الصعوبات في طريق دخول تركيا النادي الأوروبي

محمد عبد القادر – باحث مصري الحياة 17 ت2 2006 كلما تقدمت تركيا على طريق بلوغ العضوية الأوروبية، تغدو الصعوبات التي تواجهها أكبر وأوضح، بما يفوق في أحيان عدة القدرة على المثابرة، فبعد أقل من عام على بدء مفاوضات العضوية الأوروبية مع تركيا ما زال الوضع يحتفظ بملامحه السكونية بل ويزداد المأزق وطأة، فالإشكاليات المثارة تحمل عنوان الاستعصاء، ولم يتم تجاوز الكثير منها، إن بشأن قضية الأرمن أو بشأن الاعتراف بقبرص وتحسين سجل تركيا في مجال حقوق الإنسان، أو في ما يخص مجالات الاقتصاد والقوانين والتشريعات وغيرها. تلك الحال كان من الواضح منذ البداية مدى صعوبة تجاوزها، فقد بدت أنقرة حين شرعت في مفاوضات العضوية كمن يدخل في سراديب المجهول. وعلى رغم الإدراك المسبق بأن أيا من التجارب السابقة للدول المشمولة بالعضوية الأوروبية لم تسفر عن فشل مفاوضات اجتياز عتبات الاتحاد الشاهقة، غير أن ذلك لا يخفف في الآن ذاته من الوعي بخصوصية “المسألة التركية” . وخصوصية المسألة هذه نبعت في جوهرها من أن أيا من الطرفين لم يكن حازما جد الحزم في موقفه من الآخر، ففيما حكمت السياسة التركية إزاء المنظومة الأوروبية إدراكات النخب الحاكمة، وتوجهات الرأي العام، والتطلعات السياسية والاقتصادية، كانت عوامل موازية تجعل خطواتها على ذات الطريق أشبه بالهرولة في المكان، حيث تنامي النزعة القومية، والريبة من إملاءات الاتحاد بشأن حقوق الأقليات، خصوصا الكردية منها، والاستحقاقات التاريخية كحتمية الاعتراف بالانتهاكات العثمانية إزاء الأرمن، والإجراءات الأوروبية العقابية في هذا السبيل مثل القانون الفرنسي الأخير، والذي يعاقب كل من ينكر مذابح العثمانيين للأرمن بالسجن ويعرضه للغرامة المالية. وذلك في مجمله أفضى إلى قناعة تركية مغايرة ومجابهة للوبي الأوروبي الواسع النفوذ في تركيا مؤداها أن النظرة الموضوعية للعضوية الأوروبية تكشف أن عوائدها قد لا تتخطى تكلفتها. بل أدى التفاعل بين هاتين القناعتين إلى استجابة تركية في كثير من الأحيان «مترددة» وغير صارمة نحو المشروع الأوروبي، فقد كانت الغلبة لأي من القناعتين موقتة وغير نهائية، ما شكل محددا رئيسيا في صياغة أسلوب تعاطي الاتحاد الأوروبي مع مطالب تركيا بشأن أحقية نيل العضوية الأوروبية. وبدا ذلك واضحا على سبيل المثال من الاشتراطات الأوروبية التي تضمنها تقرير المفوضية الأوروبية في نهاية العام الماضي – والمتوقع أن يغدو هذا العام أكثر تشددا وانتقادا للسلوك التركي – إذ جعل في مقدور الاتحاد أن ينفض عن كاهله عبء الملف التركي عبر تعليق المفاوضات، وجعل انضمام تركيا للاتحاد ليس أمرا حتميا، فضلا عما تلا ذلك من قبيل دعوة أنقرة للاعتراف بالإبادة الأرمنية عام 1915، وهي الإشكالية التي ستنعكس تجلياتها على طبيعة التفاعلات الأوروبية التركية خلال الأعوام القليلة المقبلة، لاسيما بعد الجرأة الفرنسية على اقتحام هذا الموضوع، وما أثير حول مسألة اعتراف الأتراك بمسكونية البطريركية الأرثوذكسية في اسطنبول، وفتح مدارس الرهبان المغلقة منذ عقود ثلاثة. إضافة إلى ما أعلن عن اتجاه كل من فرنسا والنمسا إلى إحالة موضوع عضوية تركيا إلى الاستفتاء الشعبي. وهي عوامل أوضحت في مجملها أن بدء المفاوضات مع تركيا لم يكن يعني بأي حال أن هناك “صكاً” للعضوية حصلت عليه تركيا بمجرد الشروع في مفاوضاتها مع الاتحاد الأوروبي، فسلوك الاتحاد إزاء تركيا لا يزال يرتبط بإشكالية الانقسام الأوروبي ساسة وأحزابا حول أوربة تركيا، فالجانب الداعم لتركيا يؤسس موقفه على عوامل أهمها: أولا، أن الهوية الأوروبية لم تكن لتعبر عن قومية مستقلة بذاتها، إذ أن الاتحاد الأوروبي يتكون من دول ذات لغات وأعراق وديانات مختلفة، ومن ثم فالركون إلى هذا العامل يحمل شبهة تجنٍ إذا ما دفع برؤية أوروبية مفادها أن تركيا دولة على هامش أوروبا. ثانيا، على رغم ما أسفرت عنه أحداث 11 ايلول (سبتمبر)، وتفجيرات قطارات مدريد ولندن، من اتساع نطاق ظاهرة “الإسلاموفوبيا” لدى الغرب، غير أن ثمة فريقا أوروبيا ما زال يرى أن قبول دولة معظمها من المسلمين في الاتحاد الأوروبي، يعني في أحد أهم جوانبه أن تركيا باتت تشكل جسرا بين الحضارتين المسيحية والإسلامية، ومن ثم فإن العضوية التركية من شأنها أن ترسل إشارة إلى جوار تركيا مؤداها أن الاتحاد الأوروبي يبدي من المرونة والاستنارة ما يكفي لتقديم منظور الشراكة الفعلية والأصلية على ما سواه. ثالثا، الركون المحض إلى التكلفة الاقتصادية التي سيتحملها الاتحاد الأوروبي في حال انضمام تركيا إلى الاتحاد يشوبه إغفال المكاسب الاقتصادية التي قد يحققها الاتحاد في حال حدوث ذلك، إذ ستنفتح سوق اقتصادية ضخمة أمام منتجاته قد تصل عائداتها إلى مئتي مليون دولار. إضافة إلى ما يمثله تسارع وتيرة الاستثمارات الغربية في تركيا من أرباح هائلة للطرفين، فضلا عن أن الدول الأوروبية أصبحت هرمة لانخفاض معدلات الإنجاب، ما سيترتب عليه ارتفاع حد الإعالة، وتقلص أعداد القوة البشرية المنتجة. ومن ثم ستصبح الهجرة التركية في وقت قريب الأكثر قدرة على التكيف والتأقلم مع المنظومة الأوروبية. رابعا، في ظل التحديات التي يواجهها الغرب جراء تنامي العنف الأصولي الإسلامي، يتحتم على الاتحاد الأوروبي أن يدعم تسويق التجربة التركية العلمانية، تأكيدا أن الحداثة الغربية والليبرالية الديموقراطية لا تتعارضان مع قيم الإسلام، وتأسيسا على أن انضمام تركيا إلى الاتحاد سيطمئن أثني عشر مليون مسلم يعيشون في أوروبا بشأن حقوقهم كمواطنين كاملي الحقوق، وكجزء شرعي من نسيج الحياة الأوروبية. خامسا، ان قبول عضوية تركيا يرتبط بإعادة صياغة الرؤية الأوروبية لدورها على الصعيد العالمي، وهو ما أكدته مجموعة الخبراء التي أوكل إليها الاتحاد الأوروبي مهمة وضع استراتيجيته بعد الغزو الأنغلو – ساكسوني للعراق. إذ أوضحت نتائج العمل أن الحرب على العراق أوجدت أوضاعا جيو – جغرافية وجيو – اقتصادية جديدة لأوروبا في الشرق الأوسط، تحبذ ضم تركيا إلى الاتحاد. وفي مواجهة العوامل السابقة ثمة عوامل عديدة يستند إليها معارضو عضوية تركيا الأوروبية، منها: أولا: ثمة قوى عديدة داخل اليمين المحافظ وبعض من اليسار الأوروبي ترى أن الهوية الأوروبية ذات رابط جوهري بالدين المسيحي، بما يدفع إلى رفض عضوية دولة مسلمة حتى وان كانت اكثر تشدداً في علمانيتها من بلدان مثل فرنسا وبريطانيا. ثانيا: ثمة تباين واضح بين تركيا والاتحاد الأوروبي في قضايا ثقافية عديدة، منها أن إنفاق الفرد في تركيا على شراء الكتب لا يتعدى الدولارين سنويا، في حين يصل في أوروبا الى زهاء خمسمئة دولار. إضافة إلى أن حجم ما تنفقه تركيا على الطالب الواحد يقدر سنويا بأربعمئة وخمسين دولارا، فيما يصل إلى عشرة أضعاف هذا الرقم أوروبيا. كما أن 40 في المئة من سكان تركيا يعملون في الزراعة، بينما لا تتعدى هذه النسبة الـ2 في المئة في أوروبا. وهو ما قد يوجد صعوبات عديدة أمام تركيا في التأقلم مع ثقافة الاتحاد الأوروبي. ثالثا: تنبئ المؤشرات الديموغرافية أن تركيا ستغدو في المستقبل المنظور، إذا انضمت إلى الاتحاد الأوروبي، الدولة الأكثر وزنا في المؤسسات التشريعية الأوروبية. ما يتضاعف أثره إذا ما أضيف أنه بحلول عام 2050 سيصل هذا العدد إلى 89 مليونا، بما يوازي الحجم الديموغرافي لمجموع سكان الدول العشر التي انضمت للاتحاد بدءا من ايار (مايو) 2003. رابعا: يشكل الوضع الجغرافي لتركيا، من حيث حدودها الطويلة مع العراق وإيران وسورية والتداخل في مناطق الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، حيث تفاقم المشكلات الأمنية، دافعا لعدم قبول العضوية التركية في الاتحاد الأوروبي، لاسيما أن وضعاً كهذا سيخلق صراعات دولية حول مناطق النفوذ مع الولايات المتحدة وروسيا. وفي التحليل الأخير، يبقى التأكيد على أن ما شهدته الساحة الأوروبية من دعوات لفرض مزيد من القيود أمام تركيا من قبيل ضرورة الاعتراف بجمهورية قبرص، وبمذابح الأرمن، إنما هو انعكاس واضح لغلبة دوافع رفض منح العضوية الأوروبية لتركيا، وهو سيدفع عما قريب بتشدد تركي مقابل تحت تأثير إعادة تشكل التيار القومي الذي يرى في العضوية الأوروبية أملاً مفقودا، وتنازلا محتوما، لا رابط بينهما. وعليه يظل مستقبل الانضمام التركي للاتحاد الأوروبي مرتبطا بتغير التفاعلات الأوروبية، بما يؤدي إلى بروز أقوى وأوضح للعوامل الدافعة نحو تحقق الطموحات التركية، وبما يساهم في خفوت أصوات ونفوذ القوميين الأتراك، حتى يتاح للحكومة التركية الاستجابة للاشتراطات الأوروبية. وإلى أن يتحقق ذلك، يظل مصير انضمام تركيا غير معلوم، لاسيما أن الانتخابات التركية الرئاسية والبرلمانية باتت على الأبواب، ليهتز الموقف التركي جراء حلول موسم المزايدة حول العضوية الأوروبية بين أحزاب تركيا.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *