المنطلقات السياسية لحق تقرير المصير

د. أنطوان سيف * “حق تقرير المصير في السياسة والقانون والتطبيق” بيروت – 1997 يفترض معظم الفلاسفة وعلماء القانون والإجتماع التقليديون أن البشرية مرّت، على مدى تاريخها الطويل، بمرحلة أولية بدائية يغلب عليها الطابع الحيواني قبل ان تصل إلى مرحلتها “الانسانية” اللاحقة التي تتميز بظهور الدولة التي تعين قواعد سلوك الأفراد إزاء بعضهم البعض بحسب قواعد وقوانين وأعراف، وهذا هو المعنى الأصلي لكلمة حق: أي التصرف وفق قاعدة أو قانون، وتقوم بالسهر على احترام هذه القوانين وحمايتها بالقوة الرادعة وبالعقاب القاسي. المرحلة البدائية أسماها فلاسفة “عصر الأنوار”: “الحالة الطبيعية” (ETAT DE NATURE) ، يكون الحقّ فيها ما تسمح به القوّة المادية، وحدوده حدودها. وبما أن القوة ليست حالة ثابتة ومستمرة للقوي، فكرّ القوي، أثناء فترة قوته وخوفه من فقدانها لأسباب طارئة لا يمكن اجتنابها: كالمرض والشيخوخة والظهور المفاجئ لقوي آخر… فكرّ بالحفاظ على ديمومة قوته بشكل آخر، فقام بابرام عقد مع الفريق الضعيف يقضي بأن يحدّ القوي من بطشه أي من حقّه، ويتعهد للضعيف بالمحافظة على سلامته وأمنه، مقابل تعهّد الضعيف، بالولاء الدائم للقوي، أي حقه المحددّ، في مختلف الظروف والتقلّبات. هكذا كان منشأ الدولة الأول في التاريخ، ومنشأ الحقوق الوضعية القانونية أي مطابقة السلوك البشري لقاعدة متفق عليها. فبعدما كان الحق – في الحالة الطبيعية – هو ما تسمح به القوّة، أصبح في المرحلة التالية “الانسانية” هو ما يسمح به القانون. بالواقع إن هذه “الحالة الطبيعية” الوحشية التي قال بها معظم المفكرين، تعتبر اليوم، ومنذ عقود قليلة فقط، فرضية لا أساس لها. فلا يمكن تصوّر وجود إنساني سابق لوجود المجتمع. والمجتمع، أي مجتمع، يتمثل حكما بأنظمة وأعراف وقواعد سلوك لا يمكن أن يخلوا منها أي مجتمع. مهما يكن، فإن العلاقات البشرية لا تحكمها علاقات القوة وحدها. وحتى القوة ذاتها كانت تحدّ دائما بشعور إنساني يكسر هيمنتها وإطلاقيتها. هذا الشعور – كما قال روسّو – هو التسامح والرحمة والشفقة، حتى وإن غاب في كثير من المواقف. فالأديان، وبخاصة السماوية منها التي تنحو منحىً عالمياً، جعلت الرحمة مع الغير والمحبة للآخر، من صلب دعواتها، كما حرّمت بالمقابل اللجوء الأعمى إلى القوّة. إلا أن الدعوات الدينية، في هذا الموضوع بالذات، ينبغي قراءتها قراءة اخلاقية إنسانوية، وغالباً داخل الديانة الواحدة، أي بين المؤمنين الأخوة وحدهم، ولا تنسحب – كمبدأ عام – على الاعتراف بأعداء الدين والاعتراف بحقهم في تقرير مصيرهم بحريّة، بخاصة عندما يكونون في وضعية المنهزمين. وإذا كانت لا تجوز هنا القراءة السياسية الدولية لهذه المواقف الدينية، فهذا لم يمنع بعض الاجتهادات والتأويلات الفقهية واللاهوتية من أن ترى في الديانات السماوية إرهاصات بعيدة لحق تقرير المصير! واعتبار هذه الديانات وكأنها قامت دائما بدور البديل عن هذا الحق قبل ظهوره كمبدأ سياسي وكقانون دولي! إن هذه الصفقة المعقودة بين القوي والضعيف، أبرزت فكرة التعاقد الاجتماعي” المؤسس للدولة ولشرعية سلطتها، هذا التعاقد الذي هيمن على فكر فلاسفة ” عصر الأنوار” الاوروبي بدءاً من أواسط القرن السابع عشر وبخاصة القرن الثامن عشر، وأسس للفكرالسياسي الليبرالي الحديث. فتوماس هوبز (1588- 1678) اعتبر أن الحق يتأسس دائما على القوة إما مباشرة: كما هو الأمر في الحالة الوضعية لوجود الدولة. ان الجديد في فكر هوبز السياسي هو أنه جمع معاً مفهوم العقدالاجتماعي مع مفهوم السلطة المطلقة للدولة. أما مواطنه جون لوك (1632 – 1704) فأكد بدوره على ان المعاهدة الاجتماعية لا تلغي (ولا ينبغي لها أن تلغي) الحقوق الطبيعية للأفراد. لا نزال هنا في القرن السابع عشر، في أواخره. أما في القرن الثامن عشر، فنرى مونتيسكيو (1689 – 1755) يقوم بدفاع لا سابق له عن الحرية الشخصية، وعن فكرة فصل السلطات في الدولة، واعتماد الاصلاحات لمزيد من المساواة والعدالة، وبالتالي للتخفيف من السلطة المطلقة للدولة. إلاّ أن الأثر الكبير في الفكر السياسي المعاصر سيأتي من جانب روسّو (1712 – 1788) ، أولاً من كتابه “بحث حول أصل التفاوت ببن البشر” (1755)، وكتابه الأشهر “في العقد الاجتماعي” (1762) الذي وضعه للرد على نظرية هوبز حول علاقة القوة بالعقد. لقد كان روسّو فائق الحساسية لفكرة المساواة بين البشر والحرية الشخصية، حرية الارادة، أو كما يسمّيها: “حرية الضمير”، التي ينبغي أن تتطابق مع الارادة العامة. هذه الارادة الحرة، الفردية والعامّة، هي، وليس القوّة، الأساس الصالح لبناء العقد، أي الديموقراطية. إن هذه الأفكار التي توسعت، لأول مرة، في مناقشة موضوع السلطة كشأن إنساني محض، ومن غير الحاجة إلى مرجعية دينية، ألهمت المثل السياسية والحقوقية التي برزت في الثورة الفرنسية، واتخذت طابعاً عالمياً، حول حقوق الانسان وحقوق الشعوب. إلا أن القاعدة الفلسفية لحق تقرير المصير في المجال الشخصي كما في مجال السياسة الدولية، نجدها موسعة عند كانط الذي تأثر بطروحات روسو. ففلسفة كانط الأخلاقية تقوم بكاملها على مبدأ سيادة الارادة (AUTONOMIE) بمواجهة مفهوم التبعية والخضوع لقوة خارجية اللاأخلاقي (HÉTÉRONOMIE) فالسيادة الذاتية تقتضي بحسب كانط ان يكون الانسان، في الآن ذاته “مواطناً ومشرعاً، أي فرداً أخلاقيا ونموذجاً عالمياً، أن يخضع لعقله لا لأهوائه لأن هذه تكون دائما متضاربة مع أهواء الآخرين، أي أن يتحرّر من ضغوط الداخل(الأهواء) ومن ضغوط الخارج. كانط علامة فارقة في الفكر الحديث: فكرته حول السيادة الذاتية سيتأثر بها هيغل في مفهومه للاستلاب (ALIÉNATION). في غمرة الأفكار حول السيادة الذاتية، وحرية الإرادة، والمساواة، والعقد، كانت حكومات الثورة الفرنسية تصدر “إعلاناتها” وقوانينها، وأشهرها إعلان “حقوق الإنسان والمواطن” (1789)، والذي عدّل مرتين 1793 و 1795. ففي 1792/2/17 تصدر الجمعية الوطنية الفرنسية إعلانا ينص على استعداد فرنسا الثورة لمساندة الشعوب المقهورة التي تنشد الحرية، إذا رغبت هذه الشعوب علناً بهذه المساندة. ويمكن اعتبار هذا الإعلان بأنه أول إشارة “دولية” إلى ما سيعرف لاحقاً بـ” حق تقرير المصير”. هل نحن أمام نظرة سياسية عالمية جديدة قائمة على محاولة عولمة الحرية؟ هل نحن إزاء مواءمة جديدة بين الوطني المحلّي والعالمي، غير قائمة على علائق قاهر ومقهور؟ هذه العولمة المعلنة لا تظهر في دستور الولايات المتحدة الأميركية (1776) وفي “إعلان الحقوق ” البريطاني (1689) قبله. هل نحن، على العكس من ذلك، أمام إعلان مموّه بشعارات الأخوة ودعم الحرية، لتثبيت شرعية حق التدخل الخارجي؟ تمت على الأقل ثلاثة مواقف سياسية لاحقة للدولة الفرنسية أفقدت هذا “الاعلان” الفرنسي الكثير من صدقيته: 1- لم يترجم هذا “الاعلان” بمواقف سياسية تتفق وشموليته وعالميته المعلنة. فكانت الحكومة الثورية في باريس تتخوف من أن تقوم الدولة الملكية الأوروبية بمحاصرتها، فاتخذت موقفاً دفاعياً – بهذا “الاعلان” – قائماً على خلق قلاقل لأعدائها داخل دولهم نفسها لتخفيف ضغط هؤلاء عليها. فتوجّه “الاعلان” حصراً نحو شعوب أوروبا الوسطى الخاضعة للامبراطورية النمساوية – المجرية، عدوة فرنسا التقليدية التي اقتحمت مدينة باريس في بداية الثورة محذرة الثوار من المس بالملك الفرنسي! ومثل هذه المواقف لا يقتصر على فرنسا وحدها: فغالبا ما، تقوم القوى العظمى باعلان مواقف مثالية في السياسة الدولية تقع، في الحقيقة، في إطار الصراع فيما بينها، وثمة حادثتان مماثلتان بغية استغلال مبدأ حق تقرير المصير للشعوب: المثال الأول – ففي تشرين الأول / أوكتوبر 1917 أصدرت الثورة الروسية البلشفية ما أسمته “إعلان السلام” تقر فيه للشعوب الخاضعة للامبراطورية الروسية بحق تقرير مصيرها. وأعلن لينين زعيم الاتحاد السوفياتي (وريث الامبراطورية الروسية)، في مناقشاته مع روزا لوكسمبورغ والماركسيين النمساويين، عن تأييده غير المشروط لهذا الحق، وحتى للحق في الانشقاق عن الاتحاد السوفياتي الوارد في الدستور السوفياتي نفسه! الا أن هذه الدعوة كانت بالدرجة الأولى موجهة ضد أعداء الاتحاد السوفياتي من الدول الاستعمارية الكبرى، بخاصة بريطانيا وفرنسا، أي لتأييد حركات التحرير الشعبية (الشيوعية وغيرها) في المستعمرات. فالدولة السوفياتية ألغت عملياً حق تقرير المصير لسائر شعوب الاتحاد السوفياتي: حقها في دولة مستقلة وحقها في اختيار شكل نظامها السياسي. لقد أكد لينين أن الحق في الانفصال لا يتضمن الالزام بالانفصال. كما قمعت الدولة السوفياتية انتفاضات شعوب أوروبا الشرقية التي احتلها الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية. وإذا عدنا إلى بداية انشاء الاتحاد نرى أنه في 28 أيار 1918 تأسست جمهورية أرمينيا (بعد جورجيا وأذربيجان)، وبعد أسبوع في 4 حزيران 1918 اعترفت بها تركيا (بحسب المعاهدة التركية – الأرمنية)، وفي 10 آب 1920 أعلنت دولة أرمنية مستقلة بقيادة الطاشناق واعترفت بها معاهدة سيفر (SÈVRES)، ورسمت حدودها بواسطة من الرئيس الأميركي ويلسون نفسه، ولكن الغرب رفض الدفاع عن جمهورية أرمينيا بوجه “محور أنقره موسكو”، فأكرهت الجمهورية الأرمنية على القبول بمعاهدة الكسندروبول (2/12/1920) وأصبحت أرمينيا بالتالي إحدى جمهوريات الإتحادالسوفياتي وأصغرها. والمثال الثاني: – نجد الولايات المتحدة وبريطانيا، في غمرة الحرب العالمية الثانية، توقعان في 14/8/1941 “ميثاق الأطلسي” الذي جاء في مادته السادسة: “احترام حق جميع الشعوب في اختيار شكل الحكومة التي تريد أن تعيش في ظلها”. و”ميثاق الأطلسي” هذا، أسهم في تحديد مضامن ميثاق الأمم المتحدة الصادرعام1945 الذي تناول حق تقرير المصير بشكل واضح في مادتين منه: الفقرة الثانية من المادة الأولى التي تقول “بإنماء العلاقات الودية بين الدول على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بأن للشعوب حقوقاً متساوية ويجعل لها تقرير مصيرها”. ومادتها الخامسة والخمسون التي تعيد مضمون المادة الأولى إنما بإبدال لفظة “دول” بلفظة “أمم”. ولكن الولايات المتحدة اعترفت بمبادئ ويلسون حول شرعية الاستعمار وساندت قيام دولة اسرائيل على حساب حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وبريطانيا استمرت في الاحتفاظ بمستعمراتها التي لم تنسحب منها إلا بعد بدايات حروب التحرير الشعبية. 2- إن هذا “الاعلان” لم يلجم فرنسا الثورة، مع نابوليون، عن قهر شعوب أوروبا عسكرياً. 3 – هذا الاعلان تزامن مع تنامي النزعة الاستعمارية عند فرنسا ودول أوروبا، وممارستها الوصاية والانتداب على شعوب عديدة ومساندتها حكومات دول تقمع حق تقرير المصير لشعوب تسيطر عليها. مهما يكن من أمر، يمكن القول أن فرنسا نجحت باعلانها حق تقرير المصير في إيقاظ القوميات داخل الامبراطورية النمساوية المجرية، بخاصة بعد 1848 تحت ستار “حق القوميات” الذي اقتصر تطبيقه على أوروبا، وبرز بنزعات توسعيه أحيانا (المانيا، ايطاليا)، وانكماشية أحيانا أخرى، خصوصاً في أوروبا الوسطى والشرقية حيث تمّ ضبطها بواسطة اتفاق المستشاريات الأوروبية ( أو ما يسمى بالحق الأوروبي العام الذي ادعى موافقته، في بعض الظروف، على نشوء دول جديدة. ونرى بعض المفكرين الديموقراطيين مثل جون ستيوارت من يرفض هذه البعثرة للمجتمع الدولي التي طالبت بها قوميات صغيرة، والتي هي، برأيه، على درجة ما من التخلف! ونجحت أيضا بإيقاظ القوميات داخل الامبراطورية العثمانية، لا بل في أميركا الجنوبية. على الرغم من ذلك، فمبدأ “حق الشعوب في تقرير مصيرها” أصبح مبدأ سياسياً عالمياً أدى تفاعلاته وأصبح من المستحيل ضبطها بخاصة مع تقدّم وسائل المواصلات والاتصالات، أو بالأحرى مفهوماً في الأخلاق السياسية الدولية قائماً على النزعة الانسانوية، ان كان يسهل التنكر له في السياسة وتزويره عن طريق المخاتلة، واستغلاله أيضا لغير مثاله، فانه يبقى مقياساً هاما للتشهير باشتراك الشرعية الدولية، أو الاقرار بتطبيقها. حاول الرئيس ويلسون أن يواصل حياد الولايات المتحدة التقليدي في الحرب الكبرى، الا ان حرب الغواصات الالمانية أجبرتها على الانخراط فيها عام 1917 إلى جانب الحلفاء وفي كانون الثاني / يناير 1918 أعلن في احدى خطبه ما عرف “بالنقاط الأربعة عشر”، أو “مبادئ ويلسون” التي جعلها أساسا لانهاء الحرب العالمية الأولى. ففي أثناء انعقاد مؤتمر الصلح في باريس عام 1919، نجح ويلسون في تحقيق انشاء منظمة عالمية باسم “عصبة الأمم” (1920). ولكن مجلس الشيوخ الأميركي وأغلبيته من الحزب الجمهوري المعارض) رفض اقرار معاهدة الصلح، وامتنعت بالتالي الولايات المتحدة عن الاشتراك في عضوية عصبة الأمم التي جعلت مركزها مدينة جنيف السويسرية. ولكن بعض هذه النقاط الذي يشير باقتضاب وغموض ومن غير تحديد واضح إلى حق “بعض” الشعوب في تقرير مصيرها: مثل المبدأ 12: “منح الحكم الذاتي لأجزاء الامبراطورية العثمانية غير التركية، واقرار حرية الملاحة في الدردنيل”! والمبدأ 10: “منح الحكم الذاتي لأجزاء من الامبراطورية النمسوية”. والمبدأ 9: “إعادة رسم الحدود الايطالية” … فان نقاطاً أخرى، تشير على العكس من ذلك، إلى “إعادة توزيع المستعمرات” (المبدأ الخامس)! أي أن الولايات المتحدة اعترفت بمبدأ استعمار الأوروبيين لشعوب غير أوروبية على الرغم من خطب الرئيس ويلسون خلال الحرب أكثرت من الدعوة إلى حق تقرير المصير. ومن المرجح أن تكون بعض المجازر التي ذهب ضحيتها مئات الآلآف من الشعوب الصغيرة، وعلى رأسها المجزرةالأرمنية الكبرى عام 1915 – 1916 وضحاياها المليون ونصف المليون، والمجاعة التي فرضت في الفترة عينها على سكان جبل لبنان وأودت الآلآف منهم أثارت نوازع إنسانية عبر عنها بالدعوةإلى حق تقرير المصير. هذا الحق الذي حصر بالشعوب لا بالدول. إن حق الشعوب في تقرير مصيرها يتحدد مباشرة من مبدأ السيادة الوطنية (LA SOUVERAINETÉ NATIONALE) الذي اصدرته الثورة الفرنسية. وعليه فان للمحكومين أن يشاركوا في القرارات التي تخص حياتهم، ولكل جماعة بشرية الحق بأن تختار بحرية إنشاء دولتها الخاصة بها، أو الالتحاق بهذه الدولة أو تلك. فالمبدأ يعني الشعوب التي لا سلطة لها، والأمم التي لها سلطة، ويترجم حق ممارسة السيادة من غير تدخل خارجي، وحق اختيار النظام السياسي والاقتصادي الملائم، وبخاصة الحق في الاستقلال التام بعيداً عن كل وصاية خارجية. لذا، فالمبدأ هو دعوة إلى إعادة رسم حدود الدول إما بالتوسع أو بالانكماش مع امكانية خلق دول جديدة. إلا أن حق تقرير المصير الذي هو مبدأ سياسي أصبح أيضا قانونا دوليا معترفا به وهو يرد صراحة في المادة الاولى من ميثاق “الامم المتحدة”. إلا أن الصعوبات التي تعترض تحقيقه كاملا تكمن في أن المبادئ غالبا ما تكون جميلة إلى حد يجعلها غير قابلة للتحقيق، فمحاولات تطبيقه تطبيقاً كاملا تصطدم بعقبتين أساسيتين: الأولى: صعوبة تعيين وتحديد الشعب الذي ينبغي أن يقرر مصيره بنفسه. هل لكل أثنية الحق في تقرير مصيرها ؟ هل هناك حد ديموغرافي أدنى لممارسة هذا الحق؟ وإذا كان هذا الحق مقبولاً، فثمة صعوبة في تعيين الأفراد الذين يحق لهم المشاركة في تقرير المصير، مدى انتسابهم إلى الشعب المعني، والشكل الذي ينبغي أن تتخذه هذه المشاركة (استفتاء شعبي، انتخاب أعضاء برلمان…). باختصار كيف نحدد الأمة؟ والشعب؟ وهل يمكننا أن نحصل على إجماع على هذا التحديد؟ والثانية: صعوبة المسّ بحدود الدول المعترف بها رسميا، وصعوبة إعادة رسم الحدود من غير حروب، وهذه الصعوبة ناجمة عن فكرة سجالية وصراعية ومفجّرة هي: مقولة الحقوق التاريخية. ألا يؤدي تطبيق هذا الحق إلى انشقاقات وانفصالات لا نهاية لها؟ كيف تتوزع الأرض ذاتها على عدّة شعوب وجماعات قطنتها تباعاً أو معا؟ لقد شاهدنا كيف أن الذين استفادوا من هذا الحق، أصبحوا بعد ذلك من أكثر أعدائه. فثمة دول جديدة تحررّت واستقلّت، تقف بعنف، في الأمم المتحدة بخاصة، ضد كل محاولة انفصال لاحقة تقوم بها أثنية (أو شعب) تحت ستار مبدأ المحافظة على وحدة الأرض (المادة 2 ، الفصل 4، من ميثاق الأمم المتحدة). هل هذه الصعوبات تستدرج مواقف سفسطائية، شكية، حول حق تقرير المصير؟ – كلا. فثمة حالات استيلاء على أراض هي وقائع دامغة ولا يمكن في نسبية كاذبة، أتوقف عند ثلاثة أمثلة منها: قضية جنوب لبنان والبقاع الغربي: فان الاحتلال الاسرائيلي لها واضح باعتراف دولي (القرار 425). وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجولان السوري المحتل. القضية الفلسطينية حيث الاحتلال الاسرائيلي للأراضي الفلسطينية يتم من غير توقف منذ إنشاء دول اسرائيل، وبالمقابل تهجير السكان العرب من أراضيهم. والوثائق والخرائط بالأراضي الفلسطينية العربية موجودة. وثمة اجماع دولي شبه شامل (بإستثناء الولايات المتحدة واسرائيل) حول حق الفلسطينيين بأرضهم. القضية الأرمنية تتعرض لتزوير تاريخي وإنكار لحصول مجازر وتهجير وتشريد. الا أن للشعب الأرمني هوية مميزة في محيطها: كاللغة والدين والتاريخ المعروف: تاريخ المكوث الطويل في أرض وطنه، وتاريخ التهجير إلى بلدان عدة استقروا فيها واستوطنوها، وما زالوا يحتفظون بأصولهم المميزة. ان الحجم الكبير للديموغرافية الأرمنية خارج أرمينيا، قياسا على عدد أرمن الداخل، هو مسألة وطنية لا يمكن طمسها. وكذلك، فان الحجم الديموغرافي للأرمن في كراباغ (حوالي 80% )، والمتواصل تاريخيا فيها، يعطي لكراباغ هوية غالبة يصعب انكارها. إن الأجيال الحاضرة تركت أثقالا تاريخية كبيرة تجعل من حق تقرير المصير ضرورة لا بد منها، واجبا ملحا، وصعوبة ينبغي تجاوزها. علنا نستخدم وسائل لحلها مختلفة كليا عن تلك التي أحدثتها. لا بد من الحوار مع انفتاح العقل والقلب والاعتراف المتبادل، والمزيد من الانسانية في فضّ النزاعات الموروثة. * استاذ في الجامعة اللبنانية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *