الأرمني – الحلبي، 1920-1946

من كتاب ذاكرة ارمنية-صور من مخيم لاجئي حلب 1922-1936 جان-كلود دافيد باحث مشارك في في بيت الشرق والبحر المتوسط، ليون 17 حزيران 2010 17 حزيران 1920، استعرض الملك فيصل، من على شرفة فندق بارون، في حلب، فرقاً عسكرية عربية . وفي 23 تموز 1920، دخل الفرنسيون حلب. وفي 13 أيلول، قام الجنرال غورو بزيارة رسمية إلى المدينة: لقد “استقبل وسط الإبتهاج العام وحماس الجماهير” . تجمعّت الشخصيات المرموقة على شرفة فندق بارون للأخوين مظلوميان. سار الجنود في عرض عسكري أمام المؤسسة الحديثة وسط الشارع العريض، الذي كاد يغطّى بالحصى على غرار معظم الطرق المخطّطة مؤخراً من قبل الإدارة العثمانية . والحي الذي في طور التنظيم المديني مازالت ثلاثة أرباعه خاوية، وحدها الضفة الشرقية من الشارع مشيّدة في أجزاء منها، بينما تمتد إلى الغرب البساتين المروية والمقاهي في الهواء الطلق، التي سيستعاض عنها بالعمارات في السنوات الأربعين من القرن الماضي. تحوّلت حلب، بدافع الإرادة العثمانية إلى ورشة عمل كبرى: يومها كان الأمر يتعلّق بتحديث الأمبراطورية، فيما كانت إدارات استعمارية في الغرب، على سبيل المثال، تنشط لتحقيق التحديث لمصلحتها. لم تحمل نهاية الأمبراطورية العثمانية وبداية الإنتداب الفرنسي معهما تغييراً يذكر: فالأحياء الجديدة المزمع إنشاؤها خلال العقود الأخيرة من عهد الأمبراطورية بُنيت بوتيرة سيئة؛ وليس من المتوقع أن تؤوي جموعاً من المزارعين النازحين. في حلب، قام بعض السكان الميسورين، الذين رغبوا في مغادرة الأحياء القديمة والبيوت التقليدية ذات الباحات الواسعة، يبنون خارج المدينة القديمة. أما الفرنسيون المتواجدون في حلب فهم بوجه خاص الجنود، المتحصّنون في الثكنات العثمانية القديمة، الواقعة خارج المدينة. بينما شكّل الضباط والموظفون المدنيون مجتمعاً صغيراً، سعت البرجوازية والوجهاء المحليون بلا ريب إلى مخالطته. إنهم لا يقطنون بنسبة كبيرة حي العزيزية المسيحي الجديد، وإنما على الأرجح في الجميلية، وهي حي مسلم ويهودي في طور التوسع باتجاه الغرب، على انفراد، وبعيداً جداً عن المركز، وفي أبنية صغيرة متفرنجة لا تبدو أوروبية إلاّ من حيث طابعها الجماعي والإيجاري. إنّ الأمر يتعلق بفن معماري “محلي حديث” تطوّر إنطلاقاً من اسطنبول، وواكبته زينة خارجية انتقائية غنية جداً ومنحوتة في الحجر… هناك، بين المتعهدين والمهندسين الذين يشيّدون هذه المنازل بعض الأرمن، المتخصصين بشكل أساسي في عمل الحجر والخشب، كما كانت الحال في اسطنبول وفي مدن أخرى. يذكر مخطط للمدينة، أُنجز حوالى عام 1900، أحياء جديدة قيد التطوير منذ العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر ، وهي العزيزية، الجميلية، الحميدية، والوسط الجديد في باب الفرج، بآثارها العثمانية الرمزية، وبرج الساعة، ومحطات قوى الأمن على أبواب المدينة، وعند مداخل بعض الضواحي وفي الأحياء الجديدة ، والثانوية العثمانية الكبرى، “المدرسة التحضيرية”، المشيدة في 1898/1316هـ، ومحطتا السكك الحديدية ، ودار البلدية الجديدة شمال القلعة. يعتبر الأرمن، من بين الجماعات المتباينة التي تؤلف المدينة، من الفاعلين المهمين لعملية التحديث، وخاصة في حلب حيث عددهم كبير، وهم محط احترام وتقدير منذ العصور الوسطى. في مستهلّ حركة التحديث، نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، كان بعض الأرمن موظفين عثمانيين في الولاية أو في بلدية حلب : أكوب أفندي مهندس حلب خلال سنوات عدة اعتباراً من 1890، كانت تحت إمرة رئيس مهندسي الولاية، رومير أفندي؛ طكفوريان باخوس هو بدوره رئيس مهندسي الولاية من 1892 إلى 1894، بينما كان أكوب أفندي حينذاك مهندس مدينة مرعش التابعة لولاية حلب. أما رئيس مهندسي الولاية، في عهد الوالي الجديد رئيف باشا بين 1896 و1900، ثم في عهد أنيس باشا بكل تأكيد، فكان الفرنسي شارل شارتيه حتى 1900 على الأقل، وإسم مهندس حلب لا يظهر في “السلنامات”. أسماء أخرى قد تكون أرمنية ترد في مناصب أخرى في الولاية، مثل هاكوبلو أفندي، أوهانس أفندي. وفي زمن الإنتداب، قبل 1946، تاريخ الإستقلال الوطني، وكذلك لدى افتتاح كلية الهندسة في حلب، كان من أصل 47 مهندساً مجازاً (بمن فيهم المهندسون المعماريون) الذين يعملون في حلب، تسعة منهم على الأقل أي خمسهم من الأرمن. إنهم تابعوا دراستهم في إسطنبول، باريس، بلجيكا، وخصوصاً في مدرسة المهندسين العليا في جامعة القديس يوسف ببيروت بالنسبة إلى خمسة منهم. وسوف يكونون أيضا بين أوائل أعضاء “جمعية مهندسي حلب”، المنشأة في شباط 1934 (في دمشق عام 1936) ، التي ستصبح لاحقاً نقابة المهندسين. إلى ذلك، فإن إحصاءات العصر الديمغرافية ليست متماسكة والتأثير الحقيقي لوصول اللاجئين الأرمن يصعب قياسه، وخاصة انهم لا يقيمون بالضرورة لوقت طويل. وفق إحصاء عام 1900 العثماني ، كان عدد سكان حلب بلا ريب أقل تقديراً مما هو في الواقع، يقارب الـ 110000 نسمة، 7,1% منهم أرمن مقابل 24,2% من المسيحيين. ثم ضاعف تقريباً وصول موجات كثيفة من اللاجئين الأرمن والسريان عدد السكان: فبلغ الأرمن 60000 في 1916 وحتى 100000 في شباط 1919. وقد حثّتهم فرنسا على الاستقرار في حلب، وفي 1925 ما زال هنالك نحو 25000 إلى 30000 أرمني يقيمون فيها. وفي 1937-1939، عند التنازل عن سنجق الإسكندرون لتركيا، إلتحق 20000 لاجئ من كيليكيا بحلب. وبلغ سكان المدينة في 1945، وفقاً لإحصاء موثوق 332690 نسمة. وفي 1955، من أصل مجموع السكان البالغ 419000 نسمة، اعتبر عدد الأرمن الأرثوذكس والكاثوليك 77472 نسمة مع وجوب إضافة بضعة آلاف من الأرمن الإنجيليين إليهم ، أي ما يعادل 20% من الأرمن في صفوف عامة السكان. أياً يكن عدد الأرمن بالضبط، فإنهم شاركوا مباشرة وبطريقة غير متوقعة في إعادة تشكيل المدينة، وذلك من خلال بناء مخيماتهم الخاصة باللاجئين، التي ستغدو أحياء شعبية فسيحة (حي السليمانية والميدان والأشرفية). ويبيّن مخطط 1930-1931 بوضوح كيف أن المخيمات وضعت المعالم وهيأت لامتداد المدينة باتجاه الشمال الغربي، وناحية الشمال والغرب عبر الأحياء التي ستدمج في “مخطط تنظيم وتجميل وامتداد حلب” للأخوين “دانجيه” عام 1931، ثم في مخطط شحادة-ايكوشار في 1938. هذه الهجرة الوافدة الأولى والكثيفة تركت أثراً بالغاً في المدينة، قبل نصف قرن من تأثير نزوح الريفيين الذي بدأ في الستينات، والذي سيترجم إلى بناء أحياء “لا شكلية” واسعة الأرجاء في الشمال والشرق، تم تنظيمها مدنياً وجعلها بالتدريج قادرة على الحياة كما كانت المخيمات الأرمنية قد تمكنت من ذلك. إن سكان حلب، الذين زاد عددهم كثيراً جراء هؤلاء النازحين، يقاربون حالياً الثلاثة ملايين نسمة. أما في نهاية العصر العثماني، فكان سكان الأحياء الجديدة لا يكادون يمثّلون أكثر من 10% من مجموع سكان حلب، 75% مسيحيون، و19% من هؤلاء أرمن. لكن السواد الأعظم من الأرمن والمسيحيين كانوا لا يزالون يسكنون في أحيائهم القديمة خارج الأسوار، شمال المدينة القديمة، في الجديدة حيث تقوم الكنائس الرئيسية، وإلى الشرق قليلا. والأرمن يؤلفون الطائفة المسيحية الثانية بعد الملكيين (الروم الكاثوليك). وتُعتبر كنيسة الأربعين شهيداً، الموسّعة في القرن الخامس عشر أقدم كنائس حلب. أما كنيسة الأرمن الكاثوليك فلم يتم تكريسها للعبادة إلاّ في القرن التاسع عشر، بينما تطورت هذه الطائفة تطوراً كبيراً منذ القرن السابع عشر: والعديد من أسماء العائلات الأرمنية القديمة أسماء عربية والطائفة الأرمنية الكاثوليكية ناطقة أساساً باللغة العربية. وقد بنى تجار أرمن، أثروا من التجارة في بلاد العجم والبحر المتوسط قصوراً صغيرة كبيت “الوكيل” قرابة عام 1600 . وسوف تستقبل الـ “هاكه دون”، وهي خان مرحلي للمسافرين والحجاج الأرمن المتوجهين إلى القدس، لاجئين، ثم يغدو في الثمانينات موقعاً لنشاط مكثّف للتجارة بالمفرق، مطلاً على شارع التلال، حتى الكتابات الأرمنية القديمة باتت اليوم خافية على الأنظار جراء عرض ثياب وألبسة داخلية! واستقر أيضاً لاجئون في أحياء المدينة القديمة، حيث توافرت فسحات كما في العقبه؛ وأُنشئت مياتم في بيوت قديمة، وفي بعض الخانات، حتى فترة متأخرة كان تجار أرمن، في خان الحاج موسى، الذي يشغلونه بكامله، يتعاطون فيه تجارة الألبسة المستعملة بالجملة، تجارة كانت تشغّل العديد من النساء الأرمنيات. أُقيمت مدارس ومياتم في بيوت كبيرة مسيحية في الجديدة والصليبة (حارة سيسي…) هجرها ساكنوها القدامى. فيما كانت عائلات أرمنية أو سريانية (مردلّلية) تقطن في بيوت أصغر حجماً أو كانت تشغل منازل كبيرة بشكل جماعي، الأمر الذي حافظ على جماعات مسيحية في الأحياء المسيحية التاريخية. منذ عقد أو عقدين من الزمن رحل كل هؤلاء الساكنين تقريباً وشغل أناس أقل فقراً (مهاجرون أكراد أو تركمان) بعض البيوت من جديد، اشتراها مستثمرون لتوظيف أموالهم بهدف تحويلها إلى فنادق أو مطاعم. بعض المستثمرين الجددكانوا هم أنفسهم من الأرمن (كأحد متعهدي فندق ومطعم بيت الوكيل). ظلّت المدينة القديمة، في عهد الإنتداب، المدينة بامتياز، على تعدد سكانها، وتجارتها في الأسواق، وأنشطتها في ميدان الإنتاج، أنشطة نبيلة أو أقل نبلاً تمركزت في الضواحي منذ قرون. وقد وُسّعت فيها الشوارع أو أُعيد تنظيمها منذ أواخر القرن التاسع عشر من أجل تسهيل الوصول إلى المركز الإداري الكائن عند أسفل القلعة وتأمين حاجات الأسواق. والواقع انه إذا كان المركز الإداري العثماني الجديد في دمشق قد أُقيم ضمن الحدود الغربية للمدينة، فإن الإدارة المحلية والإقليمية في حلب، أي السراي، قصر العدل والبلدية جرى تجميعها عند أسفل القلعة، مركز السلطات وقلب المدينة منذ آلاف السنين: والقلعة نفسها، مع انها ليست الموقع السياحي المشهود الذي تتميّز به حالياً، يشغلها الجيش. وبعض التوسيعات أو الثغرات التي تمت في عهد الإدارة العثمانية، باتت محاطة بمنازل بنيت أو أعيد بناؤها بالتراصف. وخُصّص الطابق الأرضي منها في الغالب للتجارة أو الأعمال الحرفية، وأُعدّ الطابق الأول، بأكشاكه الخشبية، للسكن، للمكاتب ولأماكن الخدمة والمهن الحرة . ويُظهر ما بقي في الوقت الراهن والصور الفوتوغرافية والبطاقات البريدية إِبان الثلاثينات من القرن الماضي، يُظهر فسحة مدينية ذات قيمة نوعية، وشوارع عريضة نسبياً لإقامة أبنية مقتصرة خلال أمد طويل على مستويين أو ثلاثة، هي نماذج حدّدتها الإدارة العثمانية زمن “الإصلاحات” أثناء القرن التاسع عشر، ومازالت ادارة الانتداب الفرنسي تطبّقها حتى الثلاثينات على الأقل: واعتباراً من 1930، أصبح طلب رخصة بناء من البلدية واجباً، كما جرى تعديل قوانين البناء، وخصوصاً ارتفاع الأبنية، لأنها خضعت للتعديل مرة جديدة في 1936، حيث أُجيز تشييد المزيد من الطوابق. واتصل شارع الحجّارين، المنطلق من باب الفرح وبستان القولات، بالأسواق والجامع الكبير. وأفسحت “جادة” الخندق (وعرضها 20 متراً مع الأرصفة) منفذاً “حديثاً” صالحاً لمرور العربات ثم السيارات باتجاه السراي والبلدية والقلعة، قبل استعمال الحافلات الكهربائية (الترامواي) في 1928-1929. هذه الشوارع المنظّمة مؤخراً تشكل المساحات المخصصة للتجارة والخدمات الحديثة، حيث تكثر اليافطات الأرمنية لبعض المصورين الفوتوغرافيين والصاغة المحدثين، والخياطين وبائعي الأجواخ الإنكليزية للبدلات الرجالية. كما بدت للعيان لافتات الأطباء، أطباء الأسنان، الصيادلة، وتطوّرت كذلك الإعلانات في الصحف، وفي أدلّة التجارة وملاحق الأعمال المطبوعة. إنّ ساحة الأرمن في باب الفرج وبستان القولاب، وهما حيان “مركزيان” مخصصان أساساً لاستقبال المسافرين، كانت موقعاً مهماً، إذا ما حكمنا عليها مما كان قد بقي منها في الأعوام 1960-1970: مطاعم، فنادق، عيادات أطباء ومستوصفات خاصة، مخابز، تجار مشروبات روحية… ولا سيما ميكانيكيون متخصصون في تصليح الآلات وتجارة السيارات والأجهزة المستوردة، “إن سيل اللاجئين الأرمن، بدلاً من أن يكون سيلاً مدمراً، خصبَ العمل في حلب حاملاً معه أساليب ومؤهلات جديدة: كهربائيون، مركّبو آلات، خرّاطون، ميكانيكيون، عمال صناعات فنية ودقيقة، وتقنيون على اختلاف أنواعهم، نكاد لا نجدهم إلا بينهم وحدهم. ويمكن أن نذكر، بين المبدعين، شاباً حلبياً، يدعى أنطوان أوهانيان، وهو عصامي حقيقي: أدخل إلى حلب التلحيم الذاتي، وقام بتدريسه في مدرسة الصنائع، وصنع هو بنفسه مولدات غاز الاسيتيلين” . كان الأرمن، الذين برعوا في الأعمال المعدنية، قد ثبتوا وجودهم في الحي من قبل زمن عربات الخيل، وعربات الأجرة (200 عربة في العشرينات من القرن الماضي)، وعربات المسافرين، وعربات النقل، التي استلزمت تطوير قطاع جديد لإنتاج وصيانة المركبات المجهولة، حتى مؤخراً، في زمن قوافل الجِمال. أغلب الظن أنهم تبنّوا مهنتي صانع العربات والحدّاد المتخصص ، قبل أن يصبحوا ميكانيكيي سيارات : لم يكن، في 1920، من وجود للسيارات في المدينة تقريباً؛ في 1930، سُجّلت 1050 سيارة سياحية، 319 شاحنة صغيرة وسيارة ركاب كبيرة و89 شاحنة كبيرة. وازداد عددها ستة أضعاف في 1955، منها حوالى 5000 شاحنة كبيرة” (هذا النوع من النقل تغلّب عموماً على السكة الحديدية). كما اِرتفع عدد الميكانيكيين باستعمال مضخّات ديزل الآلية في الريّ، وقد شهد نموّاً سريعاً وخصوصاً في نهاية عهد الإنتداب. تحقّق دمج الأرمن عبر آليات لا شكلية خاصة، تيسّرت بفعل التشابه الكبير بين مجتمعهم الأصلي ومجتمع حلب، حيث كانوا من قبل كثيري العدد ونشيطين. كان تدفق اللاجئين مفرطا لا ريب فيه، وكانت عمليات الرحيل كذلك كثيرة بعد تموضع أولي: رحيل باتجاه بيروت ومدن أخرى في الشرق الأوسط، باتجاه أوروبا، فرنسا، أميركا، لكنهم بقوا لفترة طويلة الأكثر عدداً، دون شك، في حلب. هذه اليد العاملة اندمجت بسرعة، وربما على حساب الفئة الأكثر هشاشة من اليد العاملة المحلية. كانت الصناعة، في هذه الحقبة، شبه معدومة ولم يصبح هؤلاء اللاجئون عمالاً صناعيين، بل ظلوا حرفيين، عمال مشاغل صغيرة، حيث يشتغل بعض الأشخاص مع رب العمل. كما ان حضور الأرمن وسط أعضاء غرفة التجارة لم يكن كبيراً في ذلك الحين: أقل من 30 من أصل 325 تاجراً وحرفيّاً مسجلاً في 1932-1933، في حين أن ظهورهم في المجال التجاري العام أشد بكثير. تبيّن صور فارطان ديرونيان الفوتوغرافية أن نشاطاً إقتصادياً شهد تطوراً في المخيمات: كالحياكة والأنشطة النسيجية التقليدية، التطريز وحياكة السجاد للنساء، إذ “تخرج قرابة خمسين ألف متر سجاد من المشاغل الحلبية حيث يكاد لا يعمل فيها غير لاجئين أرمن” . وفي سوق النحاسين، وجدوا مكاناً لهم بين صناعي الأدوات النحاسية. ظهرت المصانع “الحديثة” الأولى مع إنشاء محطة لتوليد الكهرباء في 1929. كانت في بادئ الأمر مصانع للنسيج ثم مصنع غزل كبير تأسس في 1933، ثم مصنع آخر في 1939، بمبادرة من مستثمرين رأسماليين وتجار ومالكي عقارات. واستمرت حركة التصنيع باطراد أثناء العصر الذهبي للحرب العالمية الثانية… إلا أن القيود الوطنية الجديدة مازالت هنالك وبات التصدير أشد صعوبة: منذ أكثر من قرن تكاد المنطقة والمدينة لا تصدّران أياً من المنتجات الصناعية باتجاه أوروبا والغرب، إنّما تصدّران مواد أولية شبه محوّلة: فتصدير القطن بزغب براعمه ونادراً ما بعد غزله ونسجه إلى مارسيليا والبروفانس يعدّ من القرن الثامن عشر مثالاً على الإقتصاد الذي أصبح ذا طابع خاص بالمستعمرات. ولكن المنتجات المحلية هي في الوقت نفسه مصدرة دائماً إلى حوض إقليمي واسع؛ ومهن الحياكة التقليدية تواصل نضالها في الخمسينات والستينات فتزداد أعدادها، ويُعتبر استيراد أنوال “جاكار” آلية من مدينة ليون بمثابة ثورة صغيرة سيستفيد منها الحائكون الأرمن . ثم ستعمل الأزمة العالمية الكبرى على تعكير صفو الإقتصاد، إلاّ أن حلب بقيت في هذه الفترة أيضاً ناشطة، تنتج أقمشة، صابوناً وأدوات أخرى للمنطقة كلّها الممتدة إلى ما وراء الحدود، بالمعنى الشامل للكلمة. ما زال الأرمن بعد الحرب العالمية الثانية، وتحقيق الإستقلال وحدوث الإنقلابات السياسية، ووصول حزب البعث إلى السلطة، والهجرة الإقليمية الكثيفة والتفجر المديني، ما زالوا على الدوام في حلب، ميكانيكيين، صاغة، أرباب عمل أو شركاء في مطاعم وفنادق، أطباء، محامين، مهندسين، صناعيين، مثقفين وموسيقيين، لكنهم توقفوا عن ممارسة العديد من المهن الصغيرة التي كانوا يبرعون فيها، مهن زالت الآن أو راح يزاولها آخرون، أشد فقراً منهم. وجرى تأميم فندق “بارون” في الستينات. وبات المصورون الفوتوغرافيون على وشك الزوال مع اختراع التصوير الرقمي. وأصبح الميكانيكيون أكراداً تزايدت أعدادهم باطراد. فيما حاز الأرمن بلا ريب بعض الدرجات في سلّم المراتب الاجتماعية… ولعلهم ما زالوا في أسواق الصاغة، في ساحة فرحات الآن وفي السليمانية الأكثر عدداً والأكثر حضوراً مما هم على الأرجح في المدينة. والجماعات الطائفية تتكامل دائماً في المدينة كما في السوق، بحيث يتعذّر استبدال أي جماعة مع اختصاصاتها، بيد أن التوازن السكاني القديم قد تقلب كلياً رأساً على عقب جراء نزوح الريفيين الكثيف وسكان البلدات الصغيرة، في الوقت نفسه الذي هاجر فيه المسيحيون بأعداد كبيرة وأنجبوا عدداً أقل من الأولاد… كما أن الفضاء العام تطور: إذ افتقر المركز القديم الحديث وبات “موحَّداً”، فتغيّر تغيّراً عميقاً في غضون بضعة أعوام، وتميّز باللباس الموحّد الأسود للنساء، مؤشر واضح على نوع من المواطنية الضيقة. أما أجزاء أخرى من المركز آخذة في التطور باتجاه الغرب والشمال، فتبقى أكثر انفتاحاً، بحيث يستطيع كل فرد أن يجد أخيراً في المدينة مستوى الخدمة وأشكال التواصل والتعبير التي تلائمه!

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *