مشروع سكة حديد “بغداد” الذي هو ضمن مخطط مساهمة وضع اساس الامبراطورية الالمانية الممتدة من مدينة “همبورغ Hambourg” إلى الخليج العجمي او العربي كما يسمونه أحيانا. وأما بصدد التدخل الالماني المباشر في جريمة الابادة الأرمنية فلا بد من الرجوع بذلك إلى ما كتبه العلامة “غيبنز Gibbons” مطولا وهو يتساءل بحق: هل يمكن القبول بنظرية عدم معرفة السفير الالماني “فون فنغنهايم Von Vangenheim” ان هناك استحالة لالمانيا للتدخل في شؤون تركيا الداخلية؟ وكان يعني بذلك سياسية الابادة الأرمنية. وأنه ليس في الأمر على كل حال واقع بل مجرد إشاعات، ناهيك عن ان السفير الالماني في “واشنطن” عندما اراد ان يصبح في تعذر من معرفة نية حوادث المذابح التركية في كل الانحاء الأرمنية، اكتفى بالقول ان تركيا تدافع عن امنها وهي تضرب الثوار المتمردين. هذا مع العلم انه كانت لديه تقارير واهمها مبادرة من مدينة “الاناضول” حيث رأى مرسل ديني اميركي بأم العين كيف كان بعض الضباط الالمان يوجهون نيران المدفعية بأم العين كيف كان بعض الضباط الالمان يوجهون نيران المدفعية التركية بزخم ضد الشعب الأرمني المسالم من أجل الابادة ليس الا… وهكذا كانت الدولة الالمانية تناضل في عدة مدن تركية حيث الالمان متواجدون وهم يقومون بالدفاع عن السياسة العثمانية الابادية للأرمن المسالمين في كل مكان من تركيا وذلك لأن الألمان كانوا كما كتب بهذا الصدد Les gardiens de leurs frères” أي “حراس اشقائهم”. يا للسخرية. فالدولة الالمانية كانت اذا صاحبة مصلحة كبيرة وخطيرة في رؤية الأرمن يموتون في عقر ديارهم او ينزحون إلى الخارج مهجرين. ولكن كان لا بد من وجود بعض الالمان الاتقياء وجلهم من الارساليات الدينية وأهل الفلسفة والعلم، وفي طليعتهم الدكتور “لبسيوس” الذي ضحى بكل غال وبنفيس من اجل اسماع صوت شهداء الأرمن من رحم الجحيم الابادي مما اضطر “لبسيوس” هذا لهجر المانيا بغية امكانية اسماع صوته المعارض للسياسة العثمانية في الابادة والسياسة الالمانية المؤيدة لها والتي وان لم تشترك بصورة فعلية ظاهرة في كل مكان في واقع التشريد والتقتيل، والتي لم يعمل على وقف ذلك الاضطهاد الابادي الذي لم نر مثله الا في الحرب العالمية الثانية مع اليهود. هذا مع العلم أنه كان بامكان المانيا ان تفعل ذلك فلم تفعل وها ان “برلين” سكتت إلى الأبد وبقوة صوت “لبسيوس” القس “الومان Loman” والدكتور “راد Rade” وغيرهم القلائل على امل وضع حد للفضيحة. وإذا ما رجعنا إلى”اولريخ ترمبرنر” الآنف الذكر بهذا الصدد بالذات نرى انه اعطى في مراجعة هامة للمسؤوليات في ابادة الشعب الأرمني خلال الفترة الممتدة بين سنة 1914 و1918 النتيجة التالية الا وهي ان الاتحاد العسكري التركي الالماني كان السبب الاساسي والرئيسي في المسؤولية الالمانية. وهذا ما يبين بصورة واضحة في تقرير امين الدولة “جاغو Jagow” والمؤرخ في 19 ايلول 1916 والذي بالعودة إلى مؤلفنا بالفرنسية المنوه به اعلاه نقرأ بهذا الصدد وبقلم ذلك السياسي الكبير ما يلي: (من يصدقهم؟) “Nous avons fait tout notre possible il ne nous restait que de romper notre alliance, mais cela n’est pas possible. Ce qui aurait été plus raisonable, c’eut été de déclarer au moment opportun dans la presse allemande comme le suggérait le Prince Hohenlowe que nous autres nous n’avions aucune part dans les mesures prises par le gouvernment turc contre les Arméniens; en outre nous aurions dû faire une place plus large dans notre presse aux plaints contre ces mesures et nous n’aurions pas dû y permettre des démentis turcs. ولكن أصبح الوقت متأخرا وأضحى السكوت خيانة وهو في حلة تآمرية معروفا ومزعوما من الجميع وبالمناسبة نذكر ما ذكره الحبر الاعظم آنذلك في ندائه إلى الضمير الدولي: “Helas, les faits ont révélé sans laisser lieu à aucun doute que le but du partenaire des deux Empires européens (L’Allemagne et l’Autriche-Hongrie) dans cette entente était de s’assurer la liberté de commettre sans nulle entrave le plus horrible des crimes.” 3 – في مسؤولية دول الوفاق Les Pays de l’Entente لقد كتب بحق ان السياسي البريطاني “ديسرايلي Desrailli” وضمن اطار مناداته في “برلين” عمل على الغاء الاتفاق الروسي العثماني المعروف “بمعاهدة سان ستيفانو Traité de San Stefano” والذي كلف حياة عشرين الف أرمني في “أدانا” في سنة 1909 ومليون ونصف مليون ارمني بين سنتي 1915و1918. وهكذا اكتفت بريطانيا العظمى بكلمة شرف من “السلطان الأحمر” ليهادن الاتراك لا سيما وان الخصام كان على أشده بين روسيا وانكلترا، مما جعل العثمانيين يستفيدون من الخلاف ويدفع الأرمن الثمن باهظا بدمائهم. وفي المرحلة الاولى ايضا من الابادة أي قبل سياسة “تركيا الفتاة” بالذات ومن ثم السياسة التركية ابان الحرب العالمية الاولى، حاولت فرنسا ايضا غسل يديها على غرار بيلاطس البنطي، ولم تتحرك جديا أمام عدم تنفيذ المادة 61 من “معاهدة برلين Traité de Berlin” لسنة 1878، على الرغم من كفالة الحلفاء بحسن تطبيقها، وبذلك يكون تدخل الدول العظمى الحليفة اصبح شبه معدوم هذا بالاضافة إلى ان تدخل الامير الروسي “لوبانوف Lobanoff” لم يخدم الناحية الانسانية والوطنية في القضية وهو الذي كان معارضا صراحة لوجود مقاطعة أرمنية ذات امتياز في آسيا، خوفا من نشوء مملكة في المستقبل. وهو كان أول من فكر بإعطاء روسيا يوما “أرمينيا بدون أرمن”. هذا وقد حذا الرفيق “ستالين Staline” حذوه فيما بعد لما قرر. ونفذ ما قرر. وأما بخصوص فرنسا وعن المدة التي تسبق الحرب العالمية الاولى وبصورة خاصة قبل عهد “تركيا الفتاة” كان يقول وزير الخارجية “الفرنسي غبريال هانوتو Gabriel Hanotaux” أنه من الأفضل عدم التدخل في الخلاف التركي الأرمني. وهكذا بقيت “دول الوفاق” في وضع غير مشجع لحق القضية الأرمنية على المذبح التركي بدءا بالعهد السلطاني وصولا إلى العهد الديموقراطي المزعوم في سنة 1908. وأخيرا، وابان حرب 1914 – 1918 انذر الحلفاء تركيا بوجوب وضع حد لجريمة الابادة. وقد ظهرت مصالحهم على الساحة الدولية مهددين اياها بالحكم، ولكن يبدو والحال كما سبق لنا واوردنا في مؤلفنا، بقي رهن مصالحهم السياسية ليس إلا: “Les Turcs savaient par avance que le Traité de Sèvres finirait en Traité de Lausanne et que tout procès s’avérait d’avance improbable. كتب السياسي الكبير والسفير الاميركي الشهير “ماندلستم Mandelstam” في سنة 1917 وبصدد مسؤولية الجلادين المضطهدين الاتراك وواجب “دول الوفاق” ما يلي: “Considérons que le peuple turc est un peuple ignorant et primitif qui a été livré par des aventuriers au “Taalimi el Allenan”. Accordons lui des circonstances atténuantes que nous refusons aux grands criminels. Mais n’oublions pas les crimes. Nous n’en avons pas le droit. Comme ils l’ont proclamé, les chefs des gouvernements de l’Entente, il doit réparer, il doit restituer et surtout donner des garanties contre la répétition de semblables méfaits. فالاتراك لم يعوضوا بشيء و”مانلستم” هذا وبعد نصف قرن من كتابة تلك الأسطر الآنفة الذكر سوف يبقى جد متشائما ومخذولا امام الطريقة المتبعة من قبل الجميع في الحرب العالمية الاولى كما في الحرب الثانية ويا للاسف والعار. وهكذا ومن تاريخ “معاهدة سيفر Traité de Sèvres” التي كانت بمثابة الهجرة نحو الظلم حتى “معاهدة لوزان Traité de Lausanne” التي عززت تأكيدا واقعة “اللامبالاة الجرمية” عند الحلفاء، لا سيما وقد وجدنا عند تصفح التاريخ ان سياسة الابادة الكمالية لم تغير الشيء الكثير في السياسة العثمانية السابقة اذ لم يعد هناك من أرمن في الواقع للابادة المادية على ما يبدو. ان بيان فرنسا وبريطانيا العظمى وروسيا المشترك والؤرخ 23 أيار 1915 كان له حظ اقل بكثير من نظرة المؤرخ في 13 كانون الثاني 1942 على كل حال. لقد رفع “لويد جورج Lloyd George” واللورد “روبرسسيل Sir Robert Cecil” الصوت البريطاني عاليا معلنين يوم العدالة بالمحاكمة. واما “ديشانيل Deschanel” و”بريان Briand” و”كليمنصو Clémenceau” و”بوانكاريه Poincarré” و”ميلران Millerand” وغيرهم من بلاد الفرنسيس فلم يكونوا اقل حماسا وتأييدا، وجلهم كان مع وجوب تطبيق القوانين بحق الجلادين والحكم على المضطهدين. ولكن ما ان انتهت الحرب إلا واصبحت الوعود عند الحلفاء في اطار حق مسلوب غير موجود مما جعل الأرمن وحدهم مسؤولين عن الانتقام لشهدائهم واصبح لا حياة لأرمينيا الا بواسطة كفاح الأرمن في كل مكان وزمان. 4 – في مسؤولية الدول المحايدة: أميركا وسويسرا مسؤولية ايجابية للامبراطوريات الوسطى Empires Centraux. مسؤولية سلبية لبلاد الاتفاق Pays de l’Entente، فماذا كان بامكان دولتي أميركا وسويسرا ان تفعلا آنذاك؟ قيل لقد ساهمتا طيلة ردح من الزمن وكفلتا نشوء الأرمن على غرار اهل الغرب في عالم البشرية وذلك بعد بحث وتدقيق في التاريخ القديم والمعاصر، ولكن هذا كله لم يرق للعلامة “غبنز Gibbons” في القضية الأرمنية وهو الذي كتب بصراحة ما يلي: “Ne cherchaient-ils Grand Dieu que des victimes à parer pour le sacrifice? N’ont-ils pas affiné leurs disciples que pour la boucherie? Ne dites pas non car le résutlat final de tant d’efforts, c’est ce lamentable exode des arméniens arrachés de leurs foyers et menés sous le fouet turc jusqu’à la vallée de l’Euphrate”. فالمشروع السويسري “هلفسورك Helfswork” مثلا لم ير النور بسبب تعنت “ولف ماترنيك Wolf Metternich” . والفاتيكان بدوره لم يبخل بمداخلاته الا انها بقيت في عالم المثاليات، تدخل “بندكتس الخامس عشر Benoit XV” بصورة جلية وعلنية مع “برلين” و”الاستانة” في آن، من أجل وضع حد لخيانة تلبسها الاتراك في وعودهم. واما تدخل “باشلي Pacelli” و”دولسي Dolci” والكاردينال “فيلكس فون هرتمان Felix Von Hartmann” بخاصة، من اجل انقاذ الأرمن من المذابح بقي دون جدوى. وأما بصدد الولايات المتحدة الاميركية فتبين من دراسة “اولريخ ترمبنر” الآنفة الذكر ان الرئيس “ولسن” قد عمل كثيرا قولا لا فعلا للأرمن ابان الحرب العالمية الاولى كما سبق وذكرنا، ولكنه لم يتمكن من وضع حكومة “الاتحاد والترقي” في عداد اعداء الولايات المتحدة مثلا. وفي سنة 1917 تجدر الاشارة إلى ان تركيا هي التي قطعت علاقتها بالولايات المتحدة الاميركية ولولا تلك الجرأة العثمانية الوقحة لبقيت ربما العلاقات الدبلوماسية قائمة بين البلدين. فلماذا اذا التهرب من الحق والحقيقية؟ إن السياسة الرسمية الاميركية لم تترك مجالا يذكر لتدخل ممثليها على الاراضي العثمانية إبان الابادة الرئيسية هذه بصورة عامة، ولكن وفي الواقع فان تمسك الاميركيين بالصلاحية التحكيمية الدولية جعل “ولسن” يعطي قرارا تحكيميا بتارخ 22 تشرين الثاني 1920. وقد ظهر فيه الافلاس الدولي في اجلى مظاهره. وقد كتب السفير الالماني الكونت “ولف مترنيخ” إلى المستشار “بسمن هلويغ Chancelier Bethmann Hollwegg” مؤكداً مردداً: “Dans la réalilsation de son programme de solution de la question Armémienne par la destruction de la race arménienne, le gouvernement turc ne s’est laisser arrêter ni par nos représentations, ni par celles de l’Ambassade d’Amérique et du délégué du Pape, ni par les menaces des puissances de l’Entente ni le moins du monde par des égards pour l’opinion publique d’Orient. وخلاصة لهذا البيان المقتضب فان تركيا في جميع أنظمتها وعهودها فرضت على العالم جريمتها الإبادية، وإرادتها الوحشية والعالم لم يحرك ساكنا، بل طأطأ الرأس بخجل، ربما، ولكن دون وجل، وهو يئن من ضعف مشين حتى أمام آخر الجلادين الأتراك بعد سنة 1920، والذي قيل عنه أنه من صنع الغرب والديموقراطية. وكأن الكمالية ما هي بالنسبة للقضية الأرمنية إلا تكملة للعثمانية وتركيا الفتاة التي هلل لها الأرمن مع الأتراك في وقت من الأوقات ناسين أو متناسين قول الشاعر رحمه الله: “إذا كانت الطباع طباع سوء فلا لبن يفيد ولا حليب” لا يسعنا بعد التعرض ولو بصورة خاطفة موضوعية للمسؤوليات إلا أن ندخل وضع القضية الأرمنية في إطار القانون الدولي في مطلق الأحوال. لقد صار وضع “معاهدة لوزان” بتاريخ 6 آب 1923، وقد وردت عليها التعليقات من كل حدب وصوب إلا انها وإن اعترفت بالقضية الأرمنية فانها لم تجد لها حلا مناسبا لائقا سريعا. مما جعل اللجنة الأساسية للمهجرين الأرمن توجه بتاريخ 22 تشرين الثاني 1925 إلى أمين عام جامعة الأمم “الشريف سر جيمس اريك دروموند The Hon. Sir James Eric Drummond” مذكرة تشرح فيها وجوب حفظ حق الأرمن حتى بعد الإبادة وذلك وفقا للميثاق الآنف الذكر، كما وأن في مضمونها يوجد تعليق قانوني على كيفية تنفيذ المواد المنصوص عنها تحديدا من 38 إلى 44 منها، ثم عززتها مذكرة أخرى بتاريخ 25 كانون الثاني 1926 موجهة إلى المرجع نفسه توضح كيف ان الدولة الكمالية غير مكترثة لتعهداتها وهي غير عابئة بأية مراجعة بهذا الشأن. وأخيرا مذكرة ثالثة بتاربخ أول حزيران 1926 تعزز أيضا مضامين المذكرتين الآنفتي الذكر. زد على ما تقدم ان مطالعة العلامة “أندره مندلستم” الذي وجه بدوره دراسة قيمة بين فيها حق الأرمن على ضوء “ميثاق لوزان” شدد على نقطة حق الأرمن بالرجوع إلى المحكمة الدائمة للعدالة الدولية Cour Permanente de Justice Internationale وقد تسلم الأمين العام مذكرة موقعة أيضا من اللجنة المركزية لللاجئين الأرمن وهي بإمضاء “ل. باشليان L. Pachélian” و”مندلستم” ومؤرخة في 16 أيلول 1926 تلتها ثانية بتاريخ 2 آذار 1929. وقد أجابت الدولة التركية على تلك المراجعات بمذكرة هروب من الحقوق وتنكر للموجبات وهي مؤرخة في 25 شباط 1928. وأخيرا، وتعليقا على كل ما سبق قدمت اللجنة المركزية الأرمنية من جانب مجلس الأرمن بمذكرة واضحة مسهبة موحدة موقعة من جهابذة السياسة والقانون، عنينا “جيدل Gidel” و”لابراديل Lapradelle ” و”لوفر Le Fur” و”مندلستم” مؤرخة في 5 حزيران 1929، وربطها استشارة قيمة في القانون الدولي، يرجى العودة إلى مضمونها في مؤلفنا: (Un Génocide Impuni l’Arménocide) الآنف الذكر والذي نشر 1975. من كل ذلك، تبين أن فكرة الإبادة باقية عند الأترك، وهي قيد التنفيذ في كل ظرف يمكن الإستفادة منها. فلا رادع دولي يردعها باسم الحق والضمير والإنسانية. وإذا لم يحدث ذلك، فلأن عدم الإعتراف بالذنب من شأنه أن يجعل الجريمة الإبادية في حالة متأصلة متواصلة. وعلى كل حال، فان قرار مجلس الأمن بتاريخ 26 تشرين الثاني 1968 والمتعلق بهذا النوع من الجرائم، قد أكد أن لا مرور زمن على جرائم الحرب والجرائم الإنسانية وهو القرار المعروف بموضوعه هكذا: Imprescriptibilité des Crimes de Guerre et des Crimes Contre l’Humanité. ويبدو مثلا بالمناسبة، ومن تقرير بطريرك الأرمن في تركيا قدس “شنورك S.S. Cnork” والعائد لسنة 1973، ان فكرة الإبادة لا تزال موجودة ويا للأسف في الضمير السلطوي التركي، خلافا تماما لما حل في ألمانيا بعد إندحار النازية مثلا. وإذا لم يعد بالإمكان التكلم عن الإبادات الماضية إلا في إطار اقتلاع الفكرة من السياسة وإعادة الحق إلى نصابه وأصحابه ودفع التعويضات للشعب المتضرر، فهذا أقل ما يمكن المطالبة به. وعلى كل حال، وأما بشأن أية محاولة إبادة مستقبلية في هذا المضمار، فلم يعد وجود المحكمة الدائمة للعدالة الدولية حبر على ورق، ولله الحمد، حتى لو حصل ذلك بعد نصف قرن من صدور قرارات هيئة الأمم، لا سيما بما سمي قانون الرقم 10 للأمم المتحدة. لقد بدأت تلك المحكمة جلساتها في “لاهاي LaHaye” أخيرا بمناسبة الحرب البوسنية. أكتفي بهذا القول اليوم، تاركا لخماسيتنا الآنفة الذكر، التوسع أكثر، وكشف أسرار تطور الأمور من محاكمة “نورمبرغ” الدولية حتى أيامنا هذه وخلاصة الخلاصة، لن أذيع سرا اذا قلت أنني تأملت – وأنا منذ نصف قرن تقريبا أراقب عن كثب جريمة الإبادة في العالم، وفي كل مكان وزمان، أن لا أترك هذه الفانية، قبل أن تقلع جذور فكرة الإبادة الجماعية من هذا العالم، او على الأقل أن يحاسب عليها. وعلى الله الإتكال. على تركيا ان لا تقترف إبادات بعد اليوم إيجابية كانت ام سلبية لا سيما المبنية منها على العنصرية والدينية والحزبية وما اشبه. واما بخصوص الماضي فعليها بالتعويض قدر امكانها وقد فعل ذلك سواها من الدول. وعلى كل حال عليها بتعويض مادي او اي تعويض آخر ان تثبت للملأ حسن نواياها، فتعترف اولا بذنبها ومن “اقر بذنبه لا ذنب عليه” يقول المثل بحق. هذا ما ادعو اليه شخصيا ومن صفوف المحايدين اصلا، اما وقد التزمت بالقضية الأرمنية منذ ثلاثين سنة تلقائيا ودون تكليف وافتتحت بها مؤتمر باريس سنة 1967 كما ذكرت اعلاه فلأنها قضية حق وعدل وانصاف قبل كل شيء والحق يعلو ولا يعلى عليه لا بالسياسة ولا بالمصلحة ولا بالفائدة حتى لا تبقى جريمة ابادة الشعب الأرمني غير معاقب عليها ولو معنويا والحق يقال شئنا ام ابينا ملايين الشهداء ينظرون الينا من عليائهم لا مجال، بل يجب العمل على بعث الآمال بين الأمم والرجال. أما وقد ظهرت اخيرا الدولة الأرمنية المستقلة على الساحة الدولية فالمطلوب اليوم هو تكوين ملف الابادة خلال المئة سنة بعيدا عن العواصف والتحديات والمهاترات والمناظرات واحالته إلى المحكمة الدولية في لاهاي حيث اصبحت الهيئة الجزائية الحكومية مكونة وجاهزة للتحقيق والحكم، ليصار إلى الحكم على الدولة التركية مع الأخذ بعين الاعتبار استحالة محاكمة الافراد ووجوب تطبيق مرور الزمن بالنسبة للعقوبة الجزائية فقط في الجريمة الإبادية المتمادية حتى تاريخ بدء صلاحيات المحكمة في المحاكمة الوجاهية. وهكذا يحكم للدولة الأرمنية ممثلة الأرمن في كل مكان وزمان بالتعويض المعنوي والمادي وبتصحيح الحدود واعادة الارض المسلوبة وبالتالي احقاق الحق واعادته إلى أصحابه باسم الحق والقانون والانسانية والسلام. * استاذ قانون العقوبات العام في جامعة الحكمة

السياسة التركية والقضية الارمنية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تقرير طلعت باشا حول الإبادة الجماعية الأرمنية

أرشيف