يقلم المونسنيور جورج يغيايان- كنيسة الارمن الكاثوليك، كندا النهار 27 ايلول/سبتمبر 2010 هل للكنيسة الارمنية من كلمة حق تقولها وشهادة وجدانية تعلنها لمسيحيي الغرب، وللعالم الاسلامي ولشعوب العالم، إثر انعقاد “سينودس الكنيسة الكاثوليكية الخاص من أجل الشرق الأوسط”، الذي دعا اليه قداسة البابا بينيديكتوس السادس عشر، والذي سيُعقد في روما بين العاشر والرابع والعشرين من شهر تشرين الأول؟ اردت، بهذا السؤال، أن اسلط الضوء على الانتشار الارمني في البلاد العربية، وعلى الوجود المسيحي في الشرق، أنا الكاهن الارمني، وليد عائلة ارمنية من مدينة ماردين التركية، من بين مئات الآلاف من العائلات التي تهجرت عنوة، وهاجرت قسراً من ارض اجدادها وآبائها تاركة وراءها قصوراً ومنازل وأديرة وكنائس ومتاجر وصروح علم وفن وثقافة، ومعالم حضارية تراثية، على أثر الإبادة الجهنمية التي تعرض لها شعبي الارمني من قبل حكّام تركيا الفتاة عام 1915. أمام هول هذه المجزرة – الابادة وفظاعتها، وأمام نكران الحكومات التركية المتعاقبة ورفضها الاعتراف والتعويض عما اقترفته الأيدي المجرمة من ويلات وفظائع وجرائم ضد الانسانية، أتساءل ويتساءل معي كل أرمني، وكل انسان ذي ارادة صالحة ينادي اليوم بالحق وبقدسية الحقوق الانسانية، عن سبب ومسببات هذا الارهاب الجسدي والثقافي والفكري والديني، الساعي الى تدمير الانسان اولاً وما بناه وشيّده من شواهد وتراثات. فالى متى سيتخاذل الضمير العالمي في الغرب؟ والى متى ستهان العدالة الدولية في أروقة الامم المتحدة وعلى منابرها أمام ابادات بشرية وجرائم همجية عبثية ارتكبت منذ مطلع القرن العشرين ولا تزال ترتكب باسم وعد إلهي توراتي، ومصالح بترولية، وصراعات عرقية ومذهبية وطائفية؟ نعم، على الرغم مما أصابنا نحن الأرمن، وما أصاب مسيحيي الشرق من اضطهادات مباشرة وغير مباشرة، ومن اجحاف في الحقوق هنا وهناك، ومن تنكيل وتهجير، تارة باسم الانتماء الديني، وطوراً باسم المصالح السياسية التوسعية، وآخر باسم الانتماء العرقي، لا نزال، من صميم كياننا ومعتقداتنا، ننادي بعيش مشترك، مع من يقاسمنا المواطنة الصادقة من أبناء الوطن الواحد الذي اليه ننتمي، واليه نعود. فنحن لسنا أهل ذمّة، ولسنا مواطنين من الدرجة الثانية او الثالثة، اينما كنا، بل نحن اصيلون كتراب الأوطان التي من رحمها ولدنا وتحت سمائها تكاثرنا. بسواعدنا وعقولنا وثقافاتنا وتراثاتنا المتنوعة واخلاصنا سعينا في الماضي، ولا نزال نسعى لبناء اوطاننا وإثرائها والذود عن قيمها ومبادئها وسياساتها وحقوقها بدمائنا وأرواحنا. إننا ندين الارهاب من اية جهة أتى ولأي سبب كان. ندين الارهاب السياسي والفكري والديني باسم الانجيل والقرآن والانسان. وندعو اصحاب الديانات، والقيمين على شؤونها وشجونها، الى كلمة سواء. ندعوهم الى الاحترام المتبادل، والاعتراف بالآخر، اعترافاً سوياً صادقاً وصريحاً ورعاً، لا مواربة فيه ولا رياء ولا كذب ولا نفاق. ندعوهم الى قبول الآخر، فقيراً كان ام غنياً، ضعيفاً أم قوياً، جاهلاً أم عالماً، مؤمناً أم ملحداً. أصابنا ما أصابنا من نكبات وخيبات وويلات، على مرّ العصور والازمنة، والتاريخ خير شاهد، بسبب اعتناقنا المسيحية وتشبثنا بها قيماً وأخلاقاً وحياة، فهي لنا طريق فرح وسعادة وسلام وحياة أبدية. ولكن، لم ننسَ ولن ننسى أن هناك اسلام، نعتز به ونشهد له، احتضننا وفتح لنا أبواب قلبه ومدنه وقراه وسجلات نفوس دوائره الحكومية الرسمية، أعني بها البلاد العربية الاسلامية: سوريا، لبنان، مصر، الاردن، العراق، فلسطين. هذه البلاد التي استقبلت قوافل المهجرين، المشردين من ابناء شعبنا الارمني وشعوبنا المشرقية المسيحية، وقدمت لهم كل عون مادي ومعنوي ليستعيدوا كرامتهم المهانة، وانسانيتهم المزدراة، وايمانهم المهان المصلوب. هكذا عرفنا الاسلام والمسلمين، نحن مسيحيي الشرق. فهل تراجع الاسلام مطلع القرن الحادي والعشرين عن مشروعه الحضاري، وغابت الشخصية العربية الواثقة والسوية والمطمئنة والقوية والحاضرة والمتبصرة والثائرة والملتزمة، وذلك لمصلحة ردود الفعل والانفعال والانتقام والغوغائية والارتباك وفقدان الثقة والتكفير والتهجير والقتل والترهيب والتخوين؟ لماذا الثأر من أناس مواطنين عزل مسالمين، لا ذنب لهم سوى اخلاصهم لأوطانهم وتعلقهم بأرض اجدادهم؟ ألم نفهم بعد أن الوطن والأوطان للجميع، مسيحيين ومسلمين، مؤمنين وملحدين. فلا يجوز المس بمواطنية كائن مَنْ كان بسبب افكاره او مرجعيته. الدين أيضاً للجميع، “فلا إكراه في الدين”، هكذا تعلمنا، وهكذا رددنا منذ نعومة أظفارنا. والله أيضاً للجميع، فمَن شاء أن يؤمن فليؤمن، ومن لم يرد ذلك فالمحاسبة عند الله، وليس لأحد أن يحتكر الوطن ولا الدين، ولا الله، او ان يتكلم باسمه، فهو القدير العليم. هكذا عرفنا الاسلام، نحن الارمن، البارحة سنة 1915، واليوم، عرفناه عائلات عربية اسلامية تبنت بناتنا وأبناءنا حفاظاً على حياتهم النضرة. عرفناه جماعات دافعت عن شبابنا وشاباتنا، وقدمت اليهم المخابئ وعرفنا حكومات اعطتنا ما فقدناه في وطننا، في تركيا بالذات، دول وحكومات أعطتنا الهوية والحقوق المدنية، فأعطيناها الصدق والاخلاص والنهضة الحضارية الاقتصادية والثقافية. الى هذا العيش المشترك، الى هذه المساواة في المواطنية الواحدة الصادقة، قادنا الدين والديانات بالأمس. فماذا حصل اليوم؟ هل تغير وتبدل الإله الذي نعبد، وهو الإله السرمدي الواحد الأحد؟ هل أصبح سفاك دماء، ذاك الذي كان بالأمس ينبوع رحمة تجاه خلائقه وأبنائه؟ هل تحوّل الى رئيس عصابة وميليشيا، يجمع من حوله حفنة من المجرمين السلفيين، ليعيش وإياهم في مغاور فكرية ايديولوجية مظلمة، قاتمة، ذاك الذي خلق الشمس والقمر والكواكب، وأنار المسكونة والقلوب بكلمة انجيله وقرآنه، وبنوره الإلهي البهي؟ أمام هذا التقهقر الديني، وأمام هذا الجهل الايماني، وهذه العصبيات الممقوتة السوداء، نتساءل نحن الارمن، ومعنا ملايين المسيحيين المشرقيين، وكنا مكرمين متساوين في الحقوق والواجبات المدنية على مساحات البلاد الاسلامية، الى متى سيبقى الجهل مسيطراً على العقول والتصرفات، والغوغاء متغلغلة في المخططات وعلى الآفاق؟ فنحن ندين الارهاب، وكل ارهاب من أية جهة أتى وباسم ما ومَنْ أتى، أكان باسم الإله أم باسم عبد الله. إننا ندين الحرب والحروب دينية كانت ام تكفيرية. إننا ندين الديماغوجيات في أدائها وطغيانها على العلم والمنطق والعقل. فالى حوار الديانات والحضارات والثقافات، والى الحوارات الهادئة البناءة، نحن مدعوون. الى العيش المشترك، مسيحيين ومسلمين، نحن مدعوون، على أرض اوطاننا الغالية، وعلى أرض هذا الشرق المنكوب. الى المحبة، نحن مدعوون. فالإله الذي نعبد، وله نسجد، وأمامه نركع، ليس في حاجة أبداً الى طائراتنا النفاثة واسلحتنا النووية، ولا الى متفجراتنا وقنابلنا وانتحاريينا، ليوطد ملكه على الأرض وبين الأمم والشعوب وفي القلوب. نعم، هذا ما سنشهد له نحن الارمن، ككنيسة ارمنية وشعب ارمني، ونحن نلج عتبات السينودس، مشاركين في أعماله، فاعلين في لجانه، وناطقين بالحق والحقيقة، حقيقة المجزرة الشنيعة، والتهجير القسري، والإبادة المشؤومة التي أصابت كنيستنا الارمنية وشعبها سنة 1915، والتي لن تمحى من ذاكرتنا القومية الجماعية والفردية، ولن تمحى من ذاكرة الشعوب المتحضرة. كما أننا سنشهد ما للبلاد العربية الاسلامية وحكوماتها الرشيدة، وملوكها وأمرائها ورؤساء جمهورياتها وقادتها العظام، من فضل كبير على استقبالها لنا يوم تشردنا وتضميد جراحاتنا، وانتشالنا من مستنقعات وبؤر اليأس والقنوط، يوم تهجرنا وهاجرنا. هذه هي شهادتنا. اما مطلبنا فهو السعي للحد من النزف الحاد للوجود المسيحي في الشرق، وللتهديد اليومي لهذا الوجود، مما يقوضه وينزع عن الشرق الأوسط، وخاصة عن العالم العربي، ميزته وعلامته الفارقتين في التنوع والتعدّد. لذا نلح على ضرورة التنبه الى من يُظهر عداوة وتطرفاً من أجل زرع بنود الانشقاق، والمحاولات لافراغ الشرق من مسيحييه. فالوجود المسيحي المشرقي لن يقوى إلا بالامانة الكاملة لتعاليم الانجيل، اليوم وغداً. فلا يمكن ان نعيش مسيحيتنا اذا لم نشارك اخوتنا في الايمان. بروح المحبة والانفتاح. والسعي الى الوحدة المرجوة. فمهما تنوعت أسباب الخلافات، وتعددت الأنظمة والخصوصيات في كنائسنا، يبقى المسيح، الألف والياء، قوة كياننا، وديناميكية وجودنا، وغاية مبتغانا. كما أن هذا الوجود المسيحي المشرقي يقوى أيضاً، وثانياً، بقبول الأخوة المسلمين لنا، نحن المسيحيين المشرقيين، مواطنين متساوين بالحقوق والواجبات، مساواة كاملة لا زيادة فيها ولا نقصان. فهذا حق إلهي وطبيعي ووطني، نطلبه ونطالب به لنبني، سوية اوطاناً اساسها مبادئ الكرامة الواحدة، والعدالة الواحدة، والحرية الواحدة، لكل مواطن وللمواطنين كافة. فهذا لم يتحقق ولن يتحقق إلا من خلال برنامج حضاري وانساني وتاريخي ومشروع نهضوي عربي اسلامي، يشارك فيه المسيحيون مشاركة فاعلة، كما سائر المجموعات الدينية والمذهبية والقومية، ويحمل، ليس فقط وضوح الرؤية وحزم الموقف وصلابته، وإنما سمو القيم الاخلاقية الانسانية النابعة من عدالة قضايا منطقتنا، ومن ثوابت الحق والعدل والكرامة والحرية، لكل البشر وللانسانية جمعاء. هذا ما نتمناه وما نعمل له، وما نصلي من أجله، كنيسة، ومؤمنين، وذوي ارادات صالحة، لكي يكلل الرب الإله، خالق الكون والانسان وفادي البشرية، مساعي المجتمعين، لخير المواطنين اجمعين، مسيحيين ومسلمين ويهود، في بلاد الشرق الأوسط، فيتفجر نور حضاري إلهي – أنساني من الشرق، وينير القلوب والعقول، ويوطد السلام في اورشليم، مدينة السلام أولاً، وعواصم ومدن الشرق، وتعم الرفاهية، وينتشر الفرح والسرور والاطمئنان بين جميع الشعوب المشرقية وفي العالم.