الشتات الارمني والارتباط بالارض

د. عدنان السيد حسين * “حق تقرير المصير” بيروت – 1998 ثمة مفارقة في حياة الشعب الارمني بعد موجات الإبادة والتهجير هي: الارتباط بأرمينيا الوطن الأم في الوقت الذي تكيف الأرمن مع البلدان التي أقاموا فيها وحصلوا على جنسياتها المختلفة . كيف يمكن لشعب أن يبقى مشدوداً إلى قضيته القومية الكبرى – على اختلاف أحزابه وفئاته الاجتماعية والسياسية – وهو يشارك في الحياة الوطنية العامة لكل دولة يعيش فيها؟ إنها خصوصية الشعب الارمني والقضية الارمنية ، ولعلها ناتجة عن صنوف القهر التي عاناها، والخبرة الطويلة التي كسبها في عالم الشتات . كيف تبدو هذه الخصوصية في ضوء الارتباط بالأرض ؟ ا- عالم الشتات منذ أواخر القرن التاسع عثسر والتهجير الارمني مستمر ومتصاعد تحت وطأة المجازر الدموية والسيطرة على أراضي أرمينيا التاريخية . التهجير الأول إلى سوريا وخصوصاً حلب ودير الزور ودمشق . ومن سوريا إلى بلدان عربية أخرى مثل فلسطين ولبنان والعراق ومصر. ومن البلدان العربية أتجه الأرمن صوب الولايات المتحدة الأميركية وأستراليا وفرنسا وكندا… أخذ الشعب الارمني المشرد ينظم حياته في عالم الشتات، فأشاد المدرسة والكنيسة والأندية الحزبية والثقافية، وانصرف إلى الأعمال الحرفية والتجارية فأتقنها. ثم انتقل هذا الشعب إلى مرحلة جديدة في حياته ونضاله عبر طرح القضية الأرمنية في المحافل الدولية ؟ حتى إذا حلت الذكرى الخمسون للمجازر الأرمنية (1965) برزت القضية الأرمنية في السياسة الدولية أكثر من أية مرحلة سابقة . اندمج الشعب الأرمني في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدول التي أقاموا فيها، فدخلوا البرلمان والحكومة، وأقاموا المؤسسات التجارية والحرفية . وفي مجمل الأحوال والظروف بقي هذا الشعب مرتبطاً بأرضه ، ومشد وداً إلى قضيته، له فنونه وثقافته وحضارته المتجلية في صور شتى،دون أن يتخلى عن اللغة القومية : اللغة الأرمنية . منذ نشوء جمهورية ارمينيا السوفياتية وحتى استقلالها في العام 1991 ، شكل مجموع الارمن في عالم الشتات ضعف عدد السكان الارمن في هذه الجمهورية وغيرها من الجمهوريات المستقلة، مثل: روسيا ، اوكرانيا ، جورجيا. اما الارمن المقيمون في اذربيجان فقد اضطروا لمغادرتها بعد تأزم مشكلة كاراباغ، وكان عددهم نحو اربعماية الف ارمني . مع غياب الأرقام الدقيقة لمجموع الشعب الأرمني حتى نهاية العام 1996، داخل أرمينيا وفي عالم الشتات، يمكن طرح أرقام تقريبية تبين خارطة الانتشار الأرمني في العالم . نحو ستة ملايين نسمة يعيشون في عالم الشتات، وأقل من أربعة ملايين نسمة يعيشون في أرمينيا وعدد من الجمهوريات المستقلة. بتعبير آخر، ربما يصل مجموع الشعب الأرمني إلى عشرة ملايين نسمة . وكما في بداية العشرينات من القرن العشرين فأن عدد أرمن الشتات يزيد عن عدد الأرمن المقيمين في أرمينيا الحالية بصورة واضحة في نهايات القرن العشرين. ينتشر الأرمن في الدول العربية الآتية : سوريا، لبنان، العراق، مصر، الكويت، الأردن، فلسطين (القدس) . وهم منتشرون كذلك في دول مختلفة : الولايات المتحدة ، فرنسا ، إيران، الأرجنتين، إنكلترا، تركيا، أستراليا، البرازيل، بلغاريا، ألمانيا، كندا، اليونان، الأوروغواي . من المؤكد أن البلدان الأساسية للانتشار (يزيد عدد الأرمن في كل بلد عن مئة ألف نسمة ) هي حسب الترتيب الآتي: الولايات المتحدة أكثر من مليون نسمة. فرنسا أكثر من 350 ألف نسمة. ايران أكثر من 240 ألف نسمة . لبنان أكثر من 180 ألف نسمة . سوريا أكثر من 130 ألف نسمة. الأرجنتين أكثر من 100 ألف نسمة. إذا ما عرفنا أن عدد الأرمن في تركيا لا يزيد عن 75 ألف نسمة، ندرك وطأة التهجير والإبادة التي حصلت سابقاً. أما عن الانتشار في سائر الدول الأخرى، فإنه يقل عن 50 ألف نسمة، ويصل أحياناً إلى بضعة آلاف فقط. كيف يترابط هذا الشتات ويتواصل ؟ فضلا عن صلة الرحم والقرابة العائلية والعشائرية ثمة جمعيات وأحزاب أرمنية منتشرة، ومعها صحف ومجلات ومنشورات ومدارس وجامعات . . . هذا بالإضافة إلى النشاط الأرمني البارز بعد الذكرى الخمسين للإبادة، والاتصال بالمحافل الدولية، والتعاون المشترك بين أرمن الشتات لطرح القضية. قد يختلف الشعب الأرمني سياسياً- داخل أرمينيا وخارجها – ويتوزع على أحزاب شتى، و لكن يبقى مشدودا إلى أرمينيا والقضية القومية . هذا هو الجامع المشترك لأرمن الشتات، وبينهم وأرمن أرمينيا الحالية. 2- الأرمن في لبنان والبلدان العربية شارك الأرمن على مختلف المستويات في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية العربية، واكتسبوا جنسيات لبنانية وسورية ومصرية وعراقية وأردنية وفلسطينية … برزت في لبنان مشاركتهم السياسية في مجلس النواب والحكومة ، وانتظموا في ثلاثة أحزاب هي: الطاشناق، الهنشاق، الرامغافار. وشادوا عشرات المدارس والكناس، وأسسوا عدداً كبيراً من الجمعيات الثقافية والرياضية والاجتماعية . اللافت في التجربة الأرمنية اللبنانية عدم انزلاقهم إلى المشاركة في الأزمة الداخلية – ذات العوامل والتعقيدات الإقليمية والدولية – فلم يدخلوا النزاعات الطائفية المذهبية، وبقوا على وئام مع سائر اللبنانيين، فاستحقوا الاحترام والتقدير. هذا عدا عن مساهماتهم المشهودة في حقول الصناعة والحرف والتجارة . يتوزع انتشارهم اللبناني بين بيروت والمتن والبقاع، وهم كسائر الأرمن في عالم الشتات يتحدثون عن القضية الأرمنية والثقافة الأرمنية، في الوقت الذي يقومون فيه بواجباتهم اللبنانية . وفي سوريا – حيث محطتهم الأولى – شكلت مدينة حلب مركزا مهما لهم. وتوزعوا مجموعات عدة في مدن أخرى: دمشق دير الزور، حمص، حماه، القامشلي، الحسكة، اللاذقية وكسب … وكما في لبنان دخلوا الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية . ولهم عشرات الكنائس والمدارس والصحف والمنشورات والجمعيات … ومن سوريا إتجه عدد من الأرمن إلى شرق الأردن وفلسطين . وقد تأرجح عددهم بين صعود وهبوط، وهم يفوقون الألفي أرمني في الأردن، وأقل من هذا العدد في مدينة القدس، حيث احتفظوا بكنائسهم وأديرتهم وممتلكاتهم على رغم الإجراءات القسرية للاحتلال الاسرائيلي. بل يمكن القول أن الأرمن الموجودين في الضفة الغربية أيدوا إنتفاضة فلسطين (1991-1987) والقضية الفلسطينية . أما الانتشار الأرمني في مصر (8 ألاف)، والعراق (12 ألف)، والكويت (7 ألاف)، فهو ضعيف من حيث العدد.. ولم تسجل إشارات سلبية على هذا الانتشار في الماضي والحاضر. يبقى أن الشعب الأرمني المقيم في البلدان العربية متآلف مع الشعب العربي، ومتفاعل معه في قضاياه الحياتية والمصيرية . وقد ساهم الشعب الأرمني في مظاهر العمران والتقدم العربية،وأيد القضايا العربية بما يتيق. في المقابل، تعاطف العرب مع القضية الأرمنية، وساعدوا على طرحها وتعريف الناس بها. كان يمكن للتعاون العربي – الأرمني أن يكبر ويتعاظم لو أن هنالك إستراتيجية عربية مشتركة، تتنبه لأهمية مساندة حق الشعب الأرمني في تقرير مصيره، ولضرورة الإفادة من جهود الشعب الأرمني في دعم القضايا العربية العادلة . هذه مهمة مستقبلية تنتظر التعاون المستمر القائم على التخطيط . 3- الذاكرة القومية لا نغالي إذا قلنا أن معظم الدراسات والبحوث الأرمنية مبنية على الذاكرة القومية بما تحمله من خصائص ومفاهيم ومنطلقات . ثمة ربط موضوعي بين الماضي والمستقبل، وتواصل حقيقي بين الأجيال الأرمنية من الأجداد إلى الأحفاد. لا تزال الذاكرة القومية تشحن الإيمان بالقضية الأرمنية، وتدفع الشعب الأرمني إلى طرح قضيته على كافة المستويات، ومن خلال وسائل مختلفة: تنظيم التظاهرات الشعبية في عالم الشتات، تشكيل لجان الدفاع عن القضية الأرمنية، الاتصال بالمحافل والمؤسسات الإقليمية والدولية… كما بقي، ويبقى التراث الأرمني حياً في نفوس الشعب الأرمني، داخل أرمينيا وخارجها. ثمة تعلق بمكونات هذا التراث من فنون وآداب ، كالشعر والرقص والغناء… وتنشط الجمعيات الأرمنية على صعيد إحياء التراث في عقول الناشئة، بما يؤكد على الانتماء الحضاري إلى الأمة الأرمنية . وكثيراً ما تعمل هذه الجمعيات، وغيرها من اللجان ومراكز البحوث والدراسات على طرح التاريخ الأرمني في كافة مراحله منذ العصور القديم . هذه بعض مقومات طرح القضية الأرمنية في نهاية القرن العشرين، اعتماداً على الذاكرة الأرمنية الفتية، واستناداً إلى مبدأ حق تقرير المصير الذي أقرته الشرائع السماوية والوضعية. ويمكن للمراقب أن لمح هذا النشاط في طرح القضية على غير مستوى، وفي عموم البلدان التي تضم مجموعات الشعب الأرمني. يبقى أن للكنيسة الأرمنية دوراً في حفظ التراث، وتغذية الذاكرة القومية . ولا يمكن الفصل بين التراث والذاكرة القومية، كما صعب الفصل بينهما والتطلعات المستقبلية للشعب الأرمني في عالم متغير. وكثيراً ما تجاهلت القوى الكبرى في هذا العالم حق تقرير المصير للشعب الأرمني وغيره من الشعوب المناضلة. غير أن الذاكرة القضية بقيت تحرك وتحرض الضمائر والنفوس، والشعب الأرمني يعول عليها في تحقيق تطلعاته المستقبلية . يطرح استقلال أرمينيا – السوفياتية سابقاً جملة مهمات على الشعب الأرمني، في طليعتها التمسك بمبدأ حق تقرير المصير، وطرحه بقوة في المحافل الدولية . هذه ليست مهمة أرمن أرمينيا وحسب، وإنما كافة مجموعات الشعب الأرمني المنتشرة في عالم الشتات. ثمة مصالح أرمنية في استقرار العلاقات بين أرمينيا والجوار الإقليمي، وخصوصا مع جورجيا وإيران وروسيا، في الوقت الذي يجري العمل لاستعادة ناغورنو كاراباغ إقليما أرمنيا كما كان عبر التاريخ . قد تفيد أرمينيا من التنافس التقليدي المثلث الأطراف بين روسيا وإيران وتركيا، لكن الخطورة تكمن في الدخول كطرف مباشر في هذا التنافس الذي قد يتحول إلى صراع مستجد على الموارد والمواقع في القوقاز وآسيا الوسطى. وقد تفيد القضية الارمنية من تطورات الوضع الداخلي التركي تحت وطأة عاملين مهمين : الصراع بين تركيا الطورانية وتركيا الإسلامية، وبروز المسألة الكردية التي غدت متحركة وأحياناً متفجرة . لقد التقت المصالح الأرمنية والكردية في إضعاف أنقرة ، وهذه ملاحظة تستأهل التفكير والتأمل في المرحلة المقبلة . مهما تطورت المعطيات الإقليمية والدولية، وخصوصاً في بلاد القوقاز، تبقى القضية الأرمنية مطروحة . فالشتات الأرمني ما يزال مشدوداً إلى قضيته، ومحافظا على تراثه الحضاري الذي تغذيه الذاكرة القومية . وثمة دور مهم للشعب الأرمني المقيم في لبنان والبلدان العربية الأخرى في طرح هذه القضية والدفاع عنها، وإبراز مبدأ حق تقرير المصير في نهاية القرن العشرين ليس على صعيد القضية الأرمنية وحسب، وإنما على صعيد مجمل القضايا العادلة في هذا العالم المتغير. قد يتعاظم هذا الدور الأرمني إذا ما انتقلت العلا قات العربية – العربية من طور الانقسام والنزاع إلى مرحلة التخطيط الإستراتيجي المشترك . * استاذ في الشؤون الدولية في الجامعة اللبنانية

السياسة التركية والقضية الارمنية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تقرير طلعت باشا حول الإبادة الجماعية الأرمنية

أرشيف