بقلم د.عبد الرؤوف سنو جريدةاللواء- لبنان 31 أيار/مايو 2012 نشأت المسألة الأرمنية وتقلبت من خلال وعي الشعب الأرمني خصوصيته وتمايزه في بيئة جغرافية سكانية، وخضوعِه لدولِ واحتكاكه بشعوب، من بيزنطيين وروس وفرس وسلاجقة وأكراد وتركمان وعثمانيين. إن وقوع الأرمن في مرمى الجيوبوليتيك لكل من روسيا وفارس والدولة العثمانية، جعل الحركة القومية الأرمنية تتأخر حتى النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لكن تبلور القومية الأرمنية، جعلها في مرمى تصادم مصالح هذه الدول أو في توافقها. وبالنسبة لموضوعنا الدولة العثمانية والأرمن، تداخلت القومية والدين والجغرافيا السياسية في الصراع بينهما. تحت الحكمِ العثماني، احتفظ الأرمن، كما باقي الجماعات غير الإسلامية في السلطنة، باستقلالهم الذاتي وفق نظام الملة العثماني. ومع التحولات التي أتى بها القرن التاسع عشر، من ناحية تنامي المشاعر القومية لدى الشعوب، والضعفِ الذي بدا واضحاً على الدولة العثمانية من جراءِ ثورات شعوبها المسيحية، وفشلِ الإصلاحاتِ التي قامت بها في جذب تلك الشعوب إليها، وتدخلِ الدولِ الأوروبية في شؤونها الداخلية، تحولت المسألة الأرمنية إلى قضية شعب ينشد الاستقلال وإقامةَ دولته القومية على أرمينيا التاريخية. ومن جراء ذلك، حملت القضية الأرمنية الكثير من المآسي للشعب الأرمني، وبخاصة في عصر السلطان عبد الحميد الثاني (1876 – 1909) وخلال الحرب العالمية الأولى وفي أعقابها. فحارب العثمانيون طموحات الأرمن القومية باسم الإسلام وباسم القومية التركية، ووصفتهم أدبياتهم بالإرهابيين والمخربين والمتمردين والمتآمرين، في حين وصف هنري مورغنتاو (Henry Morgenthau)، سفير الولايات المتحدة في الدولة العثمانية بين العامين 1913 و1916، ما شاهده من مذابح بحق الأرمن بـ «قتل أمة» (The Murder of a Nation)، متهماً الأتراك بتدبير إبادة جماعية مرعبة بحق الشعب الأرمني لا مثيل لها في التاريخ. وبنظرة موضوعية، يمكننا أن نضع الطموحات القومية الأرمنية على قدم المساواة مع طموحات العرب القومية للاستقلال عن الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى. لقد وقع الأرمن ضحية مصالح الدول الكبرى، في حين وقع العرب ضحية تقاسم بلدانهم بين بريطانيا وفرنسا منذ العام 1916. لكن الفرق بين الاثنين، أن الأرمن تعرضوا لمجزرتين فريدتين بشعتين في التاريخ المعاصر: الأولى في العام 1895 والثانية خلال العام 1915، وقضي على جمهوريتهم في مطلع العشرينيات من القرن الماضي. أما العرب، وباستثناء ما لحقَ بالشعبِ الفلسطيني من مأسٍ وقتل وتهجير على يد الصهيونية وتآمر الغرب معها، فقد تمكنوا من تأسيس دولهم القومية بعد الحرب العالمية الثانية. لا تزال إبادة الأرمنِ، تقتحم التاريخ المعاصر لسببين: أنها قضية قومية عملت الدولة العثمانية على حلها بإبادة شاملة، وثانياً أن تركيا الحديثة لم تقدم الاعتذار ولا التعويضات عما سببته من مآسٍ للشعب الأرمني. من هنا، تتشبث المأساة في الذاكرة الجماعية لهذا الشعب، وتتوارثها الأجيال مشكلة ملحمة صمود وتحد وانبثاق فجر جديد، في حين يسترجعها الشرفاء في العالم بأسى واستنكار. أما الدول الغربية، فتتلاعب بالقضية وفق مصالحها، وآخرها ما حصل في فرنسا ساركوزي بالعودة عن مشروع الاعتراف بإبادة الأرمن. سياسة السلطان عبد الحميد الثاني الإسلامية في مواجهة القومية الأرمنية تُقدم لنا المسألة الأرمنية مثالاً واضحاً حول سياسة الدولة العثمانية في عصر السلطان عبد الحميد الثاني وبعده تجاه القوميات المسيحية في السلطنة. فمنذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، ازدادت تطلعات الأرمن القومية بفعل التجديد الثقافي، وإنشاء الجمعيات والنوادي، وتعميم التعليم، وتطور وسائل الإعلام والمواصلات والتجارة، وحصول اليونان على استقلالها في العام 1829، وجبلِ لبنان على الحكم الذاتي في العام 1861 (المتصرفية)، فضلاً عن دور الإرساليات التبشيرية في تغذيةِ الروح الاستقلالية لقوميات السلطنة. ويُجمع المؤرخون على أن العامَ 1860 هو بداية النهضة الأرمنية، عندما صدر «دستور أرمني» لتنظيم أوضاع الطائفة وعلاقاتها بالسلطنة. ومنذ منتصف صيف 1876، استغل الزعماء الأرمن الجورجيون الأزمة البلقانية والحرب الروسية – العثمانية وأخذوا يحرضون مواطنيهم الأرمن داخل السلطنة بحجة أن الوقت قد حان لقيام الدولة الأرمنية المستقلة. وكانت أصابع روسيا واضحة في تلاعبها بمشاعرهم القومية. فمن تيفليس، دعت صحيفة أرمنية إلى الثورة ضد «الكفرة» (العثمانيين)، والاعتماد على روسيا لرفع الطغيان العثماني عن الأرمن. وعلى الرغم من تأييدِ ممثلي الأرمن في البرلمان العثماني الجديد الحكومة العثمانية ضد سياسةَ روسيا تجاه السلطنة، إلا أن هزيمة العثمانيين في حرب في العام 1878، جعل الأرمن يجددون اتصالاتهم مع المعسكر الروسي في سان ستيفانو (St. Stefano)، ومع بريطانيا أيضاً. وأكد بطريرك الأرمن نرسيس فارتبديان (Nerses Vartabedian) للسفير البريطاني في استانبول، هنري لايارد (Henry Layard)، استحالةَ التعايشِ الأرمني – الإسلامي، وأن الأرمنَ يطالبون بدولة مسيحية مستقلة ذاتياً. وما لبث البطريرك أن قدم إلى مؤتمر برلين مذكرةً حدد فيها حدود الدولة الأرمنية المستقلة التي يُصر شعبه عليها، وتضمُ جميع البلاد الواقعة بين الحدود الروسية والفارسية والبحر الأسود. وكتب السفير نفسه إلى وزير الخارجية ساليزبوري (Salisbury) مستشرفاً مستقبل العلاقات المتوترة بين الأرمن والأتراك بالقول: «إن مسلمي تركيا الآسيوية علموا بالمصير الذي لحق بإخوانهم في الولايات المسيحية المستقلة ذاتياً في البلقان، ولذا، لن يرضخوا لمثلِ هذا المصير، وإن الدعوةَ إلى دولة أرمنية سوف تؤدي إلى حرب أهلية». كان السفير يدرك أن ما جرى في البلقان عشية الحرب الروسية – العثمانية وخلالها من مجازر بحق المسلمين على أيدي المسيحيين هناك، يجعل مسلمي الولايات الشرقية من الأناضول يخشون المصير نفسه، في حال قامت دولة أرمنية في المنطقة، ما يهدد بوقوع حرب عثمانية – أرمنية، وبكلام آخر، حرباً إسلامية – مسيحية. بعد مؤتمر برلين، ازدادت مطالبة بريطانيا الباب العالي بتنفيذ إصلاحات بالنسبة إلى الأرمن، أقرتها المعاهدة التي صدرت عنه. وفي المقابل، ماطل السلطان العثماني في تنفيذ التزاماته، ورأى أن أصابع بريطانيا، وروسيا خلف تحركات الأرمن، وبخاصة تأسيس منظمات ثورية سرية «للتحرير» بعد العام 1880، بهدف إقامة كيان سياسي مستقل في تركيا الآسيوية. وهذا ما أعطى انطباعاً بأن بريطانيا تؤيد قيام دولة أرمنية مستقلة تحت حمايتها. وفي السابق، لم يسبب استقلال ولايات السلطنة المسيحية في البلقان في بُعده النهائي أية مشكلة على الصعيد الاستراتيجي العثماني، حيث كان العثمانيون يتوقعون، على المستويات كافة، قُدوم اليوم الذي يفقدون فيه البلقان المسيحي. وفي عام 1889، قال السلطان: «في الحقيقةِ، يبدو أن الأتراكَ اليوم لا يتطلعون إلى المصالح الإمبريالية، بل إلى تلك الإسلامية ويعتبرون شبهَ جزيرة البلقان ضائعة بالنسبة إليهم». وكان ضعف السلطنة من جراء قضم دول الاستعمار ممتلكاتها الواحدة تلو الأخرى (تونس في العام 1881 ومصر في العام التالي)، والخشية من انتقال عدوى القومية إلى الشعوب العربية وراء طرح السلطان العثمانية سياسة «الجامعة الإسلامية»، أي التضامن داخل السلطنة على أساس الانتماء إلى الإسلام لا على أساس العرق، ودعم المسلمين في العالم دولة الخلافة في مواجهة الاستعمار. إن انحسار الإسلام العثماني عن البلقان المسيحي، والتمركزَ العثماني في تركيا الآسيوية والولايات العربية، جعل العثمانيين ينظرون إلى إقامة كيان أرمني في تركيا الآسيوية «الإسلامية» على أنه تهديدٌ «لأمنهم القومي» الإسلامي. وبنظر السلطان، فإن الأناضول هو «القلبُ والرئتان للجسم السياسي العثماني، فإذا قطعا فسيهلُك كامل العضو»، وإن كياناً أرمنياً هو بمثابة «إستئصالٍ متعمد للنفوذ الإسلامي في تركيا الآسيوية، وتدمير للدولة، وإثبات بعدم جدواها في المستقبل». ولمواجهة القومية الأرمنية ومخططات روسيا وفارس، وإحداث توازن في شرق الأناضول، عمد السلطان عبد الحميد الثاني في العام 1890 إلى التلاعب بالأقليات الدينية والاثنية، عبر إنشاء «الأفواج الحميدية» من الأكراد، واستغلال تعصبهم القبلي والإسلامي لوضعهم في مواجهة الأرمن، إدراكاً منه تضارب مصالحهم «الجيوسياسية» في المنطقة. كانت ردة الفعل الأرمنية على السياسة العثمانية، هو نشاط لافت لمنظمات أرمنية في أوروبا، وتأسيس حزبين: الهنشاك بطابعه الماركسي في جنيف في العام 1887، والطاشناق في تيفليس بعد ثلاثة أعوام على ذلك التاريخ. وكان الحزب الأخير أكثر التزاماً بالقضية الأرمنية في السلطنة. وفيما اعترف السلطان عبد الحميد الثاني بوجودِ ملّة أرمنية ينتشر أفرادها في أنحاء بلاده، رفض مقولة وجود «شخصية قومية أرمنية»، ورأى أن الأرمن لم تقم لهم دولة مستقلة أبداً، وأن إعطاءهم كياناً سياسياً مستقلاَّ لن يُوقف تطلعهم نحو الاستقلال، ولا التدخل والتحريض الخارجيين، فضلاً عن أنه لا ينسجمَ مع السيادة العثمانية ويهز صورته كخليفة. ولهذا السبب، نظر السلطان بشك وريبة إلى تحركات الأرمن الثورية. وعندما وافق الصدر الأعظم جواد باشا في أيار 1895، وبضغط أوروبي وبريطاني بخاصة، على منح الأرمنِ استقلالاً ذاتياً، صعق السلطان وأقالَه على الفور، ثم علّق على تلك الحادثة بالقول: «…لا أستطيع أن أتخيل وضعاً أشد ضرراً من استقلال ذاتي للأرمن على رأسِ ما حصلوا عليه من امتيازات… كيف أتسامح إذن مع وزير وضع خاتم موافقته على مثل هذا الاقتراح… إن واجباتي تجاه ديني ودولتي وبلادي، التي يجب أن أضعها فوق كل اعتبار، تحتم عليّ أن أمنع هذه النكبة». وما لبث السلطان أن استغل الاضطراباتِ الأرمنية منذ عام 1892، وامتناع الأرمنِ عن دفع الضرائب، ثم حوادثِ ساسون عام 1894، والنشاط السري المتزايد للمنظمات السرية الأرمنية باستيراد السلاح وتوزيع المناشير المعادية للعثمانيين والتحريض على الثورة، فضلاً عن تدخل روسيا ومخططاتِ بريطانيا لتقسيمِ السلطنة في العام 1895 بوفاق دولي، ومظاهرة أسطولها أمام مدخل الدردنيل في خريف 1895 دعماً للاستقلال الذّاتي للأرمن، وأخيراً، مظاهراتِ الأرمن في أيلول 1895 أمام مقرّ الحكومة العثمانية، ليباشر ما يُعرف في التاريخ بـ»المذابح الأرمنية». فبعدما أثار المسلمين في السلطنة بالإعلان عمداً في 17 تشرين الأول 1895 عن إصلاحات للأرمن، أرسل عملاءه إلى المناطق لترويج الضغوط التي يتعرض لها المسلمون من جراء فرض إصلاحات للأرمن، وأخذ يحرك العصبية الطائفية ويحرض الأكراد والأتراك ضد الأرمن باسم الشريعة والدين. ووُزعت منشورات تُحلل على المسلمين ممتلكاتِ الأرمن، وتمتدح قدرة المسلمين على إخماد أية إنتفاضة أرمنية. فأدى هذا إلى وقوع اشتباكات إسلامية – أرمنية دموية واسعة في الأناضول شارك فيها أكراد من «الأفواج الحميدية»، وسط استنكار دولي. وفيما اعتبر مسلمو السلطنة موقف أُوروبا المؤيِد للأرمن «نوعاً من الحرب الصليبية ضد الإسلام»، وشكلوا جمعيات في ولاياتِ السلطنة الشرقية لإحباط أية إصلاحات تُمنح للأرمن، وصف السلطان عبد الحميد المجازر بحق الشعب الأرمني بـ «العمل الدفاعي»، واتهم أُوروبا بالتحيز ضد بلاده على أساس عصبية دينية، وتساءل: لماذا لم تحركَ أُوروبا ساكناً عندما ذُبح المسلمون في بلغاريا في مطلعِ الأزمة البلقانية؟ وعلقَ بالقول: «هل دم المسلم أقل قيمة من دم المسيحي». وفي خريف العام 1896، قال السلطان: «من خلال انتزاع صربيا واليونان ورومانيا، قطعت أُوروبا أيدينا وأرجلنِا، وبقيت الأمة الإسلاميةُ ساكنة. ولكن بإثارة المسألة الأرمنية، فأنتم (أي أوروبا) تنبشون في داخلنا وتمزقون أحشاءَنا، وهذا ما لا نستطيع احتمالَه، وسوف، بل يجب علينا أن ندافع عن أنفسنا». وفي إطار إستراتيجيته «الوقائية» هذه، أصدر السلطان قانوناً في العام 1896 فرض بموجبه على المسلمين ضريبة من أجل التسلح، وسط دعوات أئمة المساجد المسلمين إلى الانصياع لهذا المرسوم. فكان هذا القرار خاطئاً، إذ وضع مكونات «الشعب العثماني» الدينية والإثنية في مواجهة بعضها البعض، بدلاً من أن تتولى الدولة معالجة الأمور بما ينسجم مع طموحات الأرمن القومية والمصالح القومية العثمانية. وأسفرت المواجهات عن مقتل ما بين 100 ألف و300 ألف أرمني، أي ما يعادل نسبته 10% من أرمن الدولة العثمانية، وتهجير حوالى 100 ألف آخرين إلى القوقاز. صحيح أن العثمانيين استخدموا القمعَ الوحشي لضرب الحركة الأرمنية الثورية، إلا أن الصحيح أيضاً أن تذبذبَ مواقف الدول الكبرى من المسألة الأرمنية، أسهم إلى حدٍ كبير في استفراد الدولة العثمانية بالأرمن. وهذا ما جعل الأحزاب الأرمنية تكيّف نضالها القومي في سياق الأوضاع الدولية. صدام القوميتين التركية والأرمنية: إبادة شعب بعد القضاء على حكم السلطان عبد الحميد الثاني في العام 1909، تعاون حزب الطاشناق مع النظام الجديد في استانبول (لجنة الاتحاد والترقي) على توحيد السعي نحو الدستوريةِ وحلِّ المشكلات العالقة. وبسبب خشية النظام الجديدِ من تحريك روسيا الأرمن ضده، قام بإصلاحات من جانبه لم تغيّر من أوضاع الأرمن. وفي شباط 1914، قبلت السلطنة على مضض بإصلاحات للأرمن فرضتها روسيا عليها، فضلاً عن تعيين مفتشين للإشراف على تطبيقها. لكن اندلاع الحربِ العالمية الأولى وانحيازْ السلطان العثماني إلى ألمانيا، جعل الدولة العثمانية تتجاهلها. مع إعلان السلطان العثماني الجهاد ضد دول مسيحية (بريطانيا وفرنسا وروسيا) لخدمة دول مسيحية أخرى (ألمانيا تحديداً)، هي حلفاؤه في الحرب الكونية، وفي الوقت نفسه تعظيم إيديولوجية القومية التركية، بدأت طموحات الأتراك تعمل على بسط السيادة العثمانية على ولايات الأناضول الشرقية، وباتت حربٌ عثمانية – أرمنية أمراً واقعاً، على الرغم من دعوة حزبِ الطاشناق في مؤتمرِهِ في أرضروم في تموز 1914 إلى مساندة الدولة العثمانية، حتى أن بعض الأرمن انضم إلى الجيش العثماني في مطلع الحرب، أو أكره على ذلك. لكن الدولةْ العثمانيةْ رفضت القبول بنأي أرمنِ السلطنة أنفسَهم عن أرمنِ القوقاز المتعاطفين مع روسيا، وطالبتهم بدفع إخوانهم في القوقاز للتحرك ضد روسيا. وما لبثت العلاقات بين أرمن السلطنة والسلطات العثمانية أن تدهورت خلال الحربِ، نتيجة ما لحق بالأخيرة من خسائرَ أمام روسيا، وأمام بريطانيا في العراق ومصر. وبين نيسان 1915 وأيلول 1918، قررت الحكومة المركزية العثمانية اقتلاع الأرمن من المناطق الحدودية مع روسيا، ومن كيليكيا وشمال سوريا، ومن الأناضول، واتخذت قرارات بإبادتهم. وكان العثمانيون قد خيروا في عصر السلطان عبد الحميد الثاني بعض الأرمن ما بين اعتناق الإسلام وبين التعرض للمجازر. لكن هذا الخيار تلاشى في مرحلة الإبادة. فضلاً عن ذلك، عمل الأتراك على مصادرة أملاك الأرمن وممتلكاتهم وبيوتهم وأراضيهم، بهدف ضرب الاقتصاد الأرمني لدوره المميز في السلطنة، وكلِ مقومات الحياة للشعب الأرمني، وصولاً إلى الحياةِ نفسها. استمر تطهيرُ المناطق العثمانية من الأرمن حتى العام 1923. ويقدر أحد المؤرخين الأرمن عدد ضحايا أبناء شعبه ما بين 700 ألف و900 ألف. في المقابل، ترفع بعض التقديرات الأرمنية عدد الضحايا إلى ما بين 1.5 و1.6 مليون نسمة. ومن دون الوقوع في لعبة الأرقام، فقد حلت مأساة حقيقية بالشعب الأرمني يتحمل الأتراك مسؤوليتها، والدول الكبرى كذلك، التي حرضت الأرمن ضد الأتراك، ثم تركتهم فريسة لهم. إن قبول بريطانيا وفرنسا وروسيا في نيسان 1916 بإلحاق مناطق أرمنية بروسيا، في سياق تقاسم ممتلكات الدولة العثمانية، دلَّ على مدى خداع الدول الكبرى وتلاعبها بمشاعر الأرمن القومية. أما الدولة العثمانية، فاعترفت في معاهدة باطوم في حزيران 1918 بجمهورية أرمنية عاصمتها يريفان. وفي أيار من العام التالي، أُعلنت «الجمهورية الأرمنية الموحدة»، وفي معاهدة سيفر في آب 1920، اعترفت تركيا بأرمينا دولة حرة مستقلة، إلا أن تسارع الأحداث بعد الوفاق بين الاتحاد السوفياتي والدولة العثمانية، جعل الجمهورية الناشئة فريسة لمصالح الدولتين، فجرى تقليصُ حدودِها وعددِ أفراد جيشها، وفرض شروط مجحفة عليها، فيما احتل السوفيات جورجيا. تبع ذلك، توقيع الاتحاد السوفياتي والسلطنة معاهدة موسكو (16 آذار 1921) لتمتين «علاقات الصداقة والأخوة بين البلدين». وبعد الانتصارات التي حققتها الحكومة الكمالية على اليونان في الحرب بين العامين 1919 و1922، وإزاء التصلب التركي، أعاد الحلفاء النظر في كل المعاهدات المتعلقة بالسلطنة، ورفضت الأخيرة بعد انتصارها على اليونان اقتراحاً للحلفاء بإعطاء الأرمن «وطناً قومياً». هكذا، قضي على الحكم الأرمني في المقاطعات الشرقية، وصُنفت «أرمنيا التاريخية» من بين المسائل العالقة في ملفات الدول الكبرى، وأصبح الأرمن بموجب معاهدة لوزان «أقليات» في الجمهورية التركية. لم يكن الأرمن في البلدان التي حلوا فيها مجرد لاجئين فارين من مجازر الاقتلاع، بل رواداً في الحرف والمهن والصناعة والتجارة وعامل تنمية اقتصادية، وقد حملوا معهم تراثهم العريق الضارب في تراب أرمينيا التاريخية، وسرعان ما انخرطوا في النسيج الاجتماعي لتلك البلدان، وأسهموا في الحياة السياسية وفي النهضة الثقافية والعلمية والأدبية والإعلامية، وفي الفنون الجميلة والموسيقى. محاضرة ألقاها عبد الرؤوف سنو في معهد اللغة والترجمة في الجامعة اللبنانية.