«الإبادة الأرمنية»: التطوّر التاريخي للصدام هو وجود أكثرية وأقلية المأساة الارمنية في صورة من كتيب المؤتمر مادونا سمعان “السفير” السبت 5 أيلول 2009 لم تختر «جامعة هايكازيان» و«الهيئة الوطنية الأرمنية في الشرق الأوسط» تاريخ انعقاد مؤتمرٍ حول «الإبادة الأرمنية والقانون الدولي» تزامناً مع انطلاق مفاوضات تطبيع العلاقات الأرمنية – التركية. بل إنه التاريخ الأنسب الذي استطاعت فيه الجهتان جمع أكبر عدد من الباحثين المختصين بالموضوع. فأتوا من أرمينيا ولبنان سويسرا وأميركا وكندا ومصر وبريطانيا وايرلندا وحتى تركيا. ومن بينهم من يجد أن تلك المفاوضات ذاهبة إلى حائط مسدود ما لم تتخذ ولن تتخذ أي خطوات للتعويض على الشعب الأرمني عما تكبّده من خسائر معنوية ومادية. حتى أن أحدهم ذهب إلى حدّ وصف الجهات الأرمنية المفاوضة بـ «زعماء فاسدين على ما يبدو». وبعيداً عن تقييم المفاوضات والهدف منها وما ستؤول إليه… انطلق المؤتمر من التاريخ، باحثاً في التطورات السياسية التي أدّت إلى الإبادة. فأشار عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدكتور جورج شرف إلى أن التطوّر التاريخي الذي أدّى إلى صدام هو وجود أكثرية وأقلية. وقد نشأت في القرن التاسع عشر قوميات إيديولوجية في تركيا، تخطت المنطق الامبراطوري الذي يقوم على إخضاع الأقلية للأكثرية مع منحها استقلالية ذاتية. فأخذ الصراع بين الأكثرية والأقليات طابعاً قيمياً. وتحوّل من صراع بين قوي وضعيف إلى صراع بين متفوّق ودوني. واعتبرت الأكثرية نفسها متفوقة نوعياً وسمّت نفسها الطبقة العليا واستأثرت بالسلطة إلى حدّ الاحتكار ومنع الأقلية من تقرير المصير. وكان على الأقلية في ذاك الوقت إما المقاومة أو الاستسلام، فاختارت المقاومة. ولم يتبدّل هذا المنطق بين السلطنة العثمانية والدولة التركية التي قامت على العلمانية والقومية التركية، بحسب شرف، وقد باتت نموذجاً لصراع القوميات. في السياق نفسه، رأى الباحث في التاريخ الاجتماعي للعنف الجماعي الدكتور أوغور إنغور أن نظام «تركيا الفتاة» حاول في الفترة الممتدة بين العامين 1913 و1950 انشاء نظام مبني على ديموغرافية معيّنة، فسلك طرق التهميش وتعديل الحدود والترحيل وتبادل السكان والابعاد… وبالنظر الى تلك الفترة، يقول الباحث: «نرى خصومات داخل الدولة بحيث انقلب الحزب في اسطنبول وأرسى الديكتاتورية وأصبح عنف الدولة من الروتين بحيث طال أرمنا وأشوريين ويونانا وأكرادا». ومن المذابح في تلك الحقبة، ذكر إنغور مذبحة منطقة البونتوس التي أدت إلى ترحيل آلاف اليونانيين، ومذبحة العام 1921 التي طالت الأكراد كما مذبحة ديار بكر في العام 1925 وبعدها مذبحة آرارات. وقد شهدت مجموعات الضحايا أعمال استبعاد. وضمنت استمرارية العنف ثلاثة أمور: أولها استمرار النظام، ومن ثم تحوّل جمعية الاتحاد والترقي إلى الحزب الحاكم، بالإضافة إلى الاستمرارية في الايديولوجية. ولفت الباحث إلى شخصية شكرو كايا الذي «أرسل مئات الآلاف إلى الموت» وقد كان اليد اليمنى لطلعت باشا أيام السلطنة ومن ثم اليد اليمنى لمصطفى كمال أتاتورك». فمع الأول، كان يشرف على الترحيل و«يدير الأمور اليومية للإبادة». أما مع الثاني فكان يدير مصادرات الأملاك واستملاك الأراضي لا بل القرى. أمام هذا الواقع قامت مصادر عربية مختلفة بالكتابة عن القضية الأرمنية. وأوضح الباحث في التاريخ المعاصر في جامعة الإسكندرية الدكتور محمد رفعت أن منها من لم ينكر «المذابح الحميدية» لكنّها ذهبت إلى مستوى التبرير إذ رأت في الأرمن «قومية مسيحية تتلطى بالصليبيين للنيل من الإسلام». في حين أن الأدبيات الصحافية تبنّت، وفق رفعت، مواقف مختلفة من الموضوع متبنّية إما الموقف الإسلامي أو العثماني أو الفرنسي أو البريطاني… ومنها ما وصف الأحداث بالاستئصال. كذلك، أشار الكاتب والصحافي التركي رجيب زاراكولو إلى إستمرار الحكومة التركية بعد انهيار السلطنة العثمانية بسياسة التطهير، معتبرة هذه السياسة شرطاً أساسياً لبناء أمة توحيدية. ولفت إلى أن العالم يشهد منذ تسع سنوات سياسة تركية جديدة تجاه الاعتراف بإبادة الأرمن، «فقبل هذه السنوات كان الصمت سائداً. أما اليوم فعاد الأتراك إلى اتباع سياسة الإنكار، وليس فقط على صعيد الأرمن». وأبرز الكاتب وثيقة عائدة إلى الحكومة العثمانية صادرة في العام 1906 تعتبر أن «الأرمن كانوا خونة وكيف أن الحكومة كانت تريد تشجيعهم وحمايتهم الّا أنهم لم يستجيبوا بشكل مناسب، فما كان عليهم الاّ طردهم». مضيفاً أن الأتراك يعتبرون الأرمن مسؤولين عما جرى في العام 1915. وتبعت الأحداث بسلسلة اضطهادات من هجمات على النصب التذكارية الأرمنية إلى التضييق على البطريرك الأرمني في اسطنبول، بالإضافة إلى التضييق على كتاب عديدين واغتيال ناشرين مسيحيين. في هذا الوقت، كانت الصحافة التركية تتخذ موقف الإنكار مثلها مثل الحكومة التركية. ولم تتطرق للموضوع الأرمني الا عبر محفزات خارجية، كان أبرزها اعتراف فرنسا كما الولايات المتحدة الأميركية بإبادة الأرمن من قبل الأتراك بعد العام 1990، بحسب الباحثة الدكتورة سهيان بيرقتار. بعدها، أدرجت قضية الإبادة على الأجندة التركية، وأضيف الى هذا التحوّل، زيارة احد الأعضاء البارزين في الحزب الحاكم للنصب التذكاري لشهداء الأرمن في ياريفان. وذلك بعدما أقرت بعض المحاكم علانية بحصول فعل الإبادة. وقد شكّل العام 1987 خطاً مفصلياً في الخطاب التركي لا سيما بعد إقرار الاتحاد الاوروبي حصول الإبادة. فما كان من الحكومة الا رفض الحديث الأوروبي على أساس أنه تدّخل في الشؤون الداخلية التركية. وفي هذا الوقت، كان الرأي العام يربط القضية الأرمنية بالنظام التركي دون غيره. أمام هذا الواقع، لفتت الباحثة بلجين آياتا إلى مبادرات فردية في إعادة الاعتبار إلى الأرمن ومنها حملة الاعتذار الشهيرة من قبل المجتمع المدني ومثقفين… مستذكرة شاباً كردياً علم بأن أرضاً ورثها تعود إلى أشوريين، فذهب إلى مركز جمعية أشورية في السويد وأعاد الأرض لها. غير أن إعادة الاعتبار للأرمن تبدو صعبة أمام الشريحة الأكبر من الأتراك، لا سيما مع إدراج موضوع الإبادة ضمن المحرّمات. يعتبر الباحث التركي الدكتور تانر أكّام أن هناك أسبابا أهم من التهرّب من الموضوع أو نكرانه، ومنها نقص الوعي التاريخي في المجتمع التركي. يضاف إليه إدخال الأبجدية اللاتينية من دون ان تحصل الأجيال على نسخة من التاريخ المكتوب باللغة الأصل، إذ تمّ تحديثها لدرجة بات من الصعب عودة الأجيال الجديدة إلى التاريخ. لكنّ الباحث لاحظ أن الإبادة شكّلت نوعاً من الصدمة والألم لدى المجتمع التركي، فحاول التخلّص من آثارها عبر نكرانها. لا بل اعتمد إنشاء الدولة على أساس الإبادة، بحيث أعلن أحد أعضاء حزب الاتحاد والترقي في موضوع الإبادة أنه «لو لم نتخلّص من الأرمن الذين كانوا يتعاونون مع الروس، لما أنشأنا دولتنا. هذه أمور حدثت لضمان أمور أكثر قيمة ولها تأثير على مستقبل دولتنا». وقد دعا إلى مأسسة التذكّر في تركيا لأن «86 عاماً من النسيان لم تنشئ دولة في تركيا»، مضيفاً: «إذا لم نواجه التاريخ فلن نحلّ قضايانا». ولعلّ مسألة النكران تنسحب على دول ومجتمعات أخرى. هي نفسها تعترف بمحرقة اليهود وتنكر إبادة الأرمن بحسب الأستاذ في «جامعة وليم وماري» في فرجينيا الدكتور روجيه سميث. وشرح أن بعض الكتاب يعتبرون أنه «لو لم ينقل الأرمن من المجتمع التركي لكانت تركيا تراجعت». فيما يؤكد بعض المؤرخين أن «الإبادة وحّدت تركيا فأصبحت قوية». وعدّد الباحث سبل التنصّل من موضوع الإبادة، لافتاً إلى أن البعض يزعم أن الأرمن كانوا سيطالبون بأجزاء من تركيا والأناضول.. فيما كان البعض الآخر يروّج لمقولة أن مجرمين نفذوا عملية الإبادة أو أن أتراكاً قُتلوا على حدّ سواء كما الأرمن، أو أن الضحايا كانوا مجرمين… بعد سياسة النكران والالتفاف على الواقع، وبعد انطلاق المفاوضات بين الجانبين الأرمني والتركي برعاية سويسرية وأميركية، يرى الإختصاصي في علم الفلسفة الدكتور هنري تريو أن حواراً يجب أن ينشأ بين الطرفين قبل المضي بالمفاوضات «المتعثّرة حتى اللحظة»، لأنه ما من تغيير قد يحدث من دون تغييرات إجتماعية وثقافية واقتصادية… وهو أشار أمام مقولة أن «أتراك اليوم لم يرتكبوا الإبادة ومن غير المحق مطالبتهم إعادة الحقوق»، الى انه على تركيا ان تعيد بعض المنافع والأصول إلى الأرمن لأنها استفادت منها. ولعلّ دفع الاتراك للتعويضات «يعني أنهم جاهزون لتحمّل مسؤولياتهم ويدل على صدق نياتهم، لأنه إذا لم يتمّ التعويض تكون تركيا قد استكملت الإبادة». في المقابل، يرى مؤسس «جمعية الأبحاث الأرمنية» الدكتور ريشارد هوفانيسيان أن هناك مسؤولية ملقاة على عاتق الأرمن، داعياّ إياهم إلى نبذ الرقم لأن مليونا ونصف مليون شهيد أرمني هو رقم كبير بالنسبة للأرمن، لكنه تفصيل بالنسبة إلى عدد الشهداء الذين يسقطون تباعاً في العالم. ودعا أهل القضية إلى التركيز على الخسائر المعنوية والمادية من أراض وتاريخ، «فالإبادة هي جزء من التاريخ العالمي وأبرز ذيولها تعريض حضارة كاملة للزوال». وقد ذكّر أن كل أرمني نجا، إنما نجا بفعل مسلم صالح، خاتماً بالدعوة إلى «بيع» الإبادة على المستوى العالمي، فـ «ألمانيا ما زالت حتى اليوم تستذكر وتأخذ العبر والأمثولات من المحرقة».