د. دعد بو ملهب عطا الله * “القضية الارمنية: تحديات و تطلعات” بيروت – 1996 أشرف القرن العشرين على نهايته ، والمسألة الأرمنية، التي ورثها عن سلفه، ما زالت تنتظر حلا . والحل يبقى خاضعا، إلى حد بعيد، لمصالح وحسابات القوى القيمة على النظام الدولي. أما القوتان اللتان كان لهما التأثير الأبرز لجهة عدم حل هذه المسألة، خلال هذا القرن، فهما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الأميركية. وكان ذلك بعد غياب أو تغييب القوى الاوروبية التقليدية. وأما الحسابات الكامنة وراء عدم حل هذه المسألة فهي جيوسياسية إقليمية ودولية. وتحتل دول الجوار، وعلى رأسها تركيا، موقعا محوريا في هذه الحسابات على الرغم من التحولات التي شهدها النظام الدولي خلا ل هذه الفترة . منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ارتبطت المسألة بالاتحاد السوفياتي، كما ارتبطت في السابق بروسيا جغرافية وإستراتيجية . ودخلت مجال الاهتمام الأميركي، أثناء مباحثات السلم عند نهاية الحرب العالمية الاولى. أما التحولات في النظام الدولي، خلا ل هذا القرن ، فلم تحمل معها مؤثرات فعلية لصالح “القضية الأرمنية” وظلت بالتالي المسألة مطروحة . إن نظام فرساي وعصبة الأمم ، بعد الحرب العالمة الأولى، أثر في التعاطي مع مختلف الشؤون الدولية والإقليمية بتراجع آلية التفاهم الجماعي لصالح تثبيت ما أمكن من مواقع وإنجازات كل فريق في ما يخصه . إذ لما كان “التوازن الأوروبي” قد سقط ، وروسيا تحولت إلى اتحاد سوفياتي، والولايات المتحدة رفضت المشاركة في النظام الدولي الجديد ، كان لا بد من أن ينعكس ذلك مباشرة على المسائل المطروحة على الساحة . لذا وجدث المسألة الأرمنية، نظرا لموقعها الجغرافي، بين دولتين متجددتين ومتقاربتين ، على غير عادة، هما الاتحادالسوفياتي وتركيا. هكذا تكمن هذه المسألة، للأسف، في انعدام وزن “القضية” في الحسابات الكبرى. إن عودة إلى تحولات النظام الدولي ، خلال القرن المنصرم ، قد تكون كافية لإبراز هذه الظاهرة. وفي كل الأحوال، مثل هذه العودة إلى نظام فرساي ونظام الاستقطاب الثنائي هي كفيلة بالدلالة على استيعاب الأرمن أنفسهم للمعطيات الدولية ومحاولة التعاطي معها بالإمكانات المتيسرة بانتظار ظروف أفضل . أولا: التفاهم الإقليمي على حساب الأرمن حلت هذه الظاهرة في أعقاب الحرب العالمية الأولى واستمرت طيلة فترة ما بين الحربين. وهي انطلقت من تزامن التطورات الروسية والتركية وتوافق مصالح الدولتين الجارتين اللذين رافقا نشأة النظام الجدد وأسقطا المسألة الأرمنية في حال انعدام الوزن وبالتالي في النسيان . ففي إطار السوفتة ، على إثر الثورة في روسيا كانت نشأة الجمهورية الأرمنية في القوقاز التي سرعان ما اعترفت بها اسطنبول . وكانت هذه الجمهورية كناية عن الجزء الذي اقتطعه الروس ، في أوائل القرن التاسع عشر، من البلاد التي قطنها الأرمن عبر التاريخ والتي كانت واقعة في الإطار العثماني منذ قرون. أما المواجهة التي حصلت بتشجيع من دول كبرى، في بعض المناطق الأرمنية العثمانية، فكانت في مصلحه الأتراك . إن هذه الدول، التي اهتمت في العقود السابقة بالمسألة الأرمنية رفضت التدخل الآن لصالح الأرمن وإنفاذا لقراراتها وعهودها السابقة (مثل معاهدات سان ستيفانو وسيفر). أما الاتحاد السوفياتي نفسه، وريث روسيا ، فتواطأ، وإن بصوره غير مباشرة ، مع الأتراك ضد الأرمن (مسألة الوساطة ) مما أفسح في المجال أمام السيطرة التركية على الولايات الأرمنية . وتزامن هذا الحدث مع الإعلان رسميا عن جمهورية أرمينيا السوفياتية وحكومتها الشيوعية (في آخر سنة 1920). ويشار هنا، على الصعيد الأميركي،أن الأميركيين الذين واكبوا مباحثات نهاية الحرب سرعان ما فضلوا الانسحاب من الساحةالدولية . وكان لهذه السياسة التأثير السلبي البالغ على قضيه الأرمن الذين وضعوا الآمال الكبار في إمكانية الحصول على الدعم الأميركي من خلال الانتداب . فلقد أظهر الأميركيون تفهما كبرا للمسألة الأرمنية خاصة عندما بدا ميل لدى الرئيس ودرو ولسن إلى القبول بمبدأ ممارسة بلاده الانتداب على أرمينيا، وعندما قام هو بالتحكيم بخصوص رقعتها بعد الاعتراف الدولي بها دولة مستقلة، في صيف 1920نفي معاهدة سيفر. لكن الأميركيين خذلوا الأرمن عندما رفض الكونغرس ممارسة الانتداب ومعه تثبيت الحدود دوليا. ومع العلم بأن حكم ولسن بخصوص رقعة الدولة الأرمنية كان متجاوبا عامة مع المصلحة الأرمنية، أتى الموقف الأميركي بمثابة سحب خشبة الخلاص من أيدي الأرمن . فالأميركيون كانوا، بعد ولسن ، قد قرروا الانسحاب من الساحة الدولية. وهكذا انعكست المصلحة الأميركية ، وان عن غير قص،, سلبيا على المسألة الأرمنية التي لم تعد تحظى بدعم فاعل لها. هكذا، بين المصلحة الإقليمية السوفياتية والمصلحة الانعزالية الأميركية ، كان على الأرمن الاكتفاء بجمهورية أرمينيا القوقازية السوفياتية وتضميد الجراح ريثما تسمح الظروف الدولية بتعديل المصالح وموازين القوى. ثانيا: المسألة الأرمنية في ثلاجة الحرب الباردة بدت الستراتيجية السوفياتية، خلا ل الحرب العالمة الثانية وبعيدها، الإطار المنتظر لوصول الأرمن بقضيتهم إلى شاطئ الأمان . لكن ، مرة جديدة ، أتت المصالح الكبرى متعارضة مع ذلك. اعتمدت الستراتيجية السوفياتية في مرحلة أولى، على إعادة الاعتبار للقوميات المجتمعة في الكيان السوفياتي على الرغم من تعارض ذلك مع المبادئ السوفياتية . فستالين، أبو الشعوب، أبدى اهتماما ملحوظا بهذه الشعوب بهدف الحفاظ على ولائها في مرحلة شديدة الخطورة على مجمل الإنجازات السوفياتية. ولما تجاوب الأرمن مع ذلك، بوقوفهم، مرة جديدة، بحماس إلى جانب موسكو، حصلواعلى بعض التنازلات البسيطة من قبل ستالين بهدف تشجيعهم على الاستمرار. وبعد الحرب، أتى الموقف السوفياتي قائلا بتوسيع الجغرافية الأرمنية باتجاه الغرب. كان هذا الموقف من صلب الجيوسياسة السوفياتية الحديثة التي تعتمد على تخطي “القلعة المحاصرة” باتجاه منطقة نفوذ سوفياتية عبر أنظمة موالية على غرار الديمقراطية الشعبية في أوروبا، وإذا أمكن عبر المزيد من الأراضي السوفياتية . هكذا أعد طرح المسألة الأرمنية من قبل موسكو في ظل “النظام الدولي الجديد” الذي ما لبث ان تجسد “حربا باردة” بين حلفاء زمن الحرب. تكمن أبرز مبررات إعادة طرح المسألة في العلاقات السوفياتية التركية التي تردت خلا ل الحرب العالمية الثانية من جهة، وموافقة الحلفاء مبدئيا (وذلك بشخص تشرشل) على إعادة النظر في موضوع المضائق (أتفاق مونترو 1936), من جهة ثانية . أما أبرز الخطوات فكانت، في سنة 1945، سوفياتية وأرمنية: الخطوات السوفياتية كانت كناية عن: نقض الحلف السوفياتي التركي العائد لعام 1925، – والمطالبة بقاعدة دائمة في الدردنيل، – و”استعادة” بعض الولايات التي احتفظ بها الاتراك منذ معاهدة بريست ليتوفسك. ولقد تقدم السوفياتيون بهذه المطالب وغيرها أثناء مباحثات بوتسدام. الخطوات الأرمنية ارتبطت بتحركات غير اعتيادية، في صيف 1945، في أرمينيا السوفياتية.- بعد انتخاب بطريرك، على أثر خلو هذا المركز منذ سنة 1938، كان طلب الأرمن من ستالين التدخل لحل قضيتهم القومية بدعم مطالبهم الإقليمية تجاه تركيا،- وفي الخريف، كانت مذكرة البطريرك (كيفورك السادس) الموجهة الى وزراء خارجية الدول الكبرى حول الإبادة ومعاهدة سيفر والحقوق الأرمنية في الإطار السوفياتي – ودعوة أرمن الشتات للانتقال إلى جمهورية أرمينيا السوفياتية. إن تزامن هذه الخطوات وتكاملها يسمحان بالنظر إليها على أنها تقع في سياق الستراتيجية السوفياتية التوسعية . فستالين أراد استغلال المسألة الأرمنية جغرافيا وسياسيا، إقليميا ودوليا لصالح نظامه . وبالفعل هو لم يتوان عن دعم مواقفه بخطوات ميدانية . لكن كان عليه، في الوقت نفسه، التعاطي مع الفرقاء الآخرين على الساحة . فالأمر لم يعد وقفا عليه وعلى الجارة التركية لأن الظروف تحولت. لقد تحولت مسألة حق حماية المضائق في صيف 1946، إلى بادرة أزمة دولية . فالسوفياتيون اتهموا تركيا بتقصيرها في إتمام المهمة الموكلة إليها بحسب اتفاقية مونترو في ظل تحركات عسكرية على طول حدودهم مع تركيا. لكن تركيا وجدت في الموقف الأميركي دعما لها. والأميركيون اعتبروا، من جانبهم، الاتهام السوفياتي باطلا والأمن الدولي معرضا للخطر. أما الخطوات والمطالب الأرمنية، التي لم تكن مستقلة عن توجهات موسكو، فكانت محكومة بالتأثر بالظروف الدولية ذاتها. ولما احتلت تركيا مجددا موقعا أساسيا في الحسابات الدولية كان على المطالب الأرمنية التراجع مرة أخرى. لقد احتلت تركيا ومسألة المضائق المذكورة ، بعيد الحرب، موقعا محوريا على الساحة الدولة . وكان لهذه المسألة تأثير بالغ حتى في اندلاع الحرب الباردة بين الشرق والغرب وبالأخص في اعتماد الأميركيين سياسة الصد للمحاولات السوفياتية “التوسعية” في أوروبا. إذن اعتبرت المسألة الأرمنية ، على الأقل عمليا، من صلب هذه المحاولات . وبالتالي كان لا بد من مجابهتها من جانب الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية. لم يكن ذلك، بالطبع، يعني إرادة منع الأرمن من تحقيق المطالب الموعودة أصلا، بل كان منعا للاتحاد السوفياتي ومعه الشيوعية من التوسع. إذن ، الولايات المتحدة التي وافقت، بعد الحرب العالمية الأولى، على الاعتراف بدولة أرمنية مستقلة، التي حدد الرئيس الأميركي نفسه حدودها على الرغم من عدم قبولها ممارسة انتدابها عليها، وجدت الآن مصلحة لها في دعم تركيا. وطالما أن الأمن الدولي برمته أصبح مهددا، بدا من الأفضل التضحية بمطالب شعب صغير غير قادر على التأثير في ميزان المصالح الكبرى. في الواقع، إن الشق المتعلق بالدولة الأرمنية أصبح ، منذ سنة 1946، بمثابة عنصر من عناصر الصراع الدولي في العالم وبالأخص في أحد أقرب المواقع من الاتحاد السوفياتي. إن توسع الدولةالأرمنية بضم أراض سبق الاعتراف بها من قبل الولايات المتحدة وحليفاتهاالأوروبيات، عنى توسيعا للاتحاد السوفياتي نفسه. فتوسيع جمهورية سوفياتية كان مؤهلا لأن يرتد مصلحة سوفياتية على أكثر من صعيد: على الصعيد الجيوسياسي الإقليمي والدولي، كان يعني ليس فقط توسيعا للرقعة السوفياتية نفسها والنظام، بل اقترابا من المضائق والبلقان والمتوسط مع كل ما يعنيه ذلك من تقدم باتجاه تحقيق الحلم الروسي القديم مترجما إلى لغة الحرب الباردة… على الصعيد الأرمني، في الداخل وخاصة في الشتات، كان توسع الجمهورية الأرمنية السوفياتية مؤهلا لأن يرسخ في الأذهان الفكرة التي كانت سائدة ، منذ القرن الماضي، بكون الروس حماةالشعب الأرمني. وكان بإمكان هذا الأمر تحويل الأرمن إلى دعاة لمصلحة الاتحاد السوفياتي في دول الشتات. أخيرا، على الصعيد الجيوستراتيجي الأوروبي، فهمت المحاولة السوفياتية على أنها حلقة في إستراتيجية موسكو باتجاه تدعيم ما كانوا قد بدأوا يسمونه “الستار الحديدي”. ثالثا: الستراتيجية الأرمنية في ظل الانفراج الدولي لقد خذل الأرمن، مرة جديدة ، من المواقف الدولية من قضيتهم كما خذلوا من نتائج تلبية الدعوة للهجرة إلى جمهورية أرمينيا السوفياتية. أتى هذا الأمر الأخير بمثابة تأكيد إضافي على استحالة تحقيق حلمهم القومي في ظل النظام الدولي القائم: إن لجهة الموقف الغربي الداعم لتركيا، أو لجهة عدم صلاحية الجمهورية السوفياتية (نظاما وظروف عيش) وان ضمت إليها “الأراضي التاريخية”. هكذا انصبت جهودهم، إلى جانب تحسين ظروفهم في بلاد الشتات، على محورة الفكر القومي حول إنجاز مشروع أرمينيا التاريخية دولة مستقلة في أول ظرف مؤات. فكان تركيز هذا الفكر على العلاقة بين الشعب والأرض كإستراتيجية صالحة على الصعيدين الأرمني والدولي. وكان طرح مسألة الإبادة دوليا من منطلق قيمتها كستراتيجية حيوية من حيث كونها محاولة إثبات الحق التاريخي بالأرض. فالاعتراف الدولي بالإبادة الأرمنية يعني عمليا اعترافا باغتصاب تركي للأرض وما يستتبع ذلك من استنتاجات وواجبات . . . وهنا تكون عبارة طلعت باشا الشهرة بأنه “لم تعد هناك مسألة أرمنية” بمثابة أساس لهذه الستراتيجية الأرمنية. وإذا أتى الاحتفال السنوي بذكرى الإبادة في أماكن الشتات مناسبة للحفاظ على نقطة وصل صلبة داخل الجالية الواحدة وبين مختلف الجاليات مهما تباعدت المسافات، فإنه شكل، وهذا هو الأهم بالنسبة لنا هنا، مناسبة للضغط على الحكومات المضيفة لجرها إلى الاعتراف بالإبادة وبالتالي بالحق في استعادة “الأراضي التاريخية”. أخذت هذه الستراتيجية دفعا قويا منذ سنة1965 (الذكرى الخمسون للإبادة) واضعة عددا من الحكومات والدول والمؤسسات الدولية أمام المسؤولية. لكنها لم تتوصل إلى إنجاز حاسم حتى الآن. فعلى سبيل المثال، بالنسبة للأمم المتحدة، وجب انتظار صيف 1985 حتى تعرض لجنة مختصة المسألة في جنيف حيث انتهى الأمر إلى حذف الفقرة المتعلقة ” بإبادة الأرمن”. أما السلطات السوفياتية فلقد اتخذت إجراءات تأنيبية، في سنه 1965 ، تجاه الأرمن السوفياتيين المتعاطفين مع الدعوة إلى الاحتفال بذكرى الإبادة الخمسين . وكان ذلك مراعاة للعلاقات السوفياتية-التركية. ومن جانبه ، تعاطى الكونغرس الأميركي مرات مع المسألة لكن دون اعتماد نص يندد بإبادة تركية للأرمن. ولما اتخذ بعض الرؤساء الأميركيين مواقف معلنة أحيانا بهذا المعنى، توقف الأمر عند هذا الحد (علي غرار موقفي الرئيس ريغن والمرشح بوش) . والآن ، في حال أتى الخريف المقبل بالمرشح الجمهوري إلى سدة الرئاسة ، مع العلم بأن الإحتمال ضعيف جدا، هل يحافظ على موقفه المعروف، منذ سنوات طويلة ، بجعل الكونغرس يعتمد نصا واضحا في هذا الشأن ؟ رابعا: أرمينيا في حسابات أخر القرن العشرين كان أبرز ما حصل بالنسبة لهذه المسألة، في أيامنا هذه، قيام الدولة الارمنية المستقلة عن الكيان الاشتراكي بعيد انقلاب موسكو (أيلول 1991) وبالتالي انضمامها إلى أسرة الدول المستقلة. لكن المسألة لم تنتظر هذا الحدث لكي تعود إلى الساحة بأبعادها الجيوسياسية وان بصورة محدودة . فمنذ تطبيق سياسية اليبريسترويكا في الاتحاد السوفياتين بدأت مسألة ناغورنو كاراباخ بين الأرمن والأذريبجانيين (1988). لقد أعاد طرح هذا الصراع الإتني الإقليمي إلى الأذهان بعض جذور المسألة الأرمنية التاريخية. وكان على الدول الكبرى والمؤسسات الدولية التعاطي مع المسألة على أساس المعطيات القائمة والمصالح الكبرى. وتبقى تركيا، كما في السابق، في صلب هذا التعاطي. وربما كان واقع السلطة في يريفان نفسها البرهان على أن الكيان الأرمني الحالي غير كفيل بتحقيق المطالب التاريخية. يمكن تفسير هذا الأمر باعتبار سقوط النظام الاشتراكي وزوال النفوذ السوفياتي غير كافيين لتعديل جذري في المصالح الدولية. هذا مع العلم أن الدور الروسي ما زال فاعلا خاصة على الساحة الإقليمية حيث تتلاقى بعض المصالح الارمنية والروسية. وأرمينيا تعتمد حاليا على الدعم والحماية الروسيين، تقريبا كما في بداية القرن. لا بد أخيرا من الإشارة إلى كون الولايات المتحدة أثبتت بوضوح أنها ما زالت بحاجة للتعاون مع تركيا في الشرق الأوسط . وكذلك، إن الاعتماد الاميركي على تركيا في أسيا الوسطى، إبعادا لإيران عن هذه المنطقة، يزيد في أهمية تركيا التقليدية ويجعلها شريكا من الواجب تفهم مصالحه . ولا يغيب عن البال أيضا الدور الذي قد تكلف به تركيا في أوروبا بالذات (كما في البوسنة). وأبرز هذه المصالح تبقى، على هذا الصعيد، عدم قيام دولة أرمنية على الأراضي “الارمنية التاريخية”. طبعا مثل هذا الوضع لا يمكن أن يريح الأرمن الذين عليهم مرة جديدة، الرضوخ لمصالح الآخرين. فتحمل الأرمن لهزيمتهم كانن بلا شكن أسهل في ظل الحالات السابقة من النظام الدولي. أما اليوم، بعد زوال العثماني والسوفياتي، فيأتي مثلا التعاون الأميركي والأوروبي مع تركيا والتعاون الروسي الأميركي الأطلسي في مرتبة تتقدم المصلحة الأرمنية القومية والجغرافية . كذلك، إن القوى المنافسة لتركيا إقليميا (وعلى رأسها ايران والمملكة العربية السعودية ) لا تبدو مؤهلة أو مستعدة كفاية للتأثير ايجابيا على مسار المسألة الأرمنية. ومن جهة أخرى يبقى التعاطي الحالي الحذر بين الجمهورية الأرمنية وتركيا غير كاف لخدمة أكثر من أهداف محدودة ومؤقتة لكل من الطرفين. في كل الأحوال، يبقى المسار الحالي بمجمله خاضعا للمصالح الحيوية الكبرى التي تتعدى العناصر الإقليمية . لكن التاريخ لا يقف عند هذا الحد والمصالح الكبرى قابلة للتعديل كما موازين القوى… وتبقى مطالب الشعوب مطروحة على الأنظمة الدولية بانتظار المؤاتي منها… * استاذة التاريخ والعلاقات الدولية المعاصرة في الجامعة اللبنانية