تطبيق المبدأ على صعيد المسألة الارمنية

د. اميل معكرون * “حق تقرير المصير في السياسة والقانون والتطبيق” بيروت – 1997 في تاريخ الشعوب وسير العظام حواجز تعترض المسيرة. تبدأ لعبة المصير عندما يقرّر هؤلاء تجاوز النفق المظلم وانتزاع بقعة لهم تحت الشمس. إن هذا الإصرار على استرجاع وطن إن هو إلا فضيلة الشعوب المقهورة، المضطهدة، المخيبة الآمال، والأفراد الذين سلكوا درب الآلام منذ سن الطفولة. حصنّهم الألم، وسلحتهم العزيمة، فغدوا أقوياء. تجاوزوا بحر الظلمات، يحدوهم أمل الوصول إلى الشاطئ الآمن، مهما تصببّوا عرقاً أو نزفوا دماً. هناك فعل صراع البقاء، وحافز الرد على الاضطهاد والإذلال والإقتلاع والإبادة، بالعمل على إعادة احياء وطن واستعادة حق طبيعي، واجتذاب شتات توزع في القارات الخمس. دفع الشعب الأرمني، أكثر من سواه، بشدة إلى الانحناء… إلا أنه ظل مقداما. عمل بصمت. صممّ على أن ينتصب وينفض عنه الرماد، ويتعالى على الجراح. ولأن الأمر مرتبط بهيبة وطن ومصير شعب وبقايا إرث حضاري، كان المسؤولون من مدنيين وضبّاط يضعون الخطط، كل مساء، مع أحلام مواطنيهم النائمين في منازلهم أم في العراء، في الدفء أم في الصقيع، في الكفاف أم في الفاقة. ولا شك أن وحدة الشعب الأرمني، بالرغم من تعدّد انتماءاته، قد تكرست بدم الذين رفضوا الإحساس بالعار والخجل، بأنهم سيقضون، دون أن يخوضوا غمار الصمود، في ساحات المجد والشرف. أثبت هذا الشعب ان أعظم مظاهر المجد أن لا يستسلم المرء. تختصر القضية باستجابة حضارية – أخلاقية للتحديات. هناك رغبة في طي الماضي القاتم والتمديد لغد مشرق. يريد الأرمن أن يصبحوا موضع اعتزاز، أصدقاء الجميع وأعداء لا أحد. ولا شك أن حافز هذه المعاناة، إن هو إلا اصرار على ايمان هذا الشعب بحق تقرير مصيره بنفسه، بعد أن قدّم القرائن الثبوتية في اكثر من مجال. ماذا لو نستنطق الجغرافيا والتاريخ ونستشرف دور الصمود الأرمني في محاولة موضوعية لتقييم هذا التوجّه، ومناقشة هذا التصور، مفردين التفاتة خاصة لإقليم ناغورنو كاراباخ، الذي لا يزال وضعه موضع تجاذب سياسي ونزاع عسكري. ما نبتغيه هو، في الواقع، أن نبين إذا كان الشعب الأرمني قد استوفى الشروط التي تخوله ممارسة حق تقرير مصيره، بمعزل عن الدساتير والأنظمة الدولية التي لا تصمد امام الاطماع، ولا تترجم عملياً إلا في إطار مصالح متبادلة تتم بين الكبار وعلى حساب الضعفاء. إن السياسة هي بنت التاريخ، والتاريخ ابن الجغرافيا، والجغرافيا لا تتغير. ينطبق هذا القول على واقع الشعب الأرمني. فالتاريخ والجغرافيا متلازمان متفاعلان إلى حد بعيد، بحيث يتركان حيناً نتائج إيجابية، وأحياناً نتائج سلبية على مساره. فالإنسان ابن بيئته يتأثر بها عبر مراحل حياته. إن البرد المعتدل يزيد في النشاط البشري ويدفع إلى التحرك والعمل والرغبة في الاستقلال. خلافا لذلك، يعزز المناخ الحار الكسل ويثير الاهواء والغرائز. فكيف هي الحال في أرمينيا؟ 1– العامل الجغرافي أ – طبيعة أرمينيا هضبات متلاحقة، تبلغ الذروة في جبل ارارات (5172 م)، تبدو كأبراج مراقبة تطل على تركيا، إيران، أذربيجان وجورجيا. أضفت على البلاد مناخاً قارياً بارداً. تحدّت سكانها، فتربى المواطن الأرمني على العزم والعنفوان والصلابة والثبات والجرأة والاستجابة في سبيل الحرية. شكلت خزان ماء لا ينضب، فتفجرت مياهه غزيرة، فإذا الأنهار توفر مياه الشفة والري خلال فترة الصحو. هكذا آزر الجبل السهل وأخصبه. تآلفت التناقضات: برودة وحرارة، رطوبة وجفاف، مرتفعات ووديان ، خصوبة وقحط… فإذا نشأت معاطاة هادئة بين المواطن والأرض الوعرة. ضرب بمعوله وروى بعرقه فأجزلت له في العطاء بإنتاجها الغذائي. وفرت له الملاذ عند الشدائد. فإذا نحن أمام علاقة حب، أما قضية مصير، أمام علّة بقاء. تأهل الحس الوطني عنده، وتميّز بالصفاء والبراءة والقداسة. لا نفط عنده، لا مواد أولية تذكر، لا مقومات رفاهية. ما هم؟ إنها إرث الأجداد، الوديعة الكبرى الغالية. أشارت اليها الكتب المقدسة. بحسب أسطورة الطوفان: وفّر جبل أرارات لنوح وأسرته الرسو والخلاص. وأسهم تعدد هذه الهضاب والمجازات الصخرية في نشوء مجتمعات تتمتع باستقلال ذاتي، بانطوائية خاصة، فإذا أرمينيا فسيفساء، تشكل لوحة واحدة، وإن تعددت الألوان والأشكال. المعاناة الأولى تكمن إذن في الصراع مع الطبيعة وحب البقاء، في وطن يتطلب التقشف والتضحيات. ب – دور الموقع قدر بعض الشعوب أن تعيش في أوطان يشكل موقعها بالذات خطرا مصلتا على سيادتها واستقلالها. فبولونيا، على سبيل المثال لا الحصر، محاطة بثلاث دول كبرى: روسيا، بروسيا أو ألمانيا، والنمسا. بين البولونيين وجيرانهم، عوامل رفض وطلاق وتناقض إن لجهة المذهب أو اللغة أو القومية، أو التقاليد… لذلك اختفت مراراً من الخريطة، أو في أفضل الحالات فقدت مناطق لصالح احدى الدول المحيطة بها. اضطهد الروس شعبها بعد أن اضطهدهم الألمان، فذاقت مرارة الابادة والاذلال والتشريد، إلى أن استقامت الامور بعد معمودية الدم. وأما أرمينيا، فهي محور تتجاذبه ثلاث دول مجاورة: روسيا القيصرية أولا ثم الاتحاد السوفياتي لاحقا… الامبراطورية الفارسية ثم إيران اليوم، السلطنة العثمانية ثم تركيا العلمانية فيما بعد. وتعرضت سيادتها للخطر والزوال تكراراً من جراء غزوات شنتها شعوب غازية، بالنظر إلى أهمية موقعها كنقطة اتصال رئيسية في المنطقة. وهكذا كتب على هذا الشعب أن يعاني الكثير ويدفع غاليا ثمن موقعه الجغرافي. فإذا هو في صراع مع دول ثابتة مستقرة حيناً، ومع شعوب غازية دخيلة أحياناً. مع ذلك تقبل هذا الخطر الجاثم على أرضه وظل وفيا لوطنه، متمسكا به لأنه مبرر وجوده وعلة بقائه. وإذا الأرمن ثلاث فئات: فئة بقيت في الوطن الأم تقاوم الخطر وتواجه الصعوبات .فريق كبير استشهدد بفعل الاضطهاد والإبادة والتنكيل والتشريد والتجويع، فشكل فداء للوطن. جاليات توزّعت في بلاد الاغتراب مكرهة تتمسك بالوطن أكثر من أي وقت مضى. تدافع عنه بكل الوسائل المتاحة المشروعة والديموقراطية. ويندرج هذا المؤتمر بالذات، الذي جمع فريقاً من المسؤولين السياسيين والاكاديميين والاعلاميين من مختلف الاتجاهات، نقول، يندرج في هذا السياق. أولا توفر هذه المثابرة، هذا الولع الكبير بالوطن الأم، للشعب الأرمني حق تقرير مصير بلاده بنفسه، في ضوء القوانين والانظمة الدولية المرعية الإجراء؟ 2 – العامل التاريخي لا شك أن ارمينيا دفعت ثمن صراع الآخرين الطامعين في أرضها وفي أهمية موقعها. وأكثر ما عانت كان من قبل العثمانيين والروس والاذربيجانيين. فمنذ 1514، نجح العثمانيون بقيادة سليم الأول في إلحاق الهزيمة بالصفويين، خلفاء الفرس، في إيران، واجتاحوا أجزاء من أرمينيا كمرحلة أولى، ثم أكملوا احتلال أراضيها لاحقا. وتجددت الحرب بين الفريقين على فترات. إلى ان استعاد الصفويون أرمينيا الشرقية بما فيها يريفان. بدأت مسيرة الآلام بالنسبة إلى الأرمن بالتهجير. تدمير القرى والكنائس والأديرة والمنازل. ثم قسّمت أرمينيا بين امبراطوريتيين عثمانية وفارسية. ثم دخل الروس على الخط، فانتصروا أولا على الصفويين عام 1767، ثم على العثمانيين في أكثر من مواجهة. فتقاسم الروس والعثمانيون النفوذ على أرمينيا. ثم اتبعت السلطنة العثمانية سياسة التمييز الديني – العنصري مع رعاياها، ومع الأرمن تحديدا، لأنهم منقسمون أحيانا وبلدهم في تداخل مع الأكراد والشركس فلم يحظوا بدولة مستقلة على غرار اليونان عام 1830. وعبثا حاولوا تحقيق حكم ذاتي. كانوا يأملون في تأييد الروس لقضيتهم. ومع تصاعد دور القوميات في أوروبا بعد نشوء الوحدة الايطالية، فالألمانية، إثر انتفاضة الشعوب على الدول المتسلطة من جهة، واتباع سياسة اسلامية من قبل عبد الحميد الثاني من جهة أخرى، تعرض الأرمن للتنكيل والاضطهاد والاقتلاع والابادة بين عام 1894 و1896. لم يتردد السلطان في اعلان نواياه جهرا “ان التخلص من المسألة الأرمنية يكون بالتخلص من الأرمن أولا”. وعقبه الصدر الأعظم سعيد باشا بقوله “ان أنجح وسيلة لانهاء القضية الأرمنية، هي القضاء على الشعب الأرمني” قضى الكثيرون، في الوقت الذي كان فيه الأرمن يراهنون على الدعم الأوروبي، ويأملون خيراً في ما اتخذ من قرارات دولية بحق السلطنة العثمانية، لم تترجم عملياً. وعند بدء الحرب العالمية الأولى، انخرط بعض الأرمن في صفوف الجيش الروسي بحكم وجودهم في منطقة النفوذ الروسي، الأمر الذي أعطى العثمانيين الذريعة للتخلص من عدو داخلي. فبدأت عملية إبادة منظمة من قبل حزب الاتحاد والترقي الحاكم، بعد إطاحة عبد الحميد الثاني عام 1908. كان الاتحاديون يعتمدون التتركة أساس حكم ونهج ونظام. فنقل البعض وقضي على البعض الآخر من الأرمن. وبلغت ذروة التصفية ابتداء من 24 نيسان 1915. فهلك اكثر من مليون ونصف مليون. والجدير بالذكر أن المسؤولين الأتراك أعلموا بعض المسؤولين الأجانب مسبقا حول عزمهم النيل من الشعب الأرمني لأسباب احترازية وقائية، حفاظاً على وحدة السلطنة واستمرار سيادتها. وعلى سبيل المثال، صرّح كامل باشا (وزير ثم صدر أعظم) “أن سبب وجود الامبراطورية العثمانية يتطلب ان نضمن مستقبلنا عن طريق محو الشعب الأرمني… وبوسعنا إعلان الجهاد ضدّ شعب أعزل”. وأعلن طلعت باشا بدوره أمام السفير الأميركي هنري مورغنتاو، في صيف 1915، بأنه فعل خلال ثلاثة أشهر فقط ما لم يفعله السلطان عبد الحميد خلال ثلاثين سنة. وكرر أمام السفير الألماني البارون هانز فون وانغنهايم: “لم يعد للأرمن وجود”. ان طرد الأرمن ليس لأسباب عسكرية فقط، انما بهدف التخلص من اعداء الداخل، في ظل الحرب، وبأن الأتراك لن يسمحوا للتدخلات الديبلوماسية بالهائهم عن هدفهم. والملفت أن بعض الضباط الألمان لم يتوانوا في اعطاء التعليمات بقتل الأرمن باعتراف المسؤولين الأتراك. ان أعمال الابادة ثبتتها مراجع أوروبية وأميركية غير رسمية موجودة في السلطنة، من جهة، وعرائض تقدم بها أرمن الشتات طالبين الحماية لمواطنيهم. ويمكن الركون إلى تقرير الجنرال الأميركي جيمس هاربورد عام 1919 حيث أشار إلى “أكبر الجرائم فظاعة في التاريخ كله”. وتكررت عملية الابادة والاقتلاع مع مصطفى كمال بين 1919 و1926. وهكذا سقط أكثر من مليون ونصف من الأرمن، وتوزع الكثيرون في دول الشرق الأوسط وأوروبا والقارة الأميركية… نفذت هذه المجازر دون أن تتحرك الدول الكبرى، بل سهلت احيانا حدوثها، أو احجمت عن ايقافها، أو اعترضت شكلا وتخاذلت فعلا. فبالنسبة لألمانيا، تتحمل مسؤولية كبيرة، لأنها شاركت على نحو غير مباشر. نصح بعض الكتاب الألمان بالابعاد الجماعي للأمة الأرمنية. وحرص القناصل أحيانا على الدفاع عن سياسة الأبعاد والتقتيل التركية. أما روسيا، فتختصر سياستها تجاه الأرمن باللامبالاة حينا والنهج العدائي أحياناً. كانت تعارض بشدة نشوء دولة أرمنية. كما أمر ستالين بضم اقليم كاراباغ إلى أذربيجان عام 1923. ومن جهتها، اكتفت الدول الاوروبية باصدار استنكار علني، في 23 ايار 1915، تحمل فيها تركيا كامل المسؤولية. لم يتجاوز الدعم حدود التأييد النظري. 3 – حق تقرير المصير أ – في الأساس ان وثائق الحقوق الاجتماعية – السياسية للأفراد والمساواة بين البشر مهرت بالعرق والدم. اقتضى مرور فترة طويلة لكي تنضج وتمسي من الثوابت الدولية ولو نظريا. يحضرنا بالمناسبة كلام لتوماس جيفرسون واضع وثيقة الاستقلال الأميركي عام 1776: أيها المواطن أنت حر ولا يحق لك ان تستغني عن حريتك. وأكدت مبادئ الثورة الفرنسية عام 1789 على حقوق مقدسة لا يمكن لاحد ان يحرم الانسان، أي انسان منها. وشدد الرئيس الأميركي وودرو ويلسون صاحب النزعة الانسانية بأن الشعوب المحكومة هي أمانة في عنق العالم المتمدن، ولا بد من مساعدتها لكي تتطور وتتمتع بسيادتها. وقد سمح للشعوب التي لم تتمتع بعد باستقلال معترف به، ان ترسل وفودا إلى مؤتمر الصلح في 18 كانون الثاني 1919، في قصر فرساي، لكي تطرح قضاياها المحقة (أرسل لبنان ثلاثة وفود). وأشار ميثاق الأمم المتحدة بدوره عام 1945 إلى حق الشعوب في تقرير مصيرها. وكرّست الشرعة العالمية لحقوق الانسان عام 1948 حقوق المواطن في مختلف المجالات. وفي 9 كانون الأول 1948، أصدرت منظمة الأمم المتحدة قراراً يقضي باعتماد “اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها”. ثم اصدر قرارين في 26 تشرين الثاني 1968 وفي 3 كانون الأول 1973 في الموضوع عينه. إلا ان هذه المبادئ لم تتجاوز حدّ التوصيات التي لم تترجم في الواقع. ب – في التطبيق ان مسيرة الشعب الأرمني نحو حق المصير والاستقلال هي نتائج كفاحه الطويل وتضحياته الجسام. فمنذ عام 1863، نجح الأرمن في اقناع السلطان العثماني باقرار “الدستور الوطني الأرمني” الذي خوّلهم حق انتخاب مجلس وطني علماني كنائسي بالاقتراع العام. الا ان الموقف العثماني يتبدل مزاجيا باستمرار تبعا للظروف والتأثيرات المحلية والدولية. فكانت مجازر 1877- 1878. وبذلت جهود أرمنية حثيثة قبل انعقاد مؤتمر سان ستيفانو في آذار 1878 الذي اعترف بأرمينيا، واشترط بقاء الجيش الروسي في مناطق أرمينيا المحتلة، مقابل إقرار السلطنة العثمانية باصلاحات تكفل حماية الأرمن، وضمانة سلامتهم في وجه أي اعتداء.الا ان المصالح الاقتصادية والمساومات، التي تتم غالبا بين الدول على حساب حقوق الشعوب الضعيفة، أسفرت عن تراجع للدعم الدولي للمطالب الأرمنية في مؤتمر برلين 1878. وسيستغل العثمانيون انهماك الدول الكبرى بمصالحها الخاصة، فيرتكبون مجازر 1894 – 1896. ومع وصول الاتحاديين إلى الحكم عام 1908، تخوّف الأرمن من مضاعفات سياسة التتريك، التي لن تسلّم بوجود أقليات قومية تطالب بالاستقلال، لأن ذلك يعني انفراط عقد السلطنة. لذا طالب الأرمن روسيا بوضع البند 61 من معاهدة برلين موضع التنفيذ. وقد أثمرت هذه المساعي بتخويل الدول الكبرى الموقعة تنفيذ الاصلاحات الأرمنية. وما لبث الحكم العثماني ان تنصّل من هذا التعهّد، مستفيدا من حدث دولي مفاجئ: “بدء الحرب العالمية الاولى “. فتجددت عمليات الابادة والاقتلاع. ولاح أمل جديد مع انتهاء الحرب العالمية الأولى وخسارة العثمانيين إلى جانب ألمانيا والنمسا – هنغاريا، فنشط الأرمن لتكريس دولتهم ككيان سياسي مستقل، وخاضوا مواجهة عنيفة مع الأتراك وانتزعوا اعلان استقلال أرمينيا في 28 أيار 1918. وقد سلمت تركيا بذلك من خلال معاهدة باطوم وهدنة مودروس في حزيران 1918. وغطت أرمينيا مساحة 54000 كلم2. وتحققت خطوة جديدة مع مؤتمر سيفر 1920 الذي أكد على الاعتراف بالدولة الأرمنية المستقلة. وأقامت معها دول علاقات ديبلوماسية. الا ان مصطفى كمال لم يسلم بهذا الانجاز، فشنّ الأتراك هجوما كبيرا على المناطق الأرمنية في أواخر أيلول 1920. تجاهلت الدول الكبرى ما حدث، وعجزت القوات الأرمنية عن المقاومة. وتدخلت القوات السوفياتية بدورها في الأراضي الأرمنية. فارتضى الأرمن مكرهين ان تتحول بلادهم إلى جمهورية سوفياتية في أواخر عام 1920. ومع انعقاد مؤتمر لوزان عام 1923، طالب الأرمن عبر بعثتين ان يشاركوا على أساس ما ورد في مؤتمر سيفر بشأن الاعتراف باستقلال أرمينيا. الا ان الدول المؤتمرة لم تسلم بذلك، بل على اساس ان ارمينيا هي الآن جمهورية سوفياتية. وعبثاً احتج الأرمن على المقررات التي لم تشر إلى المسألة الأرمنية على الاطلاق. فدفع هذا الشعب من جديد ثمن تخاذل الدول الكبرى وتمسكها بمصالحهاعلى حساب حقوق الآخرين. وهكذا اقتصرت الآمال على جمهورية أرمينيا السوفياتية. ولم تستطع المعارضة المتمثلة بحزب الطاشناق أن تغير في الوضع القائم. وستتحول إلى جمهورية قائمة بذاتها عام 1936، بعد أن اعتبرت في السابق عضواً في الاتحاد القوقازي. وفي 1944 طالب حزب الطاشناق بتوسيع حدود أرمينيا السوفياتية وإعادة المناطق المسلوخة. وخلال انعقاد مؤتمر سان فرانسيسكو بحضور 51 دولة، طالب وفد أرمني بضم أرمينيا التركية إلى ارمينيا السوفياتية. وجدد حزب الطاشناق في 21 كانون الأول 1945 مطالبه بشأن إعادة أرمينيا التركية، اعتماد حدود 1920 التي نص عليها مؤتمر سيفر، عودة حوالي مليون أرمني، دفع تعويضات عما فعلته تركيا بالأرمن. الا ان الاتحاد السوفياتي أعلن ان لا مطالب له في تركيا، فتأكدت لا مبالاة الدول الكبرى ازاء القضية الأرمنية. استمر الشعب الأرمني عبر احزابه الثلاثة ومؤتمراته واحتفالاته السنوية بذكرى مجازر نيسان 1915 في تحريك قضيته العادلة في المحافل الدولية. وقد نجح في تسجيل خطوة مهمة في آب 1985، إذ صدقت لجنة حقوق الانسان على وثيقة تدين مجازر العثمانيين ضد الشعب الأرمني. عقبتها خطة ثانية من قبل البرلمان الأوروبي في 18 حزيران 1986 في هذا الصدد. وفي 23 أيلول 1991، أعلن استقلال أرمينيا وانضمت إلى الأمم المتحدة في بداية عام 1992. كان هذا الحدث نقطة تحوّل في تاريخ الشعب الأرمني. وقد تحقق بجهود أرمنية بحتة، بالرغم من تخاذل بعض الدول وتآمر البعض الآخر. ان هذا الاصرار على استعادة حق سليب بالمثابرة والحوار والاقناع والصمود والتضحيات أعطى زخما كبيرا لهذه القضية العادلة. استحق الأرمن عن جدارة استعادة وطنهم. كان الردّ على التحدي الأجنبي حضاريا مسالما ومقنعا. أما بشأن بعض العمليات المحدودة التي تعرضت لها مصالح تركية، فهي استهدفت في الواقع لفت اهتمام العالم وتذكيره بوجود شعب أصيل، من حقه أن يقرر مصيره، ويستعيد كرامة وسيادة وطنه. 4 – مسألة اقليم ناغورنو – كاراباغ هو أحد أقاليم أرمينيا التاريخية أو أرمينيا الكبرى التي اقتطعت منها. خصع لعملية مدّ وجزر تبعاً للظروف الدولية والأطماع المحلية. ألحقه جوزيف ستالين بأذربيجان عام 1923، بعد تهديده بإعفاء مجلس مفوضي الشعب في أذربيجان من المسؤولية، وبالتالي توقف النفط. فإذا المصلحة الاقتصادية تطيح العوامل التاريخية والجغرافية والقومية والإثنية لهذا الاقليم. وبدأت عملية مسح تاريخي وجغرافي وحضاري بعد المسح الجسدي على يد الأتراك. فتحولت عملية “الإفناء” على يد الأتراك إلى عملية “إلغاء” على يد الأذربيجانيين. قبل أن نستعرض مساعي الشعب الأرمني لتحقيق مصير هذا الاقليم، نتسائل: هل يعتبر كاراباغ أو أرتساخ منطقة أرمنية؟ إن مخترع الأبجدية الأرمنية بين 403و406م، مسروب مشطوطس فتح أول مدرسة في إقليم كاراباغ. في الاقليم أول مطبعة آلية أرمنية. هناك أكثر من 1500 معلم اثري تاريخي أرمني، آلاف “الخاتشكر” أي الصلبان المحفورة والمنقوشة على الحجر من القرن الرابع الميلادي. في حين لا يوجد أي أثر أذربيجاني تاريخي واحد. إن الممر الفاصل بين الاقليم وأرمينيا السوفياتية لا يتجاوز عرضه من 5 إلى 8 كلم. هو جزء من الوطن الأم سلخ وألحق بأذربيجان، شأنه شأن مناطق أخرى ضمت إلى جورجيا سواها. إن الأرمن موجودون في هذه المنطقة منذ أكثر من ألفي سنة. وشهد الاقليم بدء تراثهم الثقافي قبل أن تصبح يريفان مركز الثقل. شكل الأرمن في الأساس 95% من سكان الاقليم حسب احصاء 1913. ومع تزايد عملية الاستيطان من قبل الأذربيجانيين واضطرار السكان الأرمن إلى التمركز في المرتفعات، لأنها توفر ملاذا دفاعيا، تدنت النسبة إلى 80% عام 1976. بقي أن نعرف دور الشعب في المطالبة بحق تقرير مصيره في هذه المنطقة التي اعتبرت رمز أرمينيا التاريخية. • في 22 تموز 1918، أعلن ممثلو الشعب الأرمني في اقليم كاراباغ المنطقة مستقلة ذاتيا وإداريا. وصمموا على الدفاع عنها في وجه الأتراك والأذربيجانيين في آن. • احتج الأرمن على مساعي بريطانيا الآيلة إلى إقناعهم بالاعتراف بسلطة الحكومة الأذربيجانية. وشهدت مدن يريفان وتبليس وسواها مظاهرات صاخبة. • تزايد ضغط الجيش الأذربيجاني بمؤازرة تركية، فأعلن مجلس أرمن كاراباغ في 26 أيار 1920 ان الاقليم جزء من الأراضي السوفياتية. • في 7 تموز 1923، أعلن اقليم كاراباغ منطقة ذات حكم ذاتي. فإذا نحن أمام هضبة محاطة بأراضي تابعة لأذربيجان. • بين 1927 و 1945 تكررت مطالبة السكان بحقوقهم المشروعة. • في 1965، وفي ظل أجواء ضاغطة، بمناسبة الذكرى الخمسين للإبادة الجماعية، طالب أرمن الاقليم بالانضمام إلى جمهورية أرمينيا السوفياتية على أساس مبدأ “شعب واحد وجمهورية واحدة”. • تجددت المطالب في عهد بريجينيف دون جدوى. • في عام 1987، ارسلت إلى موسكو مناشدة جماعية، تحمل توقيع 100000 أرمني، تطالب بضم الاقليم إلى أرمينيا. ونشط النواب الأرمن خلال زياراتهم إلى موسكو في تحريك القضية. كانوا يتلقون الوعود… إلى أن تكشفت حقيقة النوايا بتصريح سلبي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفياتي، الأمر الذي زاد في سخط الأرمن واستيائهم. • في شباط 1988، طالبت لجنة كاراباغ الاعتراف بأرمينيا موحدّة. امتعض السوفييت بعد تزايد الضغط الأرمني، إثر مذابح ارتكبها الأذربيجانيون من جهة، وممارسة ضغوط من الشعوب الاسلامية في الاتحاد السوفياتي من جهة ثانية، خصوصا بعد دخول تركيا على الخط. • استمر التصعيد الأرمني الديموقراطي الشرعي في حزيران 1988 من خلال إعلان مجلس السوفييت الأعلى في أرمينيا ضم الاقليم إلى الوطن الأم. • اعتبر السوفييت هذه الخطوة تفردا في الرأي يقارب حد التمرد. وقد تنشأ عنه مضاعفات مقلقة، لجهة تحريض الأقليات الإسلامية على الاقتداء بالمثل. وهكذا قد ينشأ وضع جديد يطيح النفوذالسوفياتي في المنطقة. لذا ردّ غورباتشوف برفض أي تعديل جغرافي في الوضع القائم. • في 12 كانون الثاني 1989، وضع الكرملين كاراباغ تحت إدارته المباشرة كحل وسط. ثم ألغى خطوته بعد عشرة أشهر. • في أول كانون الأول، اتفق برلمان أرمينيا والمجلس الوطني لكاراباغ على اعلان الاقليم والوطن الأم جمهورية موحدّة. في هذا الوقت كان النزاع العسكري على أشده بين الأرمن والأذربيجانيين. وبعد فشل موسكو في ضبط الوضع، اتجه الفريقان المتنازعان إلى التفاوض خارج السيطرة الروسية. • في 12 أيلول 1991، اعلنت كاراباغ جمهورية مستقلة. • في 18 كانون الثاني 1992، تشكل برلمان جمهورية كاراباغ، وانتخب رئيس للجمهورية. • في 18 أيار 1992، ربط الاقليم بالجمهورية الأم بعد معارك ضارية مع الأذربيجانيين. وحتى الآن، لا تزال المسألة موضع تجاذب سياسي عسكري. إلا ان النزاع انحسر في الفترة الأخيرة بانتظار ايجاد الحل النهائي. قد تكون المعاناة المزمنة، والصمود في وجه الحملات العسكرية المتنوعة، التفاؤل الدائم بالرغم من خيبات الأمل، الاستجابة الحضارية على التحدي التوسعي… قد يكون كل ذلك السلاح الأمضى في ترسانة الشعب الأرمني.معركة مصير، أو صراع بقاء شكل سابقة، بل حدثا، في التاريخ المعاصر. كيف أن شعبا مستضعفا قاوم على مرّ السنين الحملات العسكرية والمؤامرات الدولية والتسويات الاقتصادية على حساب الأرض والانسان والتاريخ والتراث في أرمينيا. الأمبراطوريات الثلاث التي تقاسمتها دالت، وبعثت أرمينيا حيّة من الرماد. لا شك أن العثمانيين تهيبوا الوجود الأرمني بالرغم من ضآلة عدد السكان وضيق الرقعة وقلة الموارد الطبيعية. ان اسلوب الابادة والاقتلاع لم يكن مزاجيا، بل منظما لأستئصال خطر يهدد المخطط الطوراني. مع أن الأرمن كانوا اشد الشعوب المسيحية إخلاصا في خدمة الدولة العثمانية، فعرفوا باسم “الملة الصادقة”… ومع انهم قدموا للاتحاد السوفياتي منجزات رائدة في مجال الفن والتقنية وتطوير الطائرة النفاثة… بمعنى آخر لم يشكلوا عالة على أحد، بل ابتكروا السبل الكفيلة لتأمين الكفاف وتسجيل قفزات نوعية حضارية. انها القضية الحيّة العادلة في ضمير كل أرمني، وفي ضمير كل شريف أينما وجد في هذا العالم. حيثما حلوا خلقوا أرمينيا مصغرة عبر صحفهم ومدارسهم وأعيادهم ومؤتمراتهم، وحتى أسماءالساحات والشوارع التي أقاموا فيها، كما في بيروت وغيرها. ان الحس الوطني عند الشعب الأرمني ديانة ثانية، إنما زمنية تستحق التضحية. هناك حداد وطني أصاب الجميع، فاذا التربة تنضح بدم الشهادة، واذا سيمفونيا الحزن المتفائل تتفاعل في وجدان الصغار قبل الكبار، تلازم المقيم والمغترب في آن. نجح الأرمن في رهانهم واستعادوا وطنا شطب من الخريطة. أثبت هذا الشعب انه جدير بحق تقرير مصيره بالوسائل الديموقراطية… وإذا دعت الضرورة، فهو بارع في حمل السلاح بشهادة خصومه. ان تلون الروس في مواقفهم، وحياد الايرانيين وتحفظ الجيورجيين، وتعاطف العرب مع المسألة الأرمنية يؤكد أن الصراع الأرمني – الأذربيجاني لم يتسم اجمالا بالطابع المذهبي، بل يرتكز في الأساس على استعادة وطن الأجداد. ان اسلوب الإبادة والاقتلاع والنفي إن دلّ على شيئ، فعلى ان أرمينيا موجودة بالفعل. والسلطنة العثمانية لا تحارب إلا من تخشى. وفي النهاية لن تصمد إلا الحقيقة المقرونة بالحق المشروع. * استاذ في الجامعة اللبنانية

السياسة التركية والقضية الارمنية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تقرير طلعت باشا حول الإبادة الجماعية الأرمنية

أرشيف