جريدة الدستور الاردنية 11تموز/يوليو2009 بقلم راكان المجالي في أواخر الستينات عندما قررت الزواج وفقني الله بالعثور على منزل من غرفتين وبرندة في حي الارمن في الاشرفية ، كان بيتاً مريحاً لكن كان الجوار الارمني الهادىء والراقي بما فيه من ألفة وبساطة مؤنساً لنا في بداية حياة جديدة.. وكسبنا أصدقاء بالاضافة الى التعرف على تميز الارمن الحرفي وغيره ، وقبل عامين تعرفت على الأب فاهان مطران الارمن في الاردن ووجدته مثقفاً ومتابعاً لما أكتب ويذكر تفاصيل نسيتها ، وعندما قلت له أنني أشعر ان الارمن شكلوا اضافة نوعية لمجتمعات المدن العربية وأسهموا في تطوير الحياة وتسهيلها ، فسألني اذا كنت ممتناً للأتراك الذين تسببوا في وصول الارمن للمدن العربية فقلت له أنني ممتن بمقدار امتنانه ان يكون بيننا. حول بدايات الارمن في عمان نستعير من زميلنا الاستاذ محمد رفيع ما أورده في كتابه «ذاكرة المدينة» حيث يعيد طباعة المجلدات الثلاثة من «ذاكرة المدينة» بمناسبة مئوية بلدية عمان وهذا هو النص: بامتياز يمكننا القول ان هذا عام الارمن في عمان.. بمعنى العام الذي بدأ فيه تشكل نواة حي الارمن في الاشرفية. لم يكن الامر مصادفة.. ولم يكن مخططاً تماماً.. كانت حكايا من الحزن والالم تتدافع بالناس من أمكنة بعيدة نحو عمان. لم يكن لحي الارمن ان يتشكل في مكانه دون رعاية «هايك بلتكيان». بل ربما يصعب انكار فضل «هايك» على معظم القادمين الارمن الى عمان. فهايك «خياط الجيش» جاء الى المدينة منذ سنوات طويلة حيث استقرت اوضاعه بشكل سريع وتحول الى أحد اثرياء المدينة. غير ان «هايك» رغم ثرائه لم ينس «مذبحة الارمن» في «ارمينيا» وتحول الى كفيل ومعرف لكل ارمني قادم الى عمان. بل تجاوز «هايك» ذلك الى المساعدة المباشرة لبعضهم. فها هو يساعد «د. دانيال تلينيان» على فتح عيادة لطب الاسنان في شارع فيصل وهذا «جيرار الارمني الميكانيكي» و «أواديس الارمني الخياط» وبائع الالبسة القديمة في شارع الرضا.. وربما تساعد هذه الحكاية على رواية قصة «حي الارمن» و«هايك بلتكيان»: .. لم أكن اعرف ان عمان تغمض عينيها كل ليلة على كنز مسحور من الحكايا. «زاروهي بلتكيان» أو كما تختصر «زاروك بلتكيان».. من اقدم «خياطات عمان».. ان لم تكن اقدمها.. «كنا في «ديار بكر» انتم تسمونها هكذا.. اسمها عند الارمن «ذكرا ناكيرت» وهو اسم ملك الارمن قبل «يسوع» ويطلقون عليها ايضا «بلد النحاس».. ومعناها «معمر ذكران».. اي ذكرى من بناها.. «كانت هجرتنا بعد نيسان 1915 .. تفرق الارمن.. قسم هاجر الى «الاسكندرون».. وقسم تفرق بين سوريا والاردن ولبنان. واستطردت السيدة «بلتكيان» في وصف مسار حياتها قبل الوصول الى عمان: «كنا خمس اخوات» ووالدي ووالدتي.. ثم عدنا الى تركيا مع بداية الحرب العالمية الاولى.. ثم عدونا ثانية الى الاسكندرون.. وبدأ والدي بالعمل بالتجارة في بيروت.. وكانت تجارة بسيطة.. بيع الدجاج والفواكه بسيارة ثم العودة ثانية.. ثم تنهدت السيدة «بلتكيان» واكملت: ثم جاء الفرنسيون وحكموا الاسكندرون.. ثم سلموها للاتراك.. لقد انسحبوا في «ليل» دون ان يخبرنا أحد.. سيطر الخوف علينا.. حين وصل الاتراك بعد الفرنسيين كانوا منهكين.. لقد جاء العسكر التركي الى الاسكندرون مشياً على الاقدم.. وسقطوا على الشاطىء مهدودي القوى.. لم يستطع الارمن هناك ان يتركوهم يموتون.. لقد اسعفوهم بالماء الذي كان ينقل من الآبار من مسافات بعيدة..، ثم انتقلت السيدة «بلتكيان» الى محطة اخرى: «.. في الثلاثينات وبعد ان جاء الاتراك ذهبنا الى سوريا لعمل جوازات سفر كي ننتقل الى عمان.. سكنا في حي الصالحية وبقينا هناك سنتين حتى تمكنا من عمل جوازات السفر». وتقول السيدة «بلتكيان» في وصف الرحلة الى عمان: «… لقد عاملنا العرب في سوريا بمحبة واحترام شديدين.. لقد كانت معنا وثيقة موقعة من الشريف حسين بن علي.. تطالب جميع العرب بالتعامل معنا كأهل.. ما تزال الوثيقة معي الى اليوم». والذي كان له ابن عم هو «هايك بلتكيان» موجود في عمان قبلنا.. وكان مكلفا بالخياطة للجيش الاردني والانجليزي.. كان يفصل «الزنار الاحمر».. «هايك» كان محبوباً وملتزما بعمله.. حين وصلنا عمان «بالترين» ونزلنا بالمحطة.. استقبلنا هايك بسيارة اميركية وكان ساكنا في جبل عمان في شارع عصفور.. وكان اول من عمّر بيتاً هناك. «هايك» كان غنيا.. لقد سكنا عنده فترة من الزمن.. ثم بدأنا العمل بالخياطة للجيش.. وانتقلنا للسكن في المحطة.. قرب الجيش وعلى السيل مباشرة.. قرب حي الصناعة. انتقلنا الى هناك لسهولة توصيل المواد الى الجيش.. كنا «نخيط» العراوي.. وبعدها عمل والدي في قوة «الحدود» ولم يعجبه.. وادعى الجنون وخرج من الجيش.. ثم عمل في سوق الخضرة.. اما باقي العائلة فكانت تعمل «بالعراوي» لتغطية الجيش الانجليزي في الحرب العالمية الثانية. اما انا فلم اشأ ان اكون عالة على والدي.. فمن «السيل» جئت الى هذا المنحدر «حي الارمن ـ الاشرفية» واستأجرته من ابن عم لي «ابراهيم بلتكيان».. هكذا بدأت حكاية حي الارمن في الاشرفية من معسكرات الجيش في المحطة الى ضفة السيل الجنوبية ثم صعودا الى سفح الاشرفية. وما زال الارمن و«حيهم» جزءاً من حكايا المدينة التي لا تنتهي.. هذه الحكايا التي يحلو لذاكرة الناس استعادتها في الشتاء وحول مواقد النار في الاشرفية.. تلك الحكايا التي يخيل للناس من فرط استعادتها مرات ومرات وكأنها حدثت تماما كما يرويها كبار السن. كانت المدينة تسمع حكايا الناس واحزانهم.. ثم تسلمهم الى النوم واحدا واحدا لتكون آخر من ينام قرب النهر. التاريخ : 11-07-2009