الشتات الارمني والذاكرة القومية

د. حافظ برجاس * “القضية الارمنية في الفكر اللبناني” بيروت – 2000 كثر الحديث حول القضية الأرمنية من مختلف جوانبها التاريخية والحقوقية والإنسانية. وهي قضية شعب ناضل ويناضل من أجل الوصول إلى حقه في تقرير المصير وإقامة دولته المستقلة على كامل ترابه الوطني. هذه القضية كمثيلاتها من القضايا العالقة في ضمير الإنسانية تنتظر الحلول العادلة وفقاً لقواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان. وإذا كانت الحلول المنتظرة من المجتمع الدولي الممثل بمنظمة الأمم المتحدة بعيد المنال، فإن نضال الشعوب وإلتزامها في طرح قضاياها المحقة يبقى السبيل الوحيد للدفاع عن حقوقها القومية. هذا ما التزم به الشعب الأرمني طيلة مسيرته النضالية خصوصاً في عالم الشتات الذي كان له الفضل الأكبر في إحياء الذاكرة القومية وإرتباطه بالأرض وقضية الوطن. وإذا كانت الذكرى الخامسة والثمانين للإبادة الأرمنية تذكرنا اليوم بعمليات المجازر والتهجير والقمع والتنكيل التي تعرض لها الأرمن على أيدي الصهاينة والطورانيين في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فإن هذه المعاناة هي التي صنعت لهذا الشعب إرادة الصمود وإصراره على الإرتباط بأرمينيا الوطن في الوقت الذي تكيف فيه مع البلدان التي تواجد فيها. إنها خصوصية الشعب الأرمني والقضية الأرمنية التي تستحق الإلتفاتة بهذه المناسبة. فكيف تبدو هذه الخصوصية؟ وما هي مميزاتها؟ إن أدركنا أن الشتات الأرمني يشكل أكثر من ضعف عدد السكان الموجودين في أرمينيا المستقلة حديثا، لأيقنا مدى الحيوية التي يتمتع بها والدور الذي يقوم به في عملية التواصل وإحياء الذاكرة القومية. فالشعب الأرمني، منذ بداية تهجيره في أواخر القرن التاسع عشر إلى مختلف البلدان العربية والأجنبية لم يتوان لحظة عن تحمل مسؤولياته القومية والوطنية مستمدا من الضعف قوة، ومن المأساة عزيمة، ومن صنوف القهر إرادة الحياة. وفي حالة تشرده، لم يكن هذا الشعب عالة على أحد ولم يستجد الأكف، بل انصرف إلى العمل وأخذ ينظم حياته في عالم الشتات. لم يتوقف أرمن الشتات عند هذا الحد، فانخرطوا في الحياة السياسية والإقتصادية والإجتماعية للدول التي أقاموا فيها وحصلوا على جنسياتها المختلفة، دخلوا البرلمان والحكومة وأقاموا المؤسسات الإقتصادية والصناعية، وساهموا في تفعيل وتطوير إقتصاديات تلك البلدان. ما يثير الدهشة في هذا الشعب، أنه بقي في مطلق الأحوال والظروف مرتبطا بأرضه حاملا لواء قضيته في الوقت الذي يشارك فيه بإخلاص في الحياة الوطنية العامة للبلدان التي يعيش فيها. إنها ميزة الشتات الأرمني الذي جمع على قدم المساواة بين هويته الأصلية وهويته المكتسبة. هذه الميزة نابعة من أصالته وتراثه الحضاري العريق. يكفي أن نشير إلى أن بقاء هذا الشعب، ونجاحه في طرح قضيته على المحافل الدولية، يعود بالدرجة الأولى إلى تمسكه بتراثه وإيقاظه الذاكرة القومية في نفوس أبنائه. فالشعب الذي يفقد ذاكرته القومية يفقد إيمانه بقضيته وحقه في تقرير مصيره. هذا ما تنبه له الأرمن في عالم الشتات فعملوا جاهدين للمحافظة على تراثهم القومي الزاخر بمكوناته الفنية والثقافية والحضارية. ولكي يبقى هذا التراث حيا في عقول الناشئثة جيل بعد جيل، إندفع أرمن الشتات بكل فئاتهم، وفي أي بلد حلوا فيه إلى إستنباط الوسائل والطرق التي من شأنها تعميق الإرتباط بأرض الوطن وقضيته الكبرى. ومن هذه الوسائل: إنشاء المدارس والجامعات التي تعلم من ضمن برامجها تاريخ الأمة الأرمنية وحضاراتها وتراثها، وتدرس لغة الأم إلى جانب اللغات الأخرى. تأسيس الأحزاب السياسية التي استقطبت الشباب الأرمني وأخذت على عاتقها النضال من أجل إنتصار القضية الأرمنية بكل الوسائل المتاحة. إقامة العديد من الجمعيات والنوادي الثقافية والرياضية التي تهتم بتربية الجيل الصاعد تربية وطنية تعمّق إنتماءه إلى أمته وتراثها الحضاري. تشكيل لجان الدفاع عن القضية الأرمنية والعمل على طرحها في المحافل والمؤسسات الإقليمية والدولية. إصدار العديد من الصحف والمجلات والنشرات التي تؤمن عملية التواصل الدائم بين أبناء الأرمن المنتشرين في بعض دول العالم من جهة وبينهم وبين المقيمين في أرمينيا حاليا. إقامة المؤتمرات والندوات والمحاضرات التي تطرح القضية الأرمنية بكل تداعياتها. إنشاء مراكز للبحوث والدراسات التي تطرح التاريخ الأرمني في كافة مراحله. إقامة المهرجانات التراثية التي تعرض فيها مختلف الفنون والرقصات الفولكلورية المعبرة عن التراث الأرمني الأصيل. إن مثل هذه المؤسسات والنشاطات التي تولاها الشتات الأرمني المنتشر في بلدان العالم ساعدت على إيقاظ الذاكرة القومية وطرح القضية الأرمنية على كافة المستويات الإقليمية والدولية. من الصعب بعد اليوم إلغاء الخصوصية الأرمنية وشطب قضيتها التي أصبحت مغروسة في ضمير الرأي العام العالمي بالرغم من لعبة المصالح الدولية وانعكاساتها المستمرة. يبقى أن نقول أن الشعب الذي يتمسك بتراثه القومي ويرتبط بأرضه وقضيته هو شعب يتجاوز المحن ويفرض نفسه على الوجود. والتاريخ مليء بالشواهد. * استاذ في الجامعة اللبنانية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *