كاوه بيات – كاتب ايراني 10 تموز 2006 رغم ان ارمينيا تمتلك ماض قديم وتاريخي من الناحية القومية والثقافية وتاريخ ادارة الدول، لكن تاريخ احيائها واعادة بنائها ككيان سياسي موحد ومستقل في العصر الجديد قصير . وخلال ثمانية عقود على تأسيس جمهورية ارمينيا كانت بمعظمها في ظل السيطرة السياسية لروسيا السوفياتية ، لذلك فان المرحلة الحقيقية من استقلالها تعود الى عدة سنوات بعد الحرب العالمية الاولى، وعشرة اعوام اخيرة . ورغم ذلك فان هذه المدة القصيرة والموجزة من حضور ارمينيا الجديد ككيان سياسي موحد ومستقل افرزت علامات تشير الى تشكيل وتثبيت توجه مناطقي . نحاول في هذه العجالة ان نشير الى جوانب ذلك التوجه. ارمينيا ان كانت على شكل دولة واحدة او على شكل مجموعة ولايات وامارات مشتتة كان لها دور مهم ودائم في تاريخ ايران وخاصة في سياسة ايران المناطقية وفي تنافسها مع سائر مراكز القوى في المنطقة . وفي هذا العصر الجديد الذي بدأ مع انتهاء الحرب العالمية الاولى وانهيار الامبراطوريات ، ايضا كان لارمينيا دورها واهميتها الجديدة في علاقات ايران مع دول المنطقة ، ولكن هذا الدور لم يبحث ويحدد حتى الان بشكل جدي لاسباب سنذكرها خلال البحث. فمنذ السنوات الاولى للحرب العالمية الاولى والتسلط المطلق لحزب الاتحاد والترقي على الامبراطورية العثمانية، حصلت القومية التركية على ساعد عسكري وتنفيذي لتحقيق برامجها التوسعية، اي منذ شرعت الامبراطورية العثمانية بالاستيلاء على المناطق الناطقة باللغة التركية والمجاورة في ايران والقوقاز ، وبدا ان تمدد الامبراطورية العثمانية نحو القوقاز في آسيا الوسطى ، وخاصة بعد انهيار الامبراطورية الروسية عام 1917 امرا ممكنا، برزت اهمية ارمينيا كسد اساسي ومانع بوجه هذه الحركة التوسعية. ولما كانت اجزاء واسعة من شمال غرب ايران هدفا صريحا وواضحا للتحركات السياسية والعسكرية التركية بسبب مجاورتها لحدود القوقاز وتركيا العثمانية ، ولان سكانها من الناطقين باللغة التركية ، مما كان يفرض على قادة ايران القلق تجاه خطر التتريك واعتبارها تهديدا اساسيا من باب المنطق السياسي ، كان وجود ارمينيا يشكل مانعا حقيقيا في مواجهة هذا التحرك. لكن خلال التجربتين السياسيتين الايرانيتين مع هذه التحولات خلال المرحلة الاولى من استقلال جمهوريات القوقاز خلال السنوات التي تلت الحرب العالمية الاولى ، او خلال المرحلة الاخيرة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ، فان ردود فعل الرأي العام الايراني والمسؤولين الايرانيين تجاه هذه الظاهرة كانت بطيئة جدا. السبب الاساس في بطىء التحرك والتأخر ، اي السبب الذي جعل الايرانيين لايعيرون الامر اهتماما كبيرا ، ولايتحركون بسرعة قصوى لتحديد خطر التتريك ووضع العقبات بوجهه يكمن اولا في سرعة وقوع هذه التحولات . فالسنوات التي تلت الحرب العالمية الاولى، والعقد الاخير شهدا تسارعا في الاحداث بشكل غير متوقع، وفهم ذلك والتعايش معه يحتاج الى مرور الزمان . وبغض النظر عن هذا الموضوع فان هناك عوامل سياسية وثقافية اخرى من الناحية التاريخية سنشير الى جوانب منها خلال البحث: خلال المرحلة الاولى من استقلال الجمهوريات القوقازية ، اي خلال الاعوام 1918-1921 ابدت المراسلات والمفاوضات الدبلوماسية الايرانية اهتمامها بأرمينيا كسد ومانع يقف بوجه تحقق الاتحاد التركي البلشفي خلال الايام الاخيرة من هذه المرحلة ، اي بعد سقوط جمهورية اذربيجان في نيسان 1920 واستقرار البلاشفة فيها، وظهور التحركات القومية التركية بقيادة ( مصطفى كمال وكاظم قرابكر) للاتحاد مع البلاشفة. وقبل هذا التاريخ لم تكن ارمينيا تحظى باهتمام في السياسة الخارجية الايرانية . وعندما بدأت الحرب العالمية الاولى وقامت روسيا وبريطانيا بالتدخل في الشؤون الداخلية الايرانية اجمع معظم القوميين الايرانيين والرأي العام الايراني على ضرورة هزيمة روسيا وبريطانيا ، مما اوجد تعاطفا مع اعدائهما اي المانيا والدولة العثمانية . في حين كان الارمن يجدون مستقبلهم في انتصار الحلفاء ، لذلك لم تكن هناك ارضية ايجابية بين ايران وارمينيا . كما ان تشكيل قوات مسلحة مسيحية من الاشوريين والارمن في شمال غرب ايران على يد الحلفاء بعد الثورة الروسية ، وانتشار شائعة تشكيل حكومات مسيحية في تلك المناطق تسبب في ايجاد سوء ظن ايراني تجاه تلك التحولات . اضافة الى ذلك فان الحروب والمواجهات المستمرة بين المسلمين والارمن في منطقة نخجوان منع قيام علاقات مباشرة بين ايران وارمينيا الا في فترة قصيرة جدا. وساهم هذا الامر في منع رسم مكانة ارمنية محددة في السياسة الخارجية الايرانية خلال تلك السنوات . وكما اشرنا فبعد ان استولى البلاشفة على جمهورية اذربيجان ، وعادت الحياة للقومية التركية ، وعودة قدرة الاتراك مجددا بقيادة مصطفى كمال ، عندها فقط ارمينيا، بل وبعبارة ادق عندها اضحت نهضة مقاومة الارمن في ( زانكيزور ) بقيادة ( كاريكين) تشكل بنظر المراسلات الدبلوماسية الايراينة سدا يواجه الخطر الداهم من اتحاد الاتراك مع البلاشفة . فخلال تلك البرهة كانت اهم طرق تأمين الدعم العسكري وما تحتاجه حركة المقاومة في زانكيزور تمر من ايران، واتهم حينها القادة العسكريون الاتراك المسؤولين الايرانيين وخاصة ( اقبال السلطنة ) حاكم ( ماكو) بدعم الارمن . لكن كما نعلم فان تلك البرهة لم تطل ، ومع سقوط وانهيار آخر علامات المقاومة في زانكيزور وسيطرة البلاشفة بشكل كامل على القوقاز تم نسيان هذا العنصر الارمني الذي كان يحاول ايجاد موقع له في سياسة ايران المناطقية(1) . وطالت فترة النسيان هذه لتمتد من بداية العشرينات حتى نهاية الثمانينات من القرن العشرين ، ولتقارب السبعين عاما. وخلال هذه الفترة الطويلة نسبيا لم تكن العلاقات الايرانية التركية مثالية بسبب استمرار تحركات التتريك، لكن الخطر الاكبر الذي جعل البلدين يقفان في صف واحد هو خطر التوسع السوفياتي ، وقد استمر هذا الاشتراك في المصالح العامة خلال السنوات التي فصلت بين الحربين العالميتين وبعدهما خلال فترة الحرب الباردة، وخلال هذه الفترة لم يكن عامل ارمينيا يشكل عاملا سياسيا مستقلا. لكن بعد مرور سبعين عاما ، وانهيار الاتحاد السوفياتي ، واستقلال جمهوريات القوقاز، وعودة الحركات اليسارية التي كانت قد توقفت بعد تسلط البلاشفة في اوائل العشرينات ، بدأت مرحلة جديدة من التحولات في المنطقة ، وكذلك في سياسة ايران المناطقية ، لم تكن تختلف كثيرا عن التجارب القصيرة والمضغوطة للمراحل النهائية من الاستقلال الاول للقوقاز . فمع انتهاء الحضور الثقيل والمصيري للاتحاد السوفياتي ، عادت القومية التركية ثانية لتشكل عاملا سياسيا مهما في تحولات المنطقة. ان الجهود التركية للعب دور مركز ثقل مؤثر في اطار سياسات العالم الغربي لملىء الفراغ الروسي في القوقاز وآسيا الوسطى، وتقديم خطط لترميم اقتصاد تلك المنطقة ودمجها في السوق العالمية، تشكل من الناحية الثقافية والسياسية وخاصة بالنسبة للمناطق الناطقة باللغة التركية لونا وشكلا واضحا من القومية التركية . هذا الوجه السياسي الجديد لم يظهر خلال السنوات الماضية بشكل صريح ومعلن بسبب الحضور القومي لروسيا السوفياتية، لكنه الان يشكل توجه سياسي له تأثيره المباشر على التحولات الداخلية والخارجية لمناطق كجمهورية اذربيجان ، بل يؤثر ايضا على تحولات النقاط المجاورة ، ومنها الاقسام الناطقة بالتركية من شمال غرب ايران عن قصد او دون قصد . في مثل هذه الظروف سيطرح عاجلا ام اجلا دور ارمينيا كسد ومانع مهم في وجه الوحدة الكاملة بين الحركتين القوميتين التركيتين: الاولى في قلب الاناضول والثانية في الاجزاء الاسلامية من جنوب القوقاز. وهذه المرة ستكون كسابقتها، اي كتجربة ايران في المرحلة الاولى من استقلال جمهوريات القوقاز، ويكون تشجيعها بتأخير وبطء، لكن لاسباب مختلفة عن السابق . واذا كان الامل ابان السنوات النهائية للحرب العالمية الاولى معقودا على التحالف مع المانيا والدولة العثمانية لابعاد الروس والانجليز عن ايران قد شكل عائقا بوجه القوميين الايرانيين والرأي العام الايراني من التنبه باكرا لجذور التحرك نحو تأسيس بلد جديد باسم اذربيجان في الاجزاء المسلمة من جنوب القوقاز، ومواجهة هذا المشروع في مراحله النهائية ، والالتفات الى دور ارمينيا الكامن كمانع في وجه تقدم سياسات التوسع التركية . والان بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلال جمهوريات القوقاز برز نوع آخر من الوهم الذي جعل الايرانيين يخطئون لمدة في تشخيص الديناميكية التي تسيطر على تحولات المنطقة . فخلال السنوات الاخيرة من الثمانينات كانت بقايا النظرة القائلة بأن ايران تشكل في الدرجة الاولى مركزا لثورة اسلامية واسعة، وان مهمة ايران الاساسية هي دعم الحركات الاسلامية في المنطقة ، وكانت لتلك النظرة تأثيرها على كيفية تعامل ايران مع التحولات الجارية من حولها ، لذلك كانت لمدة تنظر الى ما يجري في جمهورية اذربيجان بتفاؤل وايجابية . فالحركة القومية بالكامل لتأسيس دولة تركية في اذربيجان هي حرب ذات ميول انضمامية واضحة، وقد اطلقت اسم اذربيجان الجنوبية على اذربيجان الايرانية، قد اعتبرت في ايران جهدا وحركة ثقافية ودينية لاستعادة الهوية السابقة لمسلمي القوقاز، وانكبت جهود معظم الصحف والمراقبين في ايران للتعبير عن تلك التحركات على انها حركة اصلية لاحياء الهوية الايراينة والاسلامية وذلك عن حسن ظن وتصور ساذج. ومن النماذج الواضحة لهذا الامر ما جرى في شتاء 1989-1990 حيث نقلت وسائل الاعلام في ايران خبرا مفاده ان جماهير غفيرة من اهالي جمهورية اذربيجان قد توجهوا نحو ضفاف نهر اراكس ، وحطموا موانع الحدود، وسبح بعضهم باتجاه ايران، وفسرت هذه الحركة في ايران كميل وشوق يبديه ابناء قوميتنا القوقازيين للالتحاق مجددا بايران ، وجرى الحديث عن المناطق التي فصلت عن ايران بالقوة بان الحروب الايرانية الروسية خلال القرن التاسع عشر ، وان هذه التحركات تشكل رفضا لما حصل . في حين لو دققنا النظر في هذه التظاهرات الحدودية والمطالب والشعارات التي طرحت خلالها، لرأينا صورتها الصريحة والواضحة التي تقول ان جمهورية اذربيجان الجنوبية – او حسب تعبير القوميين الاتراك اذربيجان الشمالية – قد تحررت واستقلت ، والان جاء دور تحرير اذربيجان الجنوبية حسب تعبيرهم والتي عبرت عنها تلك الاراء والنظرات القومية التركية بأنها واقعة تحت ظلم الفرس، ولم تشهد تلك الحركة اية شعارات او مطالب تدعو لاحياء الهوية الايرانية او الاسلامية . لكن هذه المرحلة ايضا لم تطل ، فمع وصول جبهة الشعب بقيادة ايلشي بي والسياسة الايراينة الصريحة التي اتخذت ، التفت المسؤولون الايرانيون تدريجيا الى ان ما يجري في جمهورية اذربيجان خلاف لتصوراتهم الاولية، وانها ليست عودة اسلامية ، بل انها محاولات قومية توسعية وحرب انضمامية تجاه المناطق الايرانية الناطقة باللغة التركية تهدد سيادة ايران ووحدة اراضيها . وقد ظهر هذا الامر جليا عندما تعرضت اذربيجان لهزائم امام الارمن في كاراباخ وكانت ايران تمارس الوساطة بين الطرفين لوقف القتال ، فاتهمتها حكومة اذربيجان بدعم الارمن . هذه التحولات اوجدت تغييرا اساسيا في تعامل ايران مع تحولات القوقاز ، وزالت الاوهام حول التوجه النهائي لتحولات جمهورية اذربيجان وامكانية اسلمة هذه التحركات في المدى المنظور (2). وكانت اولى نتائج هذا التغيير هو اعتبار ارمينيا سدا بوجه توسع جمهورية اذربيجان وحلفائها في المنطقة ومنها تركيا رغم ان هذا التغيير والتحول لم يظهر بصراحة ، بل ظهرت اثاره في تعامل ايران مع المنطقة ، وفي سياسة ايران المحايدة تجاه ازمة كاراباخ، ثم تحول الى سياسة واعية مع المنطقة . وبعد ان سقطت حكومة ايلشي بي في صيف عام 1993 وصعود حكومة حيدر علييف المعتدلة نسبيا ، وانحسار التوتر في علاقات طهران وباكو ، لكن ذلك لم يغير في هذه السياسة . ورغم ان مباني السياسة الخارجية للجمهورية الاسلامية الايرانية لم تشهد استقرارا وثباتا كاملا بسبب التجاذب بين النظرة الشمولية الاولية التي تعتبر ايران سباقة في حركة اسلامية شاملة وليست بلدا ووطنا منفصلا عن محيطه، ثم النظرة الواقعية التالية التي تسعى لعدم استبعاد مصالح ايران الوطنية . لكن يمكننا الحديث عن بروز نظرة مناطقية جديدة تنظر الى ارمينيا وتواجدها بشكل مستقل ومقتدر كعامل يساعد في تأمين المصالح الوطنية الايرانية، ومانع امام تعاظم التحولات التي تهدد سيادة ايران ووحدة اراضيها في المدى البعيد .