بقلم محمود الزيباوي جريدة النهار-لبنان 23 كانون الثاني/يناير 2011 جديد إصدارات “منشورات جامعة القديس يوسف” كتابان فنيان يتميزان بمادتهما الأرشيفية الغنية وطباعتهما المثالية. عنوان الكتاب الأول “وجوه فوتوغرافية من الشرق”، ويضم ست مجموعات من الصور التقطها بعض من كبار علماء اليسوعيين خلال بعثتهم في العقود الأولى من القرن العشرين. أما الكتاب الثاني، فعنوانه “ذاكرة أرمنية”، ويحوي اثنتين وسبعين صورة تحمل توقيع المصور الذائع الصيت فارتان ديرونيان. تسجل هذه الصور مراحل تطور مخيم اللاجئين الأرمن في حلب بين عام 1922 وعام 1936، إضافة إلى ثلاث دراسات علمية ترسم الخريطة التاريخية لتلك المرحلة العصيبة. تحتفظ “المكتبة الوطنية” التابعة للجامعة اليسوعية بأرشيف فوتوغرافي استثنائي يضم زهاء خمسين ألف صورة. ساهمت في تكوين هذا الأرشيف أجيال متعاقبة من الآباء اليسوعيين منذ القرن التاسع عشر، وهو مؤلف من مجموعات عديدة، فمنها الصور المتعلقة بالآثار، ومنها الاتنوغرافية، ومنها التاريخية. بدأت “منشورات جامعة القديس يوسف” بالتعريف بهذا الإرث منذ عشر سنين، ونشرت تباعا سبعة ألبومات، أحدثها “وجوه فوتوغرافية من الشرق”، و”ذاكرة ارمنية”. أشرف على الكتاب الأول ليفون نورديكيان ومي سمعان، وقدّم له الأديب شريف مجدلاني، وهو في ثلاثة أبواب تسبقها مقالة لشارل ليبوا تتناول مسيرة الرهبنة اليسوعية في الشرق الأدنى، وتشكل هذه المقالة خير مدخل لهذه المجموعة الفوتوغرافية القديمة. كما هو معروف، نشأت الرهبنة اليسوعية في منتصف القرن السادس عشر وشهدت توسعا عظيم الشأن في القرن التالي، فبلغ نشاطها المشرق العربي في عام 1635 حيث اسست مدرسة اكليريكية، غير أنها حوربت من جهات عديدة، وتم منع نشاطها في فرنسا وغلق كل معاهدها فيها في عام 1763. وجاء هذا المنع بعد طرد الرهبنة من البرتغال، وتبعه طردها من اسبانيا. تطور هذا النزاع بسرعة، واتخذ البابا اقليمندس الرابع عشر قراره بحل الرهبانية عام 1773، وبقي هذا القرار ساريا حتى عام 1831 حيث اعترف البابا بيوس السابع بها من جديد وأعاد اليها الاعتبار. عاد الآباء اليسوعيون إلى المشرق بعد هذا القرار، وبدأوا بمزاولة نشاطهم في عين تراز، في جبل لبنان، ثم انتقلوا تباعا إلى بكفيا عام 1833، ثم إلى معلّقة زحلة، وبعدها إلى غزير، ووصل نشاطهم إلى بيروت حيث أنشأوا “المطبعة الكاثوليكية” عام 1845، وكان لهذه المطبعة دور ريادي في عالم النشر. عام 1860، شهد جبل لبنان أحداثا دامية قضى خلالها ثلاثة من اليسوعيين، وحصلت الرهبنة كتعويض على أرض واسعة في منطقة تعنايل في البقاع الأوسط، وهي المنطقة التي تعرفها العامة باسم “منطقة الدير”. تواصل نشاط اليسوعيين في لبنان، وكانت أبرز انجازاته تدشين جامعة القديس يوسف في خريف 1875 بمباركة الكرسي الرسولي في روما. في موازاة هذا العمل المستمر في لبنان، كان للرهبنة حركة تعليمية في حلب ودمشق وسهل القلمون السوري وصولا إلى حوران والسويداء. كما كان لها حركة في المناطق الأرمنية في اقليم كيليكيا جنوب شرق آسيا الصغرى، وكان لها مراكز تعليمية في أماسيا، توكات، سيفاس، اضنا وكيسري. وجوه من الشرق تتوزع مجموعة الصور اليسوعية المختارة على ثلاثة أبواب، أولها باب “بعثة سوريا ولبنان”، وفيه صور التقطتها ثلاث عدسات، إضافة إلى بعض الصور المتفرقة. تعود العدسة الأولى للأب بيار دو فريجيل الذي عمل في معهد الطب في بيروت بين عام 1903 وعام 1937، وكان له نشاط في القاهرة ويافا والقدس وبيت لحم والناصرة. ترجع صوره المنشورة في الكتاب إلى عام 1924، وهي ملتقطة في مناطق ريفية عدة، مثل بكفيا وفالوغا وعين ابل والبترون في لبنان، وشهبا في جبل الدروز، جنوب سوريا. تتميز هذه الصور بطابعها الحي، واغربها بالنسبة الى المشاهد العادي تلك التي تظهر فيها فتيات بكفيا بلباس يماثل اللباس “البدوي” الطابع. تحمل العدسة الثانية اسم الأب جوزف دولور، الكاهن الذي استقر أولا في غزير عام 1891، وانتقل بعدها إلى القاهرة، ومن ثم إلى ليون، ثم عاد إلى المشرق، وعمل في حمص وبيروت، إلى أن توفي في غزير عام 1944. من أرشيفه الكبير، اختار ناشرو الكتاب بعضاً من الصور، منها لقطات من عام 1935، وهي السنة الذي حصل فيها على “جائزة اللغة الفرنسية” من الأكاديمية الفرنسية، وهذه اللقطات هي لأطفال من تلاميذه في جبيل، حراجل، العقيبة وبرجا. تلي هذه الصور لقطات جماعية معبرة في سوريا ولبنان، منها لقطتان من سهل القلمون السوري يغلب عليهما الطابع الفولكلوري في الزي. نصل إلى العدسة الثالثة، وهي عدسة الأب هنري شارل، الإختصاصي بـ”القبائل الرعوية”، وصوره ترتبط ارتباطا مباشرا باختصاصه، وقد وصفها شريف مجدلاني بلغة أدبية رفيعة في تصديره لهذا الألبوم. ختام الباب الأول تسع صور لمصورين مجهولي الهوية تصور بعضاً من الأسر المشرقية المختلفة، وأكثرها إثارة تلك التي تصور عائلتين من جبل العرب تنتميان إلى طائفة الروم الكاثوليك. الباب الثاني مخصص للبعثة في أرمينيا، من تصوير عالمين من علماء الآثار: غيوم دو جيرفانيون، مكتشف جداريات كنائس كبادوكيا، وأنطوان بوادبار، الباحث عن معالم صور وصيدا القديمة في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي. يشعر الناظر إلى هذه الصور أنها تنتمي إلى نوعين، فمنها الواقعي، كما في لقطات “أطفال توكات”، ومنها الإستشراقي الطابع، كما في لقطة “فتاة من سيركيسيا”، أو “أناس من قرية دنديل في كيسري”. لا يقتصر هذا الباب على الوجوه الأرمنية، ففيه صور لوجوه تركمانية متعددة الهوية، أقواها تعبيراً “غلام تركي أمام باب في توكات” و”درويش راكع من توكات”. تشهد هذه اللقطات على تماثل هذه الشعوب في الخلق كما في اللباس والعادات، ويصعب علينا نحن العامة التمييز بين هذه الشعوب. بعد هذه الجولة الأرمنية ننتقل إلى باب “التصوير الفوتوغرافي وعلم الآثار”، وفيه مجموعة صور بعدسة الأب جان ميسيرسان، أحد المختصين بالميراث البيزنطي ومستكشف العديد من المناطق الأثرية في سوريا ولبنان. تمثل لقطات هذا الباب بعضا من أهالي سوريا ولبنان وسط مواقع استكشفها العالم اليسوعي، منها دير توما في هتاي (لواء اسكندرون)، دير سمعان العمودي الحديث في نواحي انطاكية، دير القلعة في بيت ميري. تجمع هذه الصور بين البشر والحجر في لحظات خاطفة، وتحفظ ذكرى معالم اثرية دخل بعضها المتاحف، مثل “لوح سمعان العمودي” الذي اكتُشف في كنيسة جبرين، شرق حلب، ودخل متحف اللوفر في باريس، و”مذبح جوبيتر” المحفوظ في دير القلعة، وهو من الآثار التي اكتُشفت في الغاب المتاخم لهذا الدير. حياة جديدة يحملنا الكتاب الثاني إلى عالم مغاير تماما، وهو عالم الهجرة الأرمنية القسرية عقب مجازر 1915 التي تبعتها “نكبة كيليكيا” عام 1922. يحمل الكتاب اسم فارتان ديرونيان، وهو مصور شهير لمع في النصف الأول من القرن العشرين بعدما أوكلت اليه الحكومة السورية مهمة تصوير بعض معالمها الأثرية. يعرفه محبّو الشرق والاستشراق، وهو صاحب العدسة التي نقلت إلى العالم معالم إنطاكية وسنجق الإسكندرون، ثم حلب وضواحيها، وبعدها ما يُعرف بـ”المدن الميتة في شمال سوريا”. وُلد في محافظة ملاطية الأناضولية عام 1888 ونشأ فيها، وانتقل إلى بيروت في عام 1908 بعد اندلاع ثورة “تركيا الفتاة”، ثم تنقل بين الخرطوم والقاهرة، واستقر في حلب عام 1920 حيث برع في تصوير المعالم الأثرية، وبات المصور “الرسميّ” في سوريا. ترك حلب في عام 1937 وافتتح ستوديو في باب ادريس، وسط بيروت، في الطبقة الأرضية من مبنى صباغ، وسكن العاصمة اللبنانية حتى وفاته في عام 1954، وخلفه ورثته الذين واصلوا العمل في الستوديو حتى اندلاع الحرب الأهلية التي قضت على سائر مباني الوسط التجاري. لا تمت مجموعة “ذاكرة أرمنية” بأي صلة مباشرة إلى نشاط اليسوعيين، وهي في الأساس من محفوظات “مؤسسة تيكيان الثقافية” في بيروت، ولا يعرف القيمون على “المكتبة الشرقية” كيف وصلت إليهم. في المقدمة التي وضعها للكتاب، يقول ليفون نورديكيان إن هذه الصور دخلت المكتبة مرفقة بنص من روبير دجيبيدجيان تشير إلى أن صاحبها فارتان ديرونيان وهبها إلى تلميذه أفيديس شاهينيان عام 1947، والأرجح أنها انتقلت بعدها إلى مؤسسة تيكيان. ويبدو أنها ليست النسخة الوحيدة في العالم، فقد سبق نشرها بشكل متواضع عام 1986 في حلب، والغرض من نشرها بنوعية عالية تليق بها هو في الدرجة الاولى تحية الى مصورها الذائع الصيت. عنوان الكتاب الفرعي “صور فوتوغرافية من مخيّم اللاجئين في حلب 1922-1936″، وهو بهذا المعنى شهادة توثيقية لتلك الفترة الأليمة من التاريخ، وصوره اليوم تستحضر صور مخيمات أخرى للاجئين طُردوا من موطنهم في مرحلة لاحقة، وهم الفلسطينيون. تسبق هذه الصور دراستان أكاديميتان وضعهما مؤرخان من كبار المختصين بتلك الحقبة التاريخية، هما ريمون كيفوريان وفاهي تاشجيان. تزامنت المجازر التي تعرض لها الأرمن مع انهيار الدولة العثمانية الجامعة ونشوء الدول القومية. بدأت هذه المجازر بشكل متقطع في نهاية القرن التاسع عشر، وتجددت في أضنا عام 1909، وأحدثت سلسلة من الهجرات العرضية تواصلت في حقبة بناء الدولة التركية. تمّ ترحيل الأمن بشكل شبه كلّي عقب حملة “الإبادة الجماعية” في عام 1915، وباتت آسيا الصغري خالية من سكانها المسيحيين. لم يتخلّ المهجّرون عن حلم العودة، وكاد هذا الحلم أن يتحقق مرتين، لكن الحسابات الدولية أدت إلى إجهاضه في المرة الأولى كما في المرة الثانية. أُعيد مئة وخمسون ألفاً من المهجّرين إلى كيليكيا حيث سعت فرنسا إلى إنشاء مقاطعة ذات استقلال ذاتي تخضع للانتداب الفرنسي، لكن هذه التجربة باءت بالفشل بعدما عدلت فرنسا عن مشروعها وتنازلت عن كيليكيا لصالح تركيا بموجب معاهدة لوزان في تموز 1923. جاءت المحاولة الثانية في نهاية الثلاثينات حين شرعت فرنسا في إسكان الأرمن في سنجق الإسكندرون بعد ضمّه إلى سوريا المستقلة، لكنها عدلت عن هذا المشروع وتنازلت عن السنجق لصالح تركيا، وتبع هذا القرار انتقال كثيف للأرمن من هذه المقاطعة إلى سوريا. يستعيد الباحث ليفون كيفوركيان أحداث 1915 وتدفق آلاف المهجّرين الأرمن إلى حلب في تحقيق دقيق يكشف عن الدور الذي لعبته كل القوى المتصارعة لاقتسام تركة الأمبراطورية العثمانية المحتضرة. في المقابل، يقدّم فاهي تاشجيان قراءة متأنية يتناول فيها المراحل التي سلكها اللاجئون في “بناء حياة جديدة” في هذه المدينة. بدأ هذا البناء مع شراء قطعتي أرض في الميدان الكبير، شمال حلب، على مقربة من منطقة مخيمات السليمانية. في مرحلة أولى، استقر زهاء ألفين وخمسمئة لاجئ من عنتاب وأورفا في هذه المنطقة عام 1925، وباتوا ثلاثين ألفا في نهاية 1929. في عام 1935، توسعت هذه الحركة مع اقتناء أراض أخرى في منطقتي شيخ مقصود والأشرفية، مما ساهم في تثبيت الوجود الأرمني في المدينة. في المقابل، استقطبت بيروت عددا كبيرا من الأرمن، وسرعان ما احتلت المكانة الأولى في خريطة أرمن المشرق، وتمثل هذا التحول في انتقال كاثوليكوسية بيت كيليكيا الكبير من حلب إلى إنطلياس في عهد الكاثوليكوس ساهاك الثاني. تسجل عدسة فارتان ديرونيان التحولات التي عاشها الأرمن في حلب خلال أربع عشر سنة. تنقل أقدم اللقطات حالة البؤس المدقع في المخيّمات التي أقيمت بشكل عشوائي في البقعة بين السليمانيّة والجابريّة والحميديّة، وأفظعها تلك التي تصوّر أفواج اللاجئين مع أطفالهم وسط خرائب خان زيتون. يبدأ هؤلاء البؤساء في بناء حياة جديدة، وأبرز شواهده تمثل إنشاء مشاغل للحياكة يعمل فيها رجال ونساء. تبدأ مرحلة الإعمار، وترتسم الإبتسامات الخجولة على الشفاه. نرى اللاجئين في صورة جماعية أمام الكنيسة الصغيرة في منطقة البراكات بمحلة السليمانية، ثم نرى الأطفال يقفون أمام مدرستهم المتواضعة. تمثل الصور الأخيرة مرحلة بناء “البلدة” الأرمنية، وفيها تتجلى حركة هذا البناء المتسارعة عبر ثلاث عشرة لقطة تليها مقالة من توقيع جان كلود دافيد، الباحث في “بيت الشرق والبحر الأبيض المتوسط” في ليون. نتعرف في هذا البحث الى الخريطة الجغرافية للمدينة والتغيرات التي طرأت عليها خلال النصف الأول من القرن العشرين. بحسب الإحصاءات التي تعود إلى تلك الحقبة، ضمّت حلب عام 1900 مئة وعشرة آلاف مواطن، ربعهم تقريبا من المسيحيين، منهم سبعة في المئة من الأرمن. تضاعف هذا العدد بسبب تطور الأحداث، وبلغ عدد الأرمن المئة ألف عام 1919. تقلّبت الأحداث بشكل متسارع، واستقر قسم من المهاجرين في المدينة، وباتوا جزءا من نسيجها الداخلي. تغيّر وجه المدينة بشكل جذري مع دخول الصناعات الحديثة، وواكب الأرمن هذا التحول بشكل فعال، وحافظوا على دورهم في المرحلة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وحضورهم مستمر في زمننا الحاضر، على رغم تغيّر مقومات الحياة بشكل جذري في القرن الحادي والعشرين.