حوار اجرته مجلة شؤون الاوسط مع الدكتور اوهانس تسلاقيان عدد 136 صيف 2010 محمد نور الدين : دائماً عندما يحكى عن المسألة الأرمنية يعود الناس بالتاريخ إلى العام 1915، بتقديرك هل كان يوجد شيء اسمه مسألة أرمنية عبر التاريخ؟ اي هل عانى الأرمن مشكلة هوية و مشكلة إثبات وجود أم ان المسألة الأرمنية تعود فقط إلى العام 1915؟ اوهانس تسلاقيان : أول حديث عن المسألة الأرمنية في التاريخ حصل خلال مؤتمر سان ستيفانو عام 1878 الذي انعقد بين روسيا القيصرية والسلطنة العثمانية. وفي العام ذاته في مؤتمر برلين حيث تمت إعادة النظر في القرارات التي اتخذت في مؤتمر سان ستيفانو. هذا اول تسجيل في التاريخ للمسألة الأرمنية كقضية سياسية. لكن المسألة الارمنية بدأت حين خضع الأرمن للشعوب الأخرى. أول حالة تتريك لاخضاع الأرمن حدثت عام 1747 في منطقة شمال شرق تركيا الحالية حيث كان يعيش حوالي أربعين ألفاً من الأرمن فرض التتريك والأسلمة عليهم في منطقة في شمال شرق تركيا في ” هامشن ” على البحر الاسود. بدأت الانتفاضة الارمنية على الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي الذي كان مفروضاً عليهم على اثر زحف الجيش الروسي إلى المناطق الجنوبية من القيصرية الروسية أي المناطق التي كانت خاضعة لإيران وتركيا، فبدأ الأرمن يفكرون ويتطلعون الى إمكانية قيام أو إعادة قيام الكيان الأرمني في المناطق التي كان يشكّل فيها الأرمن يشكلون أكثرية، رغم أن التغلغل التركي في هذه المناطق كان قد أخذ مداه خلال 300 أو 400 سنة من التواجد التركي فيها. إذاً، المسالة الأرمنية كمسألة سياسية بدأت عام 1878 ولكن كمسألة وجودية للأرمن بدأت قبل هذا التاريخ بقرون، أي منذ أن خضع الأرمن في هذه المناطق للنير التركي. محمد نورالدين : بالنسبة للأرمن الذين كانوا تابعين للدولة العثمانية، ومعظمهم يعيشون في شرق تركيا وشرق وجنوب تركيا، فإن الوجود الأرمني في الدولة العثمانية لم يعرف في تاريخه نوعا من التمييز العنصري ضدهم، بل كان لهم مع اليهود واليونانيين والقوميات الأخرى غير الإسلامية وجودهم الاقتصادي وحضورهم في الإدارة، وتولوا مناصب وزارية منها وزارتا الخارجية والمالية الى مناصب وزارية أساسية. ربما هذا يعكس طبيعة النظام العثماني الذي كان منفتحاً على كل هذه الملل وكل هذه الهويات. برأيكم لماذا بدأت المشكلة بين الدولة العثمانية وبين الأرمن الذين يقطنون في الدولة العثمانية؟ كيف وتحول الأمر من حدّ التسامح إلى حدّ الكراهية والعداء وإلى مجازر 1915؟ أوهانس تسلاقيان : عندما كانت الدولة العثمانية في أوج قوتها لم تكن هناك مشكلة مع القوميات التي كانت تخضع لها. لكن مع تضعضع الدولة ومع تراجعها الجغرافي ونهوض الشعور القومي عند الشعوب التي كانت خاضعة لها ومنهم الشعب الارمني، كان القرار بتمكين الدولة العثمانية من إبقاء سيطرتها على المجموعات القومية التي كانت خاضعة لها. وعندما استقلت اليونان عام 1828 وبدأت القيصرية الروسية في التقدم في الأراضي العثمانية رأت السلطنة العثمانية أن هناك خطرا جديا يهدد بتفكك الدولة خاصة من الغرب حيث إن الدول البلقانية بدأت تتحرر الواحدة تلو الأخرى. ومن ناحية الشرق حيث أن الأرمن بدأوا يتطلعون الى إعادة تكوين كيانهم الذاتي. لكن الأرمن في تركيا لم يتحدثوا عن الاستقلال الا بعد قيام دولة أرمينيا نفسها عام 1918 كواقع مستجد. كل ما سعى إليه الأرمن في الدولة العثمانية هو تحسين ظروفهم بما يمكنهم من التطور الثقافي والاقتصادي، والكلام الذي تفضلت فيه بأن الأرمن كانوا يتبوأون مناصب مهمة في الدولة العثمانية، صحيح، لكن هؤلاء كانوا من الطبقة البورجوازية الارمنية التي كانت تعيش بتناغم وتفاعل مع السلطة العثمانية، بينما 99 في المئة من الأرمن كانوا يعيشون في حالة مزرية ويعانون من الاستغلال الاقتصادي والتمييز العنصري ضدهم وبالأخص في مناطق ارمينيا التاريخية أي المناطق التي كان يتواجد فيها الأرمن في شرق وجنوب شرق تركيا الحالية. إذاً، التمييز كان قائماً قبل ذلك ولكن هذا لم يظهر للذين كانوا يتواجدون في مركز السلطنة في اسطنبول. ففي اسطنبول كانت هناك طبقة تنمو على اساس المصالح مع السلطة في السلطنة. فكانت الفائدة متبادلة. السلطة تتمكن من دفع هؤلاء الناس نحو خدمة السلطنة بنيلهم مراكز مرموقة في الدولة، وهؤلاء كانوا يستفيدون من مواقعهم ومراكزهم ليزدهروا اقتصادياً واجتماعياً ضمن تركيبة السلطة العثمانية. لكن حين قامت القوميات بالإعراب عن توقها إلى الاستقلال وإلى تكوين كياناتها ضمن دولة فيدرالية أو الانفصال عن الدولة العثمانية، كانت ردة الفعل عند الأتراك عنيفة تجاه كل القوميات وليس فقط ضد الأرمن. الصرب عانوا أيضاً والبلغار كذلك. والأكراد اليوم يشكون من نفس الاضطهاد والمعاناة. كل من تطلع إلى التمايز عن الأتراك عانى من العنف والاستبداد والبطش التركي. محمد نور الدين : تحدثت عن أثر النزعة القومية في أوروبا في القوميات الموجودة في السلطنة العثمانية بدءاً من اليونان وطبعاً قبلها العام 1805 الصرب الذين كانوا أول من تمرد على الدولة العثمانية. العرب ايضا على سبيل المثال تدرجوا في مطالبهم من الدولة العثمانية من حقوق ثقافية وتدرج في الإدارة والاعتراف باللغة العربية في المناطق التي فيها عرب لغةً رسمية وما إلى ذلك. لكن العرب على سبيل المثال لم يذهبوا إلى حد المطالبة بالانفصال عن الدولة العثمانية بل بالحصول على بعض المكاسب التي تتعلق بالهوية العربية، وحتى مرحلة الحكم الذاتي لم يطالبوا بها بشكل واضح في العالم العربي إلا بعد اندلاع الحرب العالمية الأولى، كيف يمكن أن تشرح لنا تطور خطاب الحركة الوطنية الأرمنية داخل الدولة العثمانية من الهوية ارمنية؟ أوهانس تسلاقيان : كان عماد الحركة الوطنية الأرمنية حزب الطاشناق. ولتبيان هذا التدرج لا بد من أن نلقي نظرة على تطور برنامج هذا الحزب من عام 1890 تاريخ تأسيسه وحتى عام 1918 تاريخ إعلان استقلال أرمينيا في المناطق التي لم تكن خاضعة لتركيا. ان ظهور حزب الطاشناق كان نتيجة تفاعل مادي ومعنوي ـ فكري في المجتمع الأرمني. حزب الطاشناق لم يولد من لا شيء إنما جاءت ولادته نتيجة تطور المجتمع فكريا وانبعاث الروح القومية عند الأرمن. من عام 1850 إلى العام 1890 ظهرت طبقة من المثقفين طرحت موضوع المساواة بين الشعوب والافراد متأثرةً بمبادىء الثورتين الفرنسية والأميركية. هؤلاء طرحوا مسألة حرية الدين والمعتقد والتعبير وحرية اللغة والتساوي بين الناس. طرح كان اساس برنامج حزب الطاشناق عند تأسيسه عام 1890. في هذا البرنامج يقول الحزب أن هناك استغلالاً اقتصادياً اجتماعياً وإكراهاً معنوياً على الأرمن القاطنين في الدولة العثمانية، وان هناك تمييزاً عنصريا ضد الأرمن في تبوّء المناصب. فعلى سبيل المثال لم يكن يحق للأرمن الخدمة في الجيش. كان حزب الطاشناق يطالب بإقامة دولة ديمقراطية في السلطنة العثمانية تمكّن جميع الناس دون تمييز عنصري من المشاركة فيها وتمكّن الفئات القومية من أن تنمو في بوتقتها الطبيعية محافظة على ثقافتها وعلى وجهها الحضاري والثقافي. في عام 1907 قام الحزب بتطوير البرنامج حين عرض موضوع الكونفدرالية أو الفدرالية في دولتين، واحدة في الدولة القيصرية وثانية في الدولة العثمانية. في البرنامج الأول لم يتطرق الحزب إلى موضوع الارمن في القيصرية الروسية، لكن في البرنامج الثاني تطرق إلى الأرمن في الدولة القيصرية والدولة العثمانية. يطالب البرنامج بالمساواة بين الناس وبإمكانية تطوير علاقة طبيعية بين المركز والمناطق التي يجب ان تدار على اساس فدرالي او كونفدرالي، انطلاقا من ان الدولة مكونة من قوميات عديدة. هذه الفدرالية أو الكونفدرالية تمكن القوميات الكردية والأرمنية والعربية واليونانية في المناطق الشرقية من الدولة العثمانية لتعبر عن هويتها وتحافظ عليها. هذا التطور الذي بدأ بالمطالبة بالاصلاحات وصولا الى المطالبة بالفدرالية او الكونفدرالية كان حصيلة نضال دام 17 عاماً. و شارك حزب الطاشناق في دمقرطة، اي تحويل الدولة التركية إلى ديمقراطية خلال الفترة التي سبقت إعلان الدستور عام 1908. كما شارك الحزب والأرمن بشكل فعال في الحركة التي سعت الى تطوير النظام في روسيا لتحويله الى نظام ديمقراطي بدءاً من عام 1905 ووصولا إلى عام 1909 حين انهارت هذه الحركة وتفككت تحت ضربات السلطة. محمد نور الدين : قلت أن الطاشناق دعم عملية الدمقرطة في السلطنة العثمانية. هل كان شريكا فعليا في الحركة التي قامت بها منظمة الاتحاد والترقي للعودة إلى الدستور في العام 1908؟ اوهانس تسلاقيان : لم يحافظ النظام على وعده. فقد وعد الأتراك الاتحاديون جميع المكونات القومية في السلطنة كاليونانيين والأرمن والعرب بقيام ديمقراطية حقيقية تحفظ حقوق هذه الاقليات. لكن بعد أن خسروا الحرب في ليبيا عام 1911 وفي البلقان عام 1912 عقدوا مؤتمرهم وأخذوا قرارا بإقامة دولة صافية عرقياً ليتمكنوا من المحافظة عليها. كان القرار بإقامة دولة عرقية في تركيا خلافاً لما كانت عليه مسيرة السلطنة بعد فتح اسطنبول وتأسيس السلطنة العثمانية. عندما خسروا الحرب في البلقان حصل نزوح لحوالي 900 ألف تركي من البلقان إلى المناطق التي كانت لا تزال خاضعة للسلطنة العثمانية، فقرر الاتحاديون توطين هؤلاء الناس في المناطق التي كان يسكنها الأرمن واليونانيون. كان هذا التحول الأساسي، ومنطلق التوجه في قرار إبادة الأرمن لتمكين هؤلاء من الاستيطان في هذه المناطق من اجل قيام دولة صافية عرقياً. حافظ الارمن على تطلعهم في قيام دولة فيدرالية إلى حين قيام الدولة الأرمنية المستقلة كواقع. ولابد من الاشارة إلى انه في تموز/يوليو من عام 1914 حين كان الحزب يعقد مؤتمره العام الثامن في أرضروم، حضر أنور باشا وزير الحرب في الدولة العثمانية هذا المؤتمر ليقول إن تركيا ستدخل الحرب قريباً الى جانب المانيا، وطالب الأرمن وحزب الطاشناق الذي كان العمود الفقري للأرمن بأن يقوموا بحثّ الأرمن القاطنين في الدولة القيصرية بالانتفاضة على السلطة والمساهمة في تغلغل الجيش التركي إلى داخل المناطق القوقازية الجنوبية لتأمين تواصل الدولة العثمانية مع الشعوب التركية القاطنة إلى الشرق من هذه المناطق. عارض الحزب هذا الطرح ونقل الى انور باشا انه تقرر ان يقوم الارمن بواجباتهم كمواطنين صالحين في كلتا الدولتين، اي أن يتجند الارمن القاطنون في الدولة العثمانية في الجيش العثماني لمقاتلة الطرف الآخر، فيما يقوم الارمن في روسيا القيصرية بواجباتهم تجاه روسيا، رغم معرفتنا المسبقة أن هذا سيؤدي إلى تقاتل الأرمن فيما بينهم على طرفي جبهات القتال. لم يكن الارمن ينوون خيانة أي فريق من الفريقين اللذين سيتقاتلان في المستقبل القريب. هذا كان التوجه الأرمني بشكل عام. محمد نورالدين : نصل إلى العام 1915 وحصل الذي حصل. الأتراك قالوا إن ما حل بالأرمن من مجازر جاء في سياق معاقبة المجموعات التي تعاونت مع الجيش الروسي الذين كانوا يحاربون الدولة العثمانية، وإن كان هناك من قرار رسمي بالقتل أو التهجير فلم يكن يشمل كل الأرمن بل قسماً منهم. برأيكم ما هو السبب الأساسي الذي قد يكون معروفا أو قد لا يكون معروفا بشكل واضح للقارئ العربي؟ ما السبب الأساسي الذي حدا بالدولة العثمانية لأن تقوم بتلك المجازر التي أسفرت عن تهجير مئات الآلاف ومقتل مئات الآلاف. طبعاً الأتراك لا يعترفون برقم مليون ونصف ارمني بل يقاربون الرقم 600 الف. برأيكم لماذا قام الأتراك بهذه المجازر. وإلى ماذا تستندون في القول إن ما جرى عام 1915 كان ابادة؟ أوهانس تسلاقيان : كل مسعى لإزالة أي فريق قومي أو ديني يختلف عن الاكثرية الحاكمة جزئياً أو كلياً وعن سابق تصور وتصميم هو إبادة. الدولة التركية تقول إن الأرمن قاموا بانتفاضة ضد الدولة العثمانية وقد عاقبناهم على ذلك للحفاظ على امكانات الحرب وإمكانية الدفاع عن الدولة. وبالعودة إلى التاريخ نرى انه عندما اعلنت السلطنة العثمانية الحرب على روسيا في تشرين أول/ أكتوبر عام 1914 جندت الأرمن وأخذتهم إلى ساحة المعركة لاعتقادها بأن انهيار الدولة القيصرية سيكون قريبا وخلال ايام معدودة، الا ان هذا لم يتحقق. فالدولة القيصرية تمكنت من دحر الهجوم العثماني. العثمانيون هم الذين أخذوا القرار بدخول الحرب وهم الذين شنوا الهجوم على حدود روسيا أي أرمينيا الشرقية كما نسميها نحن. المعركة أدت إلى انهيار الجبهة الشرقية العثمانية واندحار الجيش العثماني في “صاري قاميش” حيث قتل حوالي 60 ألف جندي تركي. قال العثمانيون إن الأرمن الذين كانوا يخدمون في تلك المعركة تخاذلوا عن اداء واجبهم تجاه السلطنة العثمانية، وهذا غير صحيح اطلاقا لأن أعداد الأرمن الذين قتلوا في “صاري قاميش” تفوق أعداد القوميات الأخرى التي قتلت في هذه المعركة. واتهمت تركيا الأرمن في أرمينيا الشرقية بتنظيم مجموعات من المتطوعين لمحاربة الدولة العثمانية. هؤلاء كانوا في الحقيقة المضطهدين من الأرمن الذين هاجروا او هجروا قسرا من الدولة العثمانية وكانت لديهم الرغبة في دحر الدولة العثمانية، وهذا شيء طبيعي لكل من خضع للعنف وابعد عن أرضه ونكل بأهله وما إلى ذلك. هؤلاء قاموا بتنظيم تسع فرق كانت جميعها لا تتعدى الـ 12 ألف جندي. بعد المعركة في “صاري قاميش” تحولت تركيا إلى الداخل لإعادة تنظيم اوضاعها لمتابعة الحرب. فاعتبرت أن الوقت قد حان لتطهير المنطقة من الأرمن بحيث جُرّد الجنود الأرمن على الجبهة من السلاح وجُنّدوا في أعمال البناء والتدشيم ليصار بعد ذلك إلى تصفيتهم، لعلمهم اليقين ان هؤلاء الجنود إن عادوا إلى ديارهم فقد يشكلون عماد المقاومة التي لن تمكن الأتراك من ترحيل وإبادة النساء والأولاد والشيوخ الذين كانوا لا يزالون في قراهم وفي ديارهم. عندما تزيل كل هذه الفئة من الشباب والرجال من الوجود لا بد من أن تكون قد قررت إزالة الشعب بأكمله اي ابادته. حين يتم ترحيل الأرمن من بعض المناطق باتجاه الصحارى دون ان تؤمن لهم امكانية ابسط المقومات للبقاء احياء فأنت تقوم بعملية ابادتهم، وكذلك الامر عن قتلهم في ديارهم في مناطق أخرى. أما بالنسبة للوثيقة أو النص الذي يؤكد على قرار ابادة الأرمن وإزالتهم من الدولة العثمانية فجلّ ما يفعله أي مجرم هو ان لا يترك ما يمكن أن تستند إليه العدالة لاحقا. رغم ذلك هناك وثائق تلمح الى قرار ابادة الارمن. فما من مسؤول يعلن عن نيته في ازالة شعب من الوجود، بل يقول مواربة إن هؤلاء يشكلون خطراً على وجود الدولة فلا بد من التعامل معهم على هذا الأساس، مما يعني أنه يأمر بقتل هذه الجماعة. في عام 1996، نبش الباحث الألماني هلمركايزر في ارشيف الدولة العثمانية خاصة في الحقبة الممتدة بين 1915 و 1917، واورد في عرضه أن هناك 350 وثيقة تثبت قرار الدولة العثمانية في إبادة الأرمن، وإزالة العنصر الأرمني عن الأراضي العثمانية رغم ان عمله اقتصر على جزء صغير من ذلك الارشيف، وقد تم طرده لاحقا ولم يتمكن من متابعة بحثه. يقول كايزر ان هذه الوثائق لا تقر بوضوح بضرورة إزالة الأرمن من الدولة العثمانية، إنما تلمح الى إزالة الخطر الذي يمثله الارمن. وإذا عدنا إلى المحكمة التي أنشئت بعد انهيار نظام الاتحاديين في الدولة العثمانية اي بعد الحرب العالمية الأولى نرى أن هناك إدانة واضحة ليس من المحكمة وحدها وإنما من الذين تم استدعاؤهم للمحاكمة من مسؤولي الاتحاد والترقي. هناك من قال أنه غير مسؤول لأنه نفّذ ما تم إقراره في المركز، هناك من قال إنه نفذ قراراً ولكنه حاول أن يحافظ على بعض الوجود الأرمني بشكل أو بآخر. إذاً كان هناك قرار من النظام التركي بإزالة الشعب الأرمني. وبحسب الاتراك (او ما بدأوا يتداولونه حاليا) فإن عدد ضحايا عمليات ترحيل الارمن قد وصل بحسب بعض المصادر التركية الرسمية الى 300 الف ومصادر اخرى الى 600 الف ارمني. لكن كيف نفسر انه كان في الدولة العثمانية مليونان و400 ألف أرمني حسب الإحصاءات التي تملكها البطريركية الأرمنية في اسطنبول؟ خاصة ان الذين نجوا من عملية الابادة لم يتجاوز عددهم 700 ألف، منهم من وصل الى لبنان وسوريا والعراق ومجموعهم 120 الفا، ومنهم من نجا لوجوده في ازمير واسطنبول حيث اغاثتهم الارساليات، وحوالي 300 الف تمكنوا من عبور الحدود الى المناطق الشرقية من ارمينيا. اضافة الى 130 الفا من الاطفال الذين خطفوا من عائلاتهم او يُتموا وتم لاحقا تتريكهم بضمهم الى عائلات تركية. وبنتيجة هذا الحساب تكون اعداد الضحايا قد تجاوزت المليون ونصف. المصادر التركية تعترف بوجود مليون و700 الف ارمني في السلطنة العثمانية عند بدء الحرب العالمية الاولى. واذا انطلقنا من المصادر التركية التي تقلل من اعداد الارمن المتواجدين في السلطنة عند بدء الحرب يكون عدد الضحايا قد تجاوز المليون محمد نور الدين : نتيجة للكلام الذي تفضلت به عن الأرقام وتعدادها عند البطريركية الأرمنية وعند الأتراك، سيبقى حسب وجهة النظر الأرمنية حوالي مليون ونصف المليون وجميعهم قتلوا بإيعاز رسمي. هنا الأتراك يدعون إلى تشكيل لجنة تاريخية، والاتفاق الأرمني الأخير في خريف 2009 بين تركيا وأرمينيا لاحظ تشكيل مثل هذه اللجنة على أن تضم مؤرخين من الأتراك والأرمن والسويسريين وتكون كل الأرشيفات مفتوحة أمام هؤلاء الباحثين للوصول إلى حقيقة ما جرى في العام 1915، دائماً كان الرد الأرمني بالرفض لمثل هذه اللجنة لأن المثبت لا يحتاج إلى إعادة إثبات، فإذا انطلقنا أنه في التاريخ الحقيقة لا يمكن أن تكون نهائية ولا في أي زمن، فقد تظهر غداً وثيقة او وثائق تعيد إعادة كتابة ما كان معتبرا نهائيا في التاريخ الاجتماعي والسياسي والعسكري وما إلى ذلك. لماذا الأرمن لا يمضون في مثل هذه اللجنة وحتى لو استغرقت بعض الوقت، حيث إنه يفترض حسب رأيكم أن تؤكد هذه الوثائق ما يقوله الأرمن بأن ما جرى هو إبادة عن سابق تصور وتصميم من جانب سلطة الاتحاد والترقي في السلطنة العثمانية، لماذا ترفضون مثل هذه اللجنة؟ أوهانس تسلاقيان : طرحت سؤالاً عن وجود بند خاص بتأليف لجنة لبحث التاريخ في البروتوكولين اللذين وقعتهما أرمينيا وتركيا. هذا ليس صحيحاً، هناك نص يقول بتأليف لجنة لبحث البعد التاريخي في العلاقة بين الأرمن والأتراك، البعد التاريخي لا يعني بحثاً في موضوع الابادة أو في التاريخ، البعد التاريخي بالنسبة لنا أو بالنسبة لما تفضل به الرئيس الأرمني يعني البحث في نتائج ما حدث في التاريخ. هناك فرق واسع بين الوجهتين. هناك ايضاً موضوع أساسي لا بد من أن نتطرق إليه، وهو النية في البحث التاريخي عند الأتراك. هذه النية واضحة وهي العمل على إطالة مدة البحث لعدم التوصل إلى الإقرار بالوقائع. ماذا يقول الأتراك؟ اولاً، يقولون إن الوثائق معروضة أمام الناس للبحث فيها، هذه الوثائق مر عليها 93 عاماً أو 94 عاماً. منذ ثلاث سنوات وهم يقولون إن الأرشيف موضوع بتصرف كل المهتمين ولكن من قال إن هذا الارشيف لم ينقح من كل ما يمكن أن يؤدي إلى إدانة تركيا؟. ثانياً، هناك باحثون اجتماعيون في موضوع الإبادة وأعدادهم كبيرة 99 في المئة منهم يقر بواقع الإبادة، اما الأتراك وقبل البحث فإنهم يقولون إن الإبادة لم تحصل. حسن جمال، حفيد جمال باشا، والذي تخرج عام 1964 من معهد العلوم السياسية في اسطنبول، يقول إنه لم يتجرأ أي من المحاضرين في الجامعة على التطرق الى احداث عام 1915، اي انه كان هناك جهل لكل هذا الامر حتى عام 1975 عندما “بدأنا نسمع من الإعلام الخارجي بموضوع الإبادة الجماعية للارمن”. ان النظام الدراسي سعى إلى تضليل الرأي العام، لذا فإنه من الصعب على الشعب التركي أن يتقبل موضوع الإبادة. أتفهم وضعهم إذ انه تم التعتيم على هذه الوقائع التاريخية. الدولة التركية عملت على كتابة تاريخ يناسبها. الموضوع مطروح اليوم للبحث السياسي لا التاريخي، علماء الاجتماع والتاريخ فصلوا في الموضوع وقالوا كلمتهم. هناك اعداد كبيرة من المجلدات توثق مرحلة 1915 – 1923 مستندة الى ارشيف الحلفاء والدول المتحالفة معها، وخصوصا أرشيف الدولة الألمانية. اقر البرلمان الألماني عام 2005 بالإبادة الجماعية الأرمنية مشيراً الى الوثائق التي بحوزته وابحاث المؤرخين التي تقر بأن عدد ضحايا الابادة يتجاوز المليون ونصف. وهذا يعتبر بحسب علماء الاجتماع ابادة. لم يقل البرلمان إنه يقر بالإبادة ولكنه أشار إلى أن العلماء يقولون عن هذا الشكل من التطهير العرقي بأنه إبادة. الألمان قالوا هذا بالاستناد الى أرشيفهم. الباحث الالماني في علم الاجتماع وبالأخص في الإبادة الجماعية الأرمنية غاص في أرشيف الدولة الهنغارية – النمساوية وفي أرشيف الدولة الألمانية وأصدر مجلدا عن هذه الوثائق التي تبين النية التركية في تصفية الأرمن من الوجود. الكلام الذي ورد على لسان السفير الأميركي هنري مورغنتاو في الدولة العثمانية عام 1916 بدوره يؤكد ذلك: اذ استدعاه طلعت باشا ليقول له إن عليه أن يعطي السلطة في الدولة العثمانية لوائح الأرمن الذين اشتروا بوالص تأمين على الحياة من الشركات الأميركية وبالأخص شركة “نيويورك لايف أنشورنس” وشركة “اكويتبل لايف أوف نيويورك”، مضيفا أن طلعت باشا قال له بالحرف الواحد: هؤلاء لم يعد لهم ورثة أي أنه قتلهم وقتل ورثتهم أيضاً، بمعنى أنه أباد الشعب الأرمني. المؤرخ التركي سليم ديرنغول يقول إن التشكيلات “المحسوسة” التي ألّفتها الدولة العثمانية استعملتها أولاً كذراع أمني مخابراتي ولكن حولتها في العام 1915 إلى ذراع للقيام بعملية إبادة الأرمن في الدولة العثمانية. محمد نور الدين : أمام هذه الصورة التي تعكس وجهة نظر الأرمن أن الذي جرى هو إبادة وبالتالي أنها ترفض تشكيل مثل هذه اللجنة التاريخية وتظن أنها محاولة تسويف الواقع وكسب الوقت من أجل إحداث تحولات على الأرض، لماذا الإصرار الأرمني على الطلب من تركيا أن تعترف بأن ما جرى إبادة؟ أوهانس تسلاقيان : هذا الإصرار ليس أرمنياً بحتا، هناك دول عديدة طالبت تركيا بمواجهة تاريخها. المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية في آذار/مارس 2010 وبعد أن أقرت لجنة الشؤون الخارجية في الكونغرس الأميركي بحدوث الإبادة الجماعية للأرمن وللمرة الثالثة، يقول إن التزام أميركا واضح باعتراف عادل وصريح بالواقع، لكنها تعلم أن هذا قد يكون له تأثير على العلاقة بين الدول. تركيا ترد على لسان وزير خارجيتها أحمد داود أوغلو في مؤتمر صحفي بالقول إن هناك معاناة للأرمن عام 1915 ولا بد من أن نقر بهذه المعاناة ولكن على الأرمن أن يقروا أيضاً بمعاناة الشعب التركي عام 1915، وأن يتذكروا أنه حصل تهجير من القوقاز إلى تركيا. لكن هذا التهجير حصل عام 1830 ـ1840 إبان الحرب التي شنتها روسيا على الشيشان والسكان الأصليين في المناطق القوقازية الشمالية، ما دخل الأرمن فيها؟ إذاً ما يطالبنا به داود أوغلو هو أن نعترف بمعاناتهم، نعم هناك معاناة لكن لنجتمع ونقرر معاً أن الدولة العثمانية بنظامها الاتحادي كانت مجرمة، هذا النظام الذي جر الدولة العثمانية إلى ما حدث ومن ضمنه إلى إبادة الأرمن. هذا ما نطالب به داود اوغلو، بينما هو يطالبنا ان نساوي بين معاناتنا ومعاناتهم وهذا المنطق مرفوض. محمد نورالدين : تطلبون من تركيا أن يكون هذا بمثابة تعويض معنوي وأخلاقي عن المجازر التي حصلت بحق الشعب الأرمني. أوهانس تسلاقيان : قرار الإبادة قرار سياسي بامتياز. والنتائج التي تترتب على هذا القرار هي نتائج سياسية وإنسانية ومعنوية. إذاً لا بد من التطرق أولا إلى الأمور الإنسانية بالاعتراف التركي بالواقع وبطلب الاعتذار عن الجريمة التي وقعت. ثانياً، هناك بعد سياسي ولا بد أن تسعى تركيا إلى إزالة العداوة ضد الأرمن، هذه العداوة التي تروج حتى الآن في تركيا ضد الأرمن، وهذه العداوة قائمة اليوم ايضا بشكل الحدود المغلقة. فأرمينيا محاصرة من تركيا وإغلاق الحدود يعني شكلا من أشكال إعلان الحرب على الدولة الأخرى. ثالثاً، هناك نتائج مترتبة على هذه العملية من ضياع أرض ومن ضياع ممتلكات ومن ضياع جغرافيا. أرمينيا اليوم مساحتها أقل من سدس المساحة التي أقرت بموجب معاهدة سيفر (1920). الكماليون لم يعترفوا بهذه المعاهدة وقامت معاهدة لوزان بعد ذلك، ولكن وثيقة سيفر لا زالت قائمة. محمد نور الدين : معظم الأرمن الذين هجروا إلى سوريا والعراق وإيران والعالم الغربي إن لم يكن جميعهم جاؤوا من الأراضي التي تتبع الدولة العثمانية، يعني من شرق الأناضول. ما هو المقترح الملموس المحدد الذي تطالبون به من أجل إعادة حقوق هؤلاء الأرمن لأراض ما زالت حتى الآن تابعة للدولة التركية؟ أوهانس تسلاقيان : الحقوق ليست حقوقا شخصية انما هناك حقوق قومية. القرار السياسي ليس بإبادة أشخاص، بل بإبادة الأرمن لتكوين دولة تركية متجانسة عنصرياً وعرقياً. إذاً الحل ليس بدعوة هؤلاء إلى المطالبة ببيوتهم أو بأرضهم. هنالك واقع سياسي لا بد أن نجد له الحل. مساحة أرمينيا بوضعها الحالي 30 ألف كلم2، تحدها من الشرق والغرب دولتين تعتبران أرمينيا عدوة لها. هنالك حصار جغرافي واقتصادي مفروض على أرمينيا من هاتين الدولتين. متنفس أرمينيا الآمن الوحيد هو المنفذ الإيراني اليوم، أما المنفذ الجورجي فغير آمن وغير مستقر لأن جورجيا دولة مضطربة. خلال 19 عاماً من الاستقلال لم تثبت أسس النظام فيها. الوضع الداخلي المضطرب وصراع جورجيا مع روسيا أديا إلى ما أديا إليه من إغلاق منافذ أرمينيا نحو الشمال. إذاً كل هذه الامور لا بد من أن يوجد لها الحل. الوضع الجغرافي الحالي لا يؤمن الحلول لهذه الامور السياسية من حيث المنافذ الى المخارج، وهذه المساحة لا تتسع لضم جميع الأرمن إليها، هناك من يسأل: إذا توسعت الجغرافيا الأرمنية هل يذهب الأرمني في الخارج للعيش هناك؟ هذا قرار فردي لكل أرمني يعيش في البلد الذي هو متواجد فيه، لكن الحق لا يمكن أن يساوم عليه بمنطق أنه إذا أعيد الحق فهل تعود إلى دولتك أم لا تعود. محمد نور الدين : ما الذي يمكن أن تقدمه تركيا ويكون مقبولاً من جانب الأرمن، وهل الحل هو في إعادة تأسيس أرمينيا التاريخية وضم الأراضي التركية الشرقية إلى ما يعرف بأرمينيا التاريخية؟ أوهانس تسلاقيان : هذا موضوع مطروح للبحث. أنا لا أطرح حلولاً لأنني أعرف والجميع يعرف أن المسائل والحلول تبحث بالتشارك. ولكن المطروح أن يكون هناك إعادة أرض تمكن أرمينيا من أن تستعيد حيويتها الديمغرافية وحيويتها الاقتصادية وإمكانية الدفاع عن ذاتها ضمن هذه الحدود. أرمينيا التاريخية مساحتها 300 ألف كلم2 وضمن هذه المساحة يعيش عدد كبير من الأكراد. الحل الذي عرض بموجب معاهدة سيفر هو تقاسم هذه الأرض بين الأرمن والأكراد. وهذا الحل هو منطلق للبحث بين الأرمن والأكراد ايضا، لأن الأكراد هم الطرف الثالث في هذا الموضوع. أنا لا يعنيني أن أستعيد الجنسية التركية اليوم. الإبادة مطبوعة في ذاكرة الأرمن الجماعية، فلا يمكن أن يفكروا يوماً ما بالعودة إلى العيش في المناطق التي كانوا يعيشون فيها خاضعين لحكم غير الحكم الأرمني، لأن التاريخ أثبت أن امكانية التعايش على هذه الأرض بين القوميات لم تكن غير قائمة. الأتراك هم الذين قاموا بالتجييش والتحريض بدوافع قومية ودينية على الأرمن، وهذا ما أدى إلى تغيير ديمغرافي هائل في المنطقة. الآن اذا عاد الأرمن جميعهم إلى المناطق الأرمنية التي رسم حدودها الرئيس الاميركي وودرو ويلسن بموجب معاهدة سيفر، فلن يعودوا أكثرية، وانما مجرد اقلية كبيرة، لأن ثلثي الارمن في السلطنة قد قتلوا، وبالتالي سيكون الفارق العددي الديمغرافي شاسعاً بين السكان الحاليين في المنطقة، مع من تم توطينهم خلال السنوات المئة الماضية وبين الأرمن، إذاً هذا الطرح غير منطقي وغير مقبول عند الأرمن. طروحات كهذه تحاول تركيا تسويقها لتجريد المطالب الأرمنية من البعد السياسي الذي نطرحه لوضعها في الاطار الإنساني. أي انه يمكن طرح استعادة الممتلكات، رغم ان هذا الطرح بالتأكيد ليس جدياً، لأنهم يعلمون أن الأرمن لا يمكن أن يقبلوا به. يجب أن نرى كيف يمكن أن نحل مشكلة القوميات في هذه الأرض وكيف يمكن أن نحل مشكلة الشعور الأرمني بعدم الأمان في ظل وجود دولة تركية نعترف جميعنا أنها دولة اقليمية كبرى في المنطقة تغذي العداوة تجاه الارمن بنظامها التعليمي والتجييش الاعلامي. وهذا لا يساعد على إيجاد تفاهم بين الأرمن والأتراك. يجب فصل الأرمن عن الأتراك بحدود منطقية بين الدولتين، حيث إن الدولتين تقدمان على إقامة علاقات دبلوماسية طبيعية وتحاولان تطوير العلاقة الإنسانية بين الطرفين، وهذا قد يجدي مستقبلاً في إيجاد تواصل طبيعي بين الشعبين. ولبحث الحلول التي تمكن الشعبين من العيش بطمأنينة وبجيرة طبيعية. محمد نورالدين : هل ترون استعادة قسم من الأراضي التي تقع ضمن الجمهورية التركية الحالية بالأسلوب نفسه الذي تمت فيه استعادة قره باغ من اذربيجان وضمه الى أرمينيا؟ أوهانس تسلاقيان : في أذربيجان الموضوع يختلف عن موضوع تركيا. كان في أذربيجان واقع لا يطاق بالنسبة إلـى ارمن ناغـورني قره باغ، هذه المنطقة كانـت مسكـونة بـ 95 في المئة من الأرمن عام 1921 عندما امر ستالين بضم هذه الأرض إلى دولة أذربيجان. وإذا عدنا إلى التاريخ فلا نقع في أيِّ من وثائقه على دولة أو قومية اسمها أذربيجان، إنما هذه المناطق كانت تسكنها قوميات تركية مختلفة. بعد أن تضعضعت الدولة القيصرية تكونت دول منها جورجيا، أرمينيا، وأذربيجان، وهذه القوميات كانت متداخلة مثلما كانت في مناطق عديدة من الشرق. انفصلت هذه القوميات وكونت دولها المستقلة. منطقة ناغورني قره باغ كانت مسكونة بالأرمن بنسبة 95 في المئة كما ذكرنا، لكن وبقرار تعسفي تم ضم هذه الأرض الارمنية إلى أذربيجان بضغط مباشر من تركيا التي كانت قد بدأت بالتحالف مع البلاشفة في روسيا. عاش الأرمن في هذه المنطقة 70 عاماً من الظلم والاضطهاد. ثم تقدم الأرمن بطلب إعادة هذه المنطقة إلى أرمينيا. ومنذ ذلك التاريخ بدأت السلطة في أذربيجان بمضايقة الأرمن أكثر لترحيلهم وتغيير الصورة الديمغرافية في الاقليم. رغم ذلك وفي آخر احصائية اجريت عام 1980 في الدولة السوفياتية كان الأرمن يشكلون 82 في المئة من السكان في ناغورنو قره باغ. ومع امواج الحرية التي جاءت على صورة البيريسترويكا في الاتحاد السوفياتي في عهد ميخائيل غورباتشوف تقدم الأرمن بطلب اعادة ضم هذه المنطقة إلى أرمينيا وقاموا بتظاهرات دعماً لهذا المطلب. فكانت ردة الفعل الآذرية عليها مجزرة في سومغايت التي تبعد عن قره باغ اكثر من 500 كلم، اي ان ردة الفعل كانت بتهييج قومي وعرقي ضد الأرمن في كل اذربيجان وكانت حصيلتها عملية إبادة الأرمن بدءاً بسومغايت التي تقع على بعد 30 كلم من باكو. مورس الاضطهاد والقمع والعنف ضد الأرمن في ناغورنو قره باغ. حاولت السلطة بالقوة والسلاح إخضاع الأرمن، فما كان منهم إلا أن قاموا بتنظيم دفاعهم الذاتي، فوقعت الحرب التي ابتغت منها اذربيجان اقتلاع الارمن من ارضهم. خسرت اذربيجان الحرب رغم انها كانت واثقة من انتصارها وجاءت النتائج عكس ما كانت ترتئيه ووقعت هذه القطيعة بين أرمن ناغورنو قره باغ ودولة أذربيجان، وأعلن ارمن قره باغ استقلالهم. محمد نور الدين : بعد الاتفاق الأخير بين تركيا وأرمينيا في تشرين الأول/اكتوبر 2009 لاحظنا خلافا كبيرا داخل الجماعة الأرمنية في العالم بين النظام في أرمينيا الذي وقع هذا الاتفاق والأرمن الموجودين في الشتات. وجال الرئيس الأرمني سرج سركيسيان في العالم، ومنه لبنان، محاولا إقناع الأرمن في هذه الدول بهذا الاتفاق ولكن لم يتم التوصل الى وحدة في الرأي. بتقديرك هل المسألة الأرمنية تخص أرمينيا كدولة ام الشتات الارمني ام الاثنين معا؟ أوهانس تسلاقيان : المشكلات السياسية تبتّ بين الدول، وبالتالي هذه المشكلة تبت بين أرمينيا وتركيا. ولكن إذا أخذنا في الحساب تكوين ارمينيا الديمغرافي، نرى أن هناك حوالي ثلث الأرمن في أرمينيا المستقلة اليوم أصولهم من الذين تمت إبادة أهلهم وأجدادهم في تركيا. قلت إن حوالي 300 ألف ارمني نزحوا من تركيا إلى المناطق الشرقية من أرمينيا خلال عملية الإبادة. وهؤلاء، مع التكاثر السكاني يبلغ عددهم اليوم حوالي مليون شخص من أصل 3 ملايين ونصف المليون هم سكان ارمينيا الحالية. وفي الامور السياسية لا بد من أن نجد قواسم مشتركة بين جميع فئات الشعب الأرمني في أرمينيا والخارج. تطلع فئات الشعب الارمني هو ذاته، لكن السلطة في أرمينيا لها حسابات سياسية وجيوبوليتيكية وتقوم بمبادرات حسب رؤيتها للواقع السياسي في المنطقة. إذا عدنا الى ما قبل عامين، نرى أن روسيا كانت تستعد لإعطاء درس للجورجيين لتأديبهم على التحرشات التي كانت تقوم بها السلطة في جورجيا ضد روسيا، وكان جورج بوش الرئيس الأميركي يهدد بمعاقبة وبمحاصرة وضرب إيران. أي ان المنفذين الباقيين للأرمن إلى العالم كانا في خطر. وكان الطرح الارمني وبإيحاء من الروس أنه لا بد من إيجاد مخارج أخرى لتفادي انعزال أرمينيا كلياً عن العالم، وكانت الخطوة من الرئيس الأرميني بدعوة عبد الله غول إلى إقامة مباراة كرة قدم بين تركيا وأرمينيا. لكن ذلك التوجه نحو الانفتاح على تركيا لم يقابل بالمثل. بل وقعت تركيا في حسابات السلطة الداخلية بالعمل على عدم اثارة الطبقة العسكرية وتجنب المواجهات بين السلطة السياسية والعسكرية، ما اعاق التقدم إلى الأمام باتجاه مصالحة أرمينيا. وكذلك قومت تركيا هذه الخطوة من منطلقات الربح والخسارة ورأت أن مصالحة أرمينيا قد تفقدها الورقة الأذربيجانية. هناك مصالح اقتصادية وروابط قومية بين تركيا واذربيجان. الطرفان يعلنان أنهما دولتان ولكنهما شعب واحد. كل هذه الأمور أدت إلى تراجع تركيا خطوة خطوة، وعدم الإمساك باليد الممدودة من طرف الرئيس الأرميني نحن لم نكن ضد طرح الرئيس الأرميني البحث في إمكانية المصالحة والتصالح بين الشعبين وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، لكننا رفضنا الشروط التي وضعت في هذه الوثيقة. كان الخطأ في اندفاع أرمينيا نحو تنازلات، وكنا نرى أن إمكانية عزل أرمينيا غير واردة وبالتالي لا لزوم لكل هذه التنازلات أمام تركيا. يجب أن يتم البحث في إمكانية إقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين دون التطرق إلى الأمور الأخرى، سعياً الى الوصول إلى الحلول التي نفكر أنها الأصح من خلال العلاقات الدبلوماسية. كنا نرى انه في مدة زمنية قصيرة وفي وضع ضاغط على الأرمن لا يمكن أن نوقع على وثائق يمكن أن تؤدي بنا إلى حلول لا تتناسب مع تطلعات الأرمن وواقعهم ومستقبلهم. محمد نور الدين : هل تراهنون على دور ما لمنظمات المجتمع المدني لتغيير المزاج التركي والنظرة الرسمية لحل المسألة الأرمنية؟ أوهانس تسلاقيان : اليوم نرى أن المجتمع المدني له تأثيره الكبير في الدول الديمقراطية وحتى شبه الديمقراطية، يعني خارج الدول التي فيها طغيان استبدادي. ما الذي جرى خلال السنوات العشرالماضية؟ بداية ومنذ عام 1975 كانت تركيا ترفض حتى الحديث عن موضوع الأرمن. وابتداء من العام 1985 بدأوا الحديث بانكار المطالب الارمنية والقول ان هذه اتهامات ومزاعم غير موثقة وبالتالي لا يمكن أن نبحثها. وعندما ضغط الموضوع عليهم بعد عشر سنوات اي ابتداء من عام 1995 بدأوا بالجدل حول عدد الضحايا والنية من التهجير وليس الابادة. قالوا أن عملية تهجير جرت من المناطق التي دارت فيها الحرب، وهذا غير صحيح لأن هناك مناطق لم تشهد الحرب تعرّض الأرمن فيها للتهجير. كما قالوا انه بنتيجة التهجير وقع ضحايا وهؤلاء الضحايا يعدون بمئات الآلاف وليس بالمليون. ومن ثم بدأوا بالحديث عن أن هناك ضحايا من الطرفين فلنجتمع ونعلن عن التعاطف مع ضحايا الفريقين. لكن في الواقع لا يمكن مقارنة ضحايا الأرمن بالضحايا الأتراك، مع احترامنا لكل الضحايا. القرار الذي اتخذته السلطة في الدولة العثمانية هو الذي أدى إلى الضحايا الأرمن والضحايا الأتراك، فلنجتمع وندن كل قرارات هذه السلطة ونبحث في كيفية التعامل مع نتائج هذه القرارات. هذا ما يطرحه الأرمن وأرمينيا في موضوع بحث الإرث التاريخي للعلاقة بين الأرمن وتركيا. بدأ الموقف التركي بالتدرج من إنكار الواقع وأي شاهد على واقع الابادة إلى الوصول إلى هذه النقطة بالاعتراف بمئات آلاف الضحايا الارمن. كيف وصلنا إلى هذه الدرجة؟ هناك تحول في الرأي العام التركي. في العام 2001 عندما اعترفت فرنسا بوقوع الإبادة الجماعية للارمن، قامت مؤسسة غالوب للإحصاء والاستطلاع باستطلاع جاءت نتيجته أن هناك 17 في المئة من الأتراك سمعوا بموضوع الإبادة ولكن لم يكن فهمهم وإلمامهم بالموضوع متساوياً. وهذا كان تطوراً لافتا لأن المناهج المدرسية التركية جميعها لم تتداول الموضوع وكان هناك تعتيم شبه كامل على موضوع الابادة. واليوم وبعد 9 سنوات وبعد أن تتالت الاعترافات بواقع الإبادة الجماعية الارمنية وردود الفعل التركية عليها، أكيد أن هذه الأعداد الملمة والمتفهمة للموضوع أصبحت اكبربكثير. هناك حوالي 30 ألف مثقف تركي وقّعوا السنة الماضية على وثيقة تتوجه بالاعتذار من الشعب الارمني. وهذا تحول كبير في المجتمع التركي، ونحن نتفهمه ونساعده وندعمه ولكن هذا التحول لا بد من أن يصل إلى السلطة في تركيا. لابد أن نرى ان هناك فرقاً بين السلطة التي كانت لها توجهات قومية خلال ثمانية عقود والسلطة الحالية ذات التوجهات الإسلامية. هذه السلطة تحاول ايجاد الحلول للمسائل العالقة، بينما السلطة التي سبقتها لم تسع اليها. الكل يعلم بأن تركيا لم تكن ديمقراطية بالمعنى الحقيقي للكلمة. كانت المؤسسة العسكرية تمسك بزمام الأمور والباقي دمى تحركها هذه المؤسسة. وقبل مجيء الحكم الحالي المتمثل بحزب العدالة والتنمية، كانت السلطة السياسية واجهة للعسكر الذين كان توجُّههم قوميا متشددا، خائفين من ان يؤدي اي تغيير في موقف الدولة من موضوع الارمن إلى تضعضع الفكرة التي قامت عليها الدولة التركية الحديثة وفكرة قداسة من قاموا بتأسيس هذه الدولة، يعني أتاتورك ومن كان حوله، وهؤلاء هم المجرمون الذين ارتكبوا جريمة الابادة، بينما السلطة الحالية لا تعترف ضمنياً بأنها ملزمة بالاعتراف بالواقع الذي فرضه العسكر على تركيا ولا تعترف بضرورة مواصلة هذا النهج، في نهج تغييب الأخلاق والمبادئ الأخلاقية في الحياة العامة التركية، ومن ضمنها السعي الى إيجاد الحلول لكل ما اورثته السلطات المتعاقبة من مشاكل عالقة ومنها المشكلة الارمنية ومشكلة الاكراد. السلطة تحاول أن تجد الحلول للازمات التي ورثتها من العهود الماضية: مع سوريا و إيران و كل الدول والشعوب المجاورة لتركيا. مبدأ “صفر مشاكل” مع الجوار الذي يطرحه احمد داود أوغلو هو تطلع السلطة الحالية. لكن ما زال طغيان الذين كانوا يحكمون تركيا فعليا خلال السنوات الـ80 الماضية، أي ان العسكر ومن يدور في فلكهم يفرمل هذه الاندفاعة. مع تراجع نفوذ هؤلاء، يمكن أن نتطلع بتفاؤل اكبر الى تحولات أكثر إيجابية في المجتمع التركي. النظام الدراسي والمناهج الدراسية ما زالت تكوّن فكرة سيئة عن الأرمن وتحرض قومياً على الأرمن، وهذا لا بد أن يزول نتيجة ضغط المجتمع المدني والاتحاد الأوروبي، لأن الاتحاد الأوروبي يطالب تركيا بسلوك طريق تغييرات عضوية في جميع الشؤون التي تخص المجتمع اكانت سياسية او اقتصادية او تربوية وما إلى ذلك. محمد نورالدين :هل يمكن لتقدم تركيا على طريق الاتحاد الأوروبي أن يكون عاملا يساهم بإيجاد حل للمسألة الأرمنية؟ أوهانس تسلاقيان : موقفنا هو انه لا بد أن تحل تركيا مشاكلها تدريجياً مع الجميع، في الداخل والجوار لتصل إلى الحد الذي يمكّنها من دخول الاتحاد الأوروبي. المسار يجب أن يبين عن نية تركيا الحقيقية في التدرج نحو الديمقراطية ونحو القبول والإقرار بالوقائع، ونحو مصالحة الجيران فعلا وعلى اسس صحيحة. المصالحة بين تركيا وسوريا جاءت نتيجة الضغوط، اليوم تحولت إلى مصالحة حقيقية. قبل 10 سنوات كانت سوريا بين فكي كماشة. كان الخيار بين التنازل امام تركيا او إسرائيل وكان القرار بالتوجه الى تركيا. اليوم جاء التحول، وفي النظرة الى بعضهما البعض تطورت العلاقة. مع أرمينيا ومع الأرمن لا بد أن تخطو تركيا خطوات تمكن الشعبين الت