Middle-East-Online.com 15 كانون الثاني/يناير 2011 لا تختلف الأمة عن الفرد من حيث الأداء والتبعات، فما يتركه الفرد من ذكرٍ، حسناً كان أو سيئاً، تتركه الأمة، ويعظم مثل هذا الأثر إذا تخطى محيط الأمة الأصل، فهو ينبع من المسؤولية، وبحجمها تتسع دائرة الأثر أو تقل، وقد خلقت عملية الاحتكاك بين المسلمين وغيرهم من الشعوب غير المسلمة حالة من القبول أو الرفض تبعاً للمسؤولية التي يظهرها القادم من وراء الحدود تاجرا كان أو محاربا، مهاجراً كان أو لاجئاً، وطبيعة تعامله مع أهل الدار، ومدى التزامه بالنصوص القرآنية القطعية الرافضة لحمل الآخر على دخول الإسلام خلاف إرادته. من هنا فإن الأمة التي احترمت إرادة الأمم الأخرى، ساهم مسارها في تثبيت قواعد العلاقة الأخوية تحت شعار الإسلام الذي رفعه الإمام علي بن أبي طالب (ع) في عهده لواليه على مصر مالك الأشتر النخعي المستشهد في بلدة الخانكة (المرج الجديدة) خارج القاهرة عام 37 هـ، : “فإنهم – الناس- صنفان إما أخ لك في الدين وإمَّا نظير لك في الخلق” (نهج البلاغة: 3/605، كتاب: 53)، وهذا التصنيف في واقعه ليس تنظيرا أو حبراً على ورق أو جلدة غزال نعلقها على جدار غرفنا وصالاتنا للزينة، وإنما هي ممارسة وأداء تنزل من علياء الجدار الظاهري إلى علياء الأرض الواقعي، فالمجتمعات المسلمة التي طبقت هذا المفهوم القيمي مع نظيراتها من المجتمعات الأخرى كانت على قدر من المسؤولية والتزامها بمفهوم التعامل مع الآخر الإنساني، وبفضل هذه المسؤولية نجد بعض الكتابات وحتى يومنا هذا يذكر المسلمين الذين حلُّوا على بلدان الأرض بالخير، وهذا التوجه ليس منَّة على المسلمين بقدر ما هو تثبيت لحقيقة أتى بها الإسلام وطبقتها الأمة الإسلامية في بعض مراحلها، وهي دعوة قائمة حتى اليوم. ولهذا، فان الأمة الأرمينية على سبيل المثال، وإلى اليوم تذكر المسلمين الذين دخلوا أرضها في القرن الأول الهجري بخير، بل يعتقد البعض أن أرمينيا عاشت أول تجربة حكم ذاتي في العهد الإسلامي كما يذهب إلى ذلك الباحث السوري الأرمني المعتقد المولود في حلب عام 1954 الدكتور أواديس بن أرشاور استانبوليان وهو في معرض إعداده وتقديمه وتعليقه على كتاب “الإسلام في أرمينيا” للمحقق الدكتور الشيخ محمد صادق الكرباسي الذي صدر نهاية عام 1431 هـ (2010) عن بيت العلم للنابهين ببيروت في 72 صفحة من القطع المتوسط، وهو أمر ذهب إليه المؤلف وهو يستعرض حركة التاريخ الإسلامي في أرمينيا ودخول المسلمين إليها في العام 25 هـ بقيادة حبيب بن مسلمة الفهري (2ق.هـ- 42 هـ) وعلاقة الحكومات الأرمينية بالعاصمة الإسلامية عبر التاريخ، ويشهد على مظاهر العلاقة الحسنة كما يقول المعد: (عهود الصلح وكتب الأمان المحرَّرة من قبل الخلفاء العرب حول حق الأرمن في ممارسة شعائرهم الدينية والحفاظ على تقاليدهم بكل حرية وأدى هذا إلى خلق جو ملائم لنشاط الأرمن في الخلافة العربية وأفسح المجال أمام مشاركتهم في الحياة الإقتصادية والسياسية والثقافية للدولة. وسجَّل التارخ صفحات مشرقة من النضال المشترك لأمراء الأرمن والعرب ضد الدولة البيزنطية والغزاة الأجانب). رسول السلام ولا يخفى أن كثيراً من أهل أرمينيا تقبلوا الإسلام طواعية، فهو دين الفطرة، وكان فيهم الكثير من القادة والأعلام الذين أثروا العالم الإسلامي، ولاسيما في مجال الأدب واللغة والطب، وتظل اللغة العربية هي الرسول إلى الأمم الأخرى، فهي التي تدخل قلوب الناس وعقولهم دون الحاجة إلى إشهار السيف، ولأن اللغة العربية هي لغة الأدب فإنها أقرب الى القلوب، وهذا الأمر تحقق بقدر مع الشعب الأرمني كما يذهب إلى ذلك البحاثة الكرباسي، ولذلك ظهر أدباء أرمن كتبوا باللغة العربية، كما: (إن العديد من الكتابات في أرمينيا والنقوش العربية على الحجر التي تعود الى القرون الوسطى تشهد على رواج اللغة العربية وعلى المكانة الرفيعة التي احتلتها هذه اللغة في النفوس، ولعل من أقدم هذه النماذج تلك المسماة بكتابات “زفارتنوتس” التي يعود تارخها الى الثلث الثاني من القرن الثاني الهجري – النصف الثاني من القرن الثامن الميلادي- وقد تنوعت مثل هذه الكتابات حتى أصبحت منتشرة بكثرة في جميع أرجاء أرمينيا)، ويضيف الدكتور استنابوليان معلقا على كلام المحقق الكرباسي: (إن المعاملات والأعمال الديوانية المختلفة كانت تجري باللغة العربية. ووفق المصادر فقد كانت طبقة التجار والإقطاعيين من أكثر شرائح المجتمع استعمالا للعربية كما وانتشرت العربية لدى ممثلي الطبقة العليا في المجتمع كأسرة الباقرادونيين والزاكاريين وغيرهم، ومن آثار ذلك انتشار الأسماء العربية لدى ممثلي هذه الطبقة وانتشار الزيجات المخلتقة أيضا)، لكنه في الوقت نفسه يرى أن لتأير حصل بشكل واضح مع الأرمن الذي هاجروا وعاشوا في بلاد الشرق الأدنى، حيث: (تحولت- اللغة العربية- إلى وسيلة تواصل يومية ولغة إبداع رئيسة لبعضهم ومنهم من دوّن نتاجه باللغة العربية رافداً بذلك الحضارة العربية) ويضيف الدكتور استانبوليان، لقد: (تحولت اللغة العربية إلى لغة قريبة من قلوب الأرمن القاطنين في الدول العربية لأنها أصبحت وسيلة للإحتكاك والتواصل الحضاري مع الشعب العربي الشقيق ودخلت في أرمينيا الأبحاث المتعلقة باللغة العربية نطاق البحث الأكاديمي ولقيت رواجاً في مراكز الدراسات واليوم يزداد باطراد إهتمام أبناء شعبنا تجاه لغة الشعب العربي الصديق ولهجاتها المختلفة)، بل أن المفكر التربوي ريتيوس كريكوريان كما يذك الدكتور استانبوليان يقطع بأن: (اللغة العربية لغة رائعة لا مثيل لها). ويفهم من ذلك أن الأرمن في بلادهم كانوا ألصق بدينهم حيث لم يقصرهم المسلمون على تغيير الدين، والجزية التي وضعها الإسلام هي مساوية للخمس التي وضعها على المسلمين، فهي ضريبة بمفهوم اليوم تشمل المواطنين مسلمين وغير مسلمين، وبالأساس فإن قوله تعالى: (لكم دينكم ولي دين) الكافرون: 6، هو الحاكم على العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين بخاصة في البلد الواحد، بلد المواطنة، من هنا فان الدكتور استنابوليان في تقديمه لكتاب العلامة الدكتور الكرباسي يرى أن: “الأرمن هم أول شعب اعتنق المسيحية وجعلها العبادة الرسمية للدولة الأرمنية في عام 301″، كما أن للأرمن: “أدب محلي راق مدون باللغة الأرمنية وتاريخ ثقافي عريق وتقاليد راسخة سبقت الفتح العربي”، من هنا والكلام له: “عندما أتى المحمديون إلى أرمينيا وجدوا شعباً واعيا استوعب الرسالة السماوية الإسلامية السامية من الجانب الروحي لأنهم كانا على مستوى عال من الروحانية من خلال ممارساتهم للتعاليم المسيحية الروحية السمحاء”. إذن فالعلاقة بين المسلمين والأرمن هي علاقة متميزة نجد مظاهرها في الأرمن المتوزعين في عدد من البلدان المجاورة والقريبة لأرمينيا مثل إيران وبلاد الشام ومصر، لهم مشاركة ملحوظة في الحياة اليومية مع المسلمين والعرب ولهم حضورهم في العملية السياسية، فضلا عن حضورهم في مجال الأدب والثقافة، وكما يقول المعد: (الأرمن واعون للقيمة الروحية للقرآن الكريم وتواقون لمعرفة مضمونه المقدس، ودليل على ذلك وجود ترجمات أرمنية لمعاني القرآن الكريم منذ بدايات القرن العشرين)، بل أن الدكتور أواديس استانبوليان نفسه يعتبر نموذجا لهذا التواصل الثقافي بين الأرمن والمسلمين، حيث قام بإعادة تنضيد ترجمة السيد ليفون لارينتس للقرآن الكريم عن ترجمة فرنسية في اسطنبول مع ترجمة السيد نوبار أميرخانيان في بلغاريا عن اللغة العربية مباشرة، وبعد التنضيد قام الدكتور استنابوليان في التحقيق في المعاني لكي يكون القرآن الكريم متاحاً لكل أرمني أينما وجد، وإلى جانب التحقيق في ترجمة القرآن فإن له اهتمامات كبيرة في الدراسات القرآنية حيث قدم 320 بحثاً حول سور القرآن الكريم وأهل البيت (ع) في مجلس “آدم القرآني” المنعقد في دمشق بشكل دوري، ولأنه أديب وشاعر فقد أعاد صياغة نصوص الصحيفة السجادية لإمام المسلمين علي بن الحسين السجاد (ع) المتوفى سنة 92 هـ، بطريقة الشعر الحديث. أسماء وإنجازات تحتفظ أرمينيا بمكانة كبيرة في قلوب المسلمين، ويمكن إدراك الأمر من خلال التعرف على بعض الأسماء الأرمينية وطنا والأرمنية ديناً، وما نعنيه بالوطن إشارة إلى الأرمن إن كانوا من المسلمين أو من الأرامنة، وما نعنيه بالدين إشارة إلى الأرامنة، لأن أرمينيا إنما سميت بذلك كما يقول ياقوت بن عبد الله الرومي الحموي المتوفى سنة 626 هـ: (نسبة إلى أرمينا بن لنطا بن أوقر بن يافث إبن النبي نوح (ع) فكان هو أول من نزلها وسكنها فعرفت باسمه) (معجم البلدان: 1/160)، ويسكنها 93 في المائة من الأرامنة الذين ينتمون إلى مجموعة القوميات الهندوأوروبية الذين انشقوا بالأساس عن المذهب الكاثوليكي في القرن الثالث الميلادي، و3 في المائة من الآذريين، و2 في المائة روس ومثلهم من الكرد، وعاصمتها إيروان وتلفظ يريوان أو يريفان، فأصبح الوطن ملازماً للمعتقد في داخل حدود أرمينيا، لكنهم انتشروا خارج الحدود. ومن الأسماء اللامعة ممن تعود أصولهم إلى أرمينيا: الفقيه محمد بن صالح الأرمني وهو من أصحاب إمام المسلمين الحسن بن علي العسكري المتوفى في سامراء سنة 260 هـ، والوزير المصري أبو النجم بدر الأرمني الجمالي المتوفى سنة 487 هـ الذي اشتهر بتكريم العلماء والأدباء والشعراء، والحاكم المصري الملك الصالح طلائع بن رزيك بن الصالح الأرمني المتوفى سنة 556 هـ والمولود أصلا في أرمينيا سنة 495 هـ، الذي قرّب العلماء وأكرم الأدباء وكان هو شاعرا إماميا، والعالم والرياضي والسائح أبو عبد الله الأرمني المتوفى سنة 631 هـ، والعارف أبو القاسم بن محمد الإيرواني المولود في العاصمة إيروان والمتوفى في تبريز سنة 1237 هـ، والفقيه الإمامي الشيخ عبد الكريم بن أبي القاسم الإيرواني، المولود في إيروان والمتوفى سنة 1294 هـ، والأديب والصحافي والسياسي السوري رزق الله بن نعمة الله الحلبي الشهير بـ “رزق الله حسون”، المولود في حلب والمتوفى في لندن سنة 1297 هـ، والخطيب الفقيه الشيخ علي أصغر بن محمد باقر الإيرواني، حيث سكن قزوين وتوفى في المدينة المنورة سنة 1300 هـ، والأديب والشاعر والصحافي السوري أديب إسحاق، المولود في دمشق والمتوفى في لبنان سنة 1302 ه، والفقيه العالم الشيخ محمد بن محمد باقر الإيرواني المتوفى في النجف الأشرف سنة 1306 هـ، والفقيه الخطيب الشيخ عبد الحسين بن علي أصغر بن محمد باقر الإيراوني، من علماء كربلاء المقدسة والمتوفى عام 1314 هـ، والفقيه السيد علي بن عبد الله بن محمد الإيرواني، المولود في إيروان والمتوفى في النجف الأشرف سنة 1324 هـ، والأديب العالم الشيخ فضل علي بن عبد الكريم بن أبي القاسم الإيرواني، وهو من علماء آذربايجان أرمني الأصل توفى سنة 1337 هـ، والفقيه الأصولي الشيخ علي بن عبد الحسين بن علي أصغر الإيرواني، من أساتذة الحوزة العلمية في كربلاء المقدسة والنجف الأشرف ومات في الثانية سنة 1354 هـ، وغيرهم. ولا تختلف أرمينيا عن مصر أو العراق أو إيران أو الشام وغيرها من حيث المقامات وقبور الأولياء والصالحين، فهناك مرقد العباس بن إسحاق الموسوي وهو حفيد إمام المسلمين موسى بن جعفر الكاظم المتوفى سنة 183 هـ ومنه أخذ لقب الموسوي، وفيها مرقد لأحد أحفاد محمد بن علي بن أبي طالب الشهير بـ محمد ابن الحنفية المتوفى سنة 81 هـ، وآخر لأحد أحفاد الحسن المثنى بن الحسن بن علي المتوفى سنة 97 هـ، فضلا عن “المسجد الأزرق” في العاصمة إيروان الشهير بـ “مسجد كبود”. وكدلالة على التداخل العميق بين المسلمين والأرمن يشير المعد إلى ظاهرة زواج الحاكمين وأبنائهم في الدولة الإسلامية من الأرمنيات، ومثال ذلك: بدر الدجى أو قطر الندى، والدة الخليفة القائم بالله (1031- 1075) وزوجة الخليفة القادر (991- 1031)، وقرة العين أو أرجوان، أم الخليفة العباسي المقتدى (1075- 1094)، وزوجة الخليفة الفاطمي المستعلي (1094- 1102)، وزوجة الخليفة الفاطمي العاضد (1160- 1171). وخلاف أن المعالم التاريخية والحديثة للعلاقات الطيبة بين المسلمين والأرامنة، تقدم إشارات واضحة على حقيقة التراحم بين بني البشر على أسس إنسانية، وأمر الإعتقاد بدين أو مذهب متروك لتقدير الإنسان نفسه، لأن القهر الآني على معتقد أو دين في معظم الأحيان مآله إلى نتائج غير محمودة العواقب.