خوجالي:لحظة الحقيقة

بقلم طاطول هاكوبيان مقتطفات من كتاب طاطول هاكوبيان “أخضر وأسود: يوميات ارتساخ” في شأن أحداث 25-26 شباط 1992 في خوجالي لما كانت العمليات العسكرية بين كاراباخ الجبلية وأذربيجان متواصلة، فإنّ العديد من الدّول والمنظّمات عرضت وساطتها من أجل تسوية النّزاع، والعمل قبل كل شيء على إحلال الهدنة. وبدت إيران بشكل خاصّ نشطة في هذا المجال، كما أبدت منظّمة الأمن والتعاون الأوروبية وروسيا اهتماماً جاداً بالموضوع. في 25 شباط 1992، أطلقت يريفان مبادرة سياسية، توجه بموجبها الرئيس تر-بتروسيان إلى رؤساء 14 دولة طالباً إليهم أن يحولوا دون تفاقم الوضع، الذي قد يؤدّي حتماً إلى حرب واسعة النّطاق. “يتعين على رؤساء الدّول والمنظّمات الدولية أن يردعوا أذربيجان من خلال شجبهم الصّارم نشر الروح العسكرية في بلادها، وشجب كل عمل من شأنه أن يقلب ميزان القوى النسبيّ في المنطقة… كما يتعين عليهم أن يحثّوا زعماء روسيا ورابطة الدول المستقلة لمنع أذربيجان بكل الوسائل الممكنة من الحصول على أسلحة من رابطة الدول المستقلة واستخدامها”. وألحّ الزعيم الأرمني على “أننا ننظر إلى مسألة كاراباخ الجبلية باعتبارها نزاعاً سياسياً داخلياً يمكن حله فقط عبر مفاوضات تجري بين الحكومة الآذرية والزعامة المنتخبة حديثاً في كاراباخ الجبلية، مع الأخذ في الاعتبار أن أرمينيا ليست لها أطماع في أراضي أذربيجان”. وحثّ تر-بتروسيان رابطة الدول المستقلة ومنظمة الأمن والتعاون الأوروبي، والأمم المتّحدة، والاتحاد الأوروبي، والمنظمات الأخرى المعنية بإقامة سلام دائم في المنطقة على تسريع الخطوات الآيلة إلى إيجاد آلية فعّالة للوساطة بشأن نزاع كاراباخ الجبلية، قد يكون في وسعها أن تؤدي إلى وضع خطة سلام شامل، تدعمها كل الأطراف المعنية. وشدّد الزعيم الأرمني على أن “تستمر تركيا في الحفاظ على حيادها وتسعى إلى تغيير موقف أذربيجان العدائي تجاه أرمينيا، وذلك باستخدام مساعيها الحميدة مع الحكومة الآذرية والقوى السياسية”. وبالمقابل “سوف تستخدم أرمينيا ما لها من تأثير على كاراباخ الجبلية لإقناع زعمائها بوقف العمليات العسكرية من جانب واحد ولمدة 24 ساعة، يسري مفعوله انطلاقاً من اللحظة التي تتحمل الحكومة الآذرية مسؤولية وقف العمليات العسكرية في المنطقة وللفترة نفسها من الوقت”. وقال في حينه المراسل الأرمني الخاصّ دافيد شاه نظاريان ان الغرب أولاً، والولايات المتّحدة خصوصاً، لم يبديا اهتماماً جاداً بموضوع الوساطة. “ان سياستهما اختلفت فيما مضى اختلافاً جوهرياً عن سياستهما الحالية، فهما لم يكونا على أهبة الاستعداد ولا أراد أن يقوما بأي دور مستقل أو فاعل، بل اقتصرت مهمتهما على النشاط داخل مجموعة مينسك. وكانت روسيا في حينه أشد نشاطاً رغم حجم منظمة الأمن والتعاون الأوروبي، وذلك من طريقين – عبر وزارة الدفاع ووزارة الشؤون الخارجية”. ومع ذلك، فإنّ الاجتماعات الأرمنية-الآذرية الرفيعة المستوى والمهمّات العديدة غير المباشرة والزيارات لم تحل دون تدارك المجازر بين الشعبين الجارين، بل كانت الأحداث الأكثر مأسوية، مهما بدا ذلك غريباً، تقع عادة في أثناء الوساطة الدولية الفاعلة. مثال أول على ذلك ما وقع في خوجالي، ومثال آخر ما جرى في ماراغا. “لحظة الحقيقة” “الضحية الأولى عند اندلاع حرب هي الحقيقة”. هذه الكلمات التي أدلى بها عضو في مجلس الشيوخ الأميركي عقب الحرب العالمية الأولى تنسحب أيضاً على حرب كاراباخ، وبشكل خاصّ على خوجالي. ما حدث بالفعل أثناء عملية الإسكان الآذرية الثانية والأوسع في كاراباخ الجبلية، وفي خوجالي والمناطق المتاخمة لها يومي 25-26 شباط 1992، حين هرب المدنيون إلى اغدام عبر الممر الذي هيأته لهم قوات كاراباغ، يظل إحدى المسائل الأكثر غموضاً وإِثارة للجدل في حرب كاراباخ. مع ذلك، هناك على الأقل أمران واضحان وهما أن قوات كاراباخ تركت ممراً، وان المدنيين تعرّضوا لألوان العذاب ووقعت المأساة. في 1994، عندما سأل الصّحافي الروسي اندريه كارولوف، وكان ضيفاً على البرنامج التلفزيوني “لحظة الحقيقة”، روبرت كوتشريان رئيس لجنة الدفاع عن كاراباخ الجبلية يومذاك، حول مأساة خوجالي، أجاب “أود أن أضع مقابل هذه المأساة مجموعة من المآسي الأخرى التي قد تتجاوز مأساة خوجالي من حيث الأهمية. إنهما مجزرتا سومغايت وباكو، وإخلاء 28 قرية أرمنية من سكانها ومأساة قرية ماراغا”. وأضاف كوتشريان: “لكن خوجالي تقتضي، ظاهرياً، شرحاً مفصلاً، أي انها كانت القرية التي وجدت نفسها في معترك العمليات العسكرية. وكما رأيت، فإنّ الأطراف المتقاتلة كانت عليها أن تتخذ جانب الحيطة والحذر عند استخدام التجمّعات البشرية لأغراض عسكرية. وهذا بالضبط ما حدث في خوجالي. كان ثمّة أربع قاذفات قنابل غراد متمركزة داخل القرية، تطلق نيرانها بصورة منتظمة على ستيبانكرت، وعندما يتحول موضع ما موقعاً لإطلاق صواريخ الغراد، فإنّه بالطبع يجتذب نيران العدوّ، لذا برز في خوجالي وضع جديد، حيث جرت معارك ضارية للتمركز فيها، وهذا ما أدى إلى معاناة المدنيين ألوان العذاب إبان تلك المعارك”. ولما سأل الصّحافي البريطاني توماس ده فال، سرج سركيسيان أن يخبره عن عملية الاستيلاء على خوجالي، أجاب وزير الدفاع الأرمني: “نفضل عدم الكلام عليها بصوت عال”. وألح سركيسيان أن أموراً كثيرة بولغ في شأنها، كما هي الحال بالنسبة إلى حجم الخسائر، وان الآذريين المتقهقرين أبدوا مقاومة عسكرية شديدة. وقال سركيسيان: “لكني أعتقد أن المسألة الرئيسية كانت مختلفة كل الاختلاف. قبل خوجالي، ظن الآذريون أن في وسعهم أن يمازحونا، وظنّوا أيضاً ان الأرمن عاجزون عن رفع أيديهم على المدنيين. أما نحن فكنّا قادرين على تحطيم هذه الصّورة التقليدية، وهذا ما جرى فعلاً. كذلك ينبغي أن نأخذ في الاعتبار ان هناك من هربوا من مجزرتي باكو وسومغايت”. “أود أن أضع مقابل هذه المأساة مجموعة من المآسي الأخرى التي قد تتجاوز مأساة خوجالي من حيث الأهمية. إنّها مجزرتا سومغايت وباكو، وإخلاء 28 قرية أرمنية من سكانها، ومأساة قرية مراغا”. ولتعزيز صدقية المزاعم التي تدّعي ان قوات كاراباخ فتحت نيرانها من دون مداراة من قرية ناخيتشفانيك الأرمنية على المدنيين الفارين وعلى فصيلة آذرية خاصّة معنية بمواكبتهم، ذكر توماس ده فال ما أدلى به رئيس الشرطة فاليري بابايان للمراسل الصّحفي الأميركي بول كوين-جادج. لقد عبّر بابايان عن وجهة النّظر القائلة ان السبب الرئيسي لهذه الأحداث يكمن في الأخذ بثأر شخصي، وان العديد من المشاركين في الهجوم على خوجالي “كانوا من سومغايت ومن مواقع أخرى شبيهة بها”. أما صامويل بابايان الذي تواجد في قلب الأحداث، فكان له تفسير آخر مختلف تمام الإختلاف. يقول: “كنت، أثناء عملية خوجالي، مكلفاً الحفاظ على جبهة اغدام وتأمين ممر آمن على امتداد مجرى النهر، بحيث يتمكن المدنيون من الخروج. إني أنجزت تلك المهمّة، فتأمن فعلاً الممر، لكن شيئاً غريباً وقع. لقد هوجمنا من جهة اغدام. وكان من المفترض أن يجتاز السكان عبر مواقعنا ويدخلوا اغدام. وساد انطباع بين القوات الآذرية المرابطة في اغدام ان الأرمن يقومون بدعابة، ولجأت القوات الآذرية إلى توسل العنف، عن قصد أو غير قصد، لست أدري. إلا اننا لم نحاول تدمير السكان. وكنّا، على العموم، نسمح دائماً للمدنيين، أثناء الحرب، أن يغادروا المكان. وكان في مقدورنا قطع الطرق وإبادة 60000 نسمة في كلباجار. غير انّنا تعمدّنا إرجاء العمليات العسكرية وأمّنا ممراً حراً. وكان الطريق الذي سلكناه دفعة واحدة تحت سيطرتنا في عام 1994”. وثبتت من المصادر الآذرية الادّعاءات بأن قوات كاراباخ أخطرت، خلال أيام متلاحقة، المدنيين في خوجالي بضرورة الرّحيل، وبأنها أمنت لهذه الغاية ممراً لهم. وتالياً شكا سلمان عباسوف المقيم في خوجالي يقول: “قبل بضعة أيام من وقوع تلك الأحداث المأسوية. حذَّرَنا الأرمن مرّات عديدة عبر الراديو من أنهم يخططون للاستيلاء على المدينة وحثونا على مغادرتها. وراحت المروحيات لفترات طويلة تحلّق في سماء خوجالي ولم يكن جلياً ما إذا كان أحدهم مهتماً بمصيرنا. واقع الأمر انّنا لمن نتلقَّ أي معونة، إضافة إلى ذلك ألقي في روعنا، عندما سنحت الفرصة لإخلاء النساء والأطفال والشيوخ، ألاّ نغادر المكان”. وفي أوائل ربيع 2005، زار المراسل الصحفي عين الله فتح اللاييف خوجالي. وكتب، بعد عودته إلى باكو مقالاً عنوانه: “لديهم وقت لمساعدة الماشية وليس لمساعدة البشر”. “قبل سنوات عديدة، قابلت لاجئين فروا من خوجالي ولجأوا مؤقتاً إلى نفطلان. إنهم أخبروني بصريح العبارة ان الأرمن قبل الهجوم ببضعة أيام حذّروا السكان باستمرار عبر مكبرات الصّوت من عملية وشيكة، وطلبوا من المدنيين مغادرة المدينة المطوقة عبر الممر الإنساني الممتد بمحاذاة نهر كركر. وفقاً للاجئين الخوجاليين، فإنّهم استعملوا الممر، ولم يطلق الجنود الأرمن المرابطون في الضفة البعيدة النار عليهم. وكان بعض الجنود المنتمين إلى مفرزة الجبهة الشعبية قد أخلوا، لأسباب مجهولة، بعض المقيمين في خوجالي باتّجاه ناخيتشفانيك التي كانت تحت سيطرة فوج اسكران الأرمنية”. واستطاع المراسل، بمساعدة الإدارة المحلية في اسكران، أن يأْلف المنطقة ويسير عبر المساحات التي مر بها سكان خوجالي. فكتب فتح اللاييف: “بعدما أَلِفْتُ جغرافية المنطقة، أستطيع القول جازماً ان ادعاءات عدم توافر ممر لا أساس لها من الصحة. الحقيقة انه كان هناك ممر، وإِلا لما استطاع سكان خوجالي، المطوّقون تماماً والمفصولون عن العالم الخارجيّ، كسر الطّوق والخروج منه. لأسباب مجهولة، تم توجيه بعض سكان خوجالي صوب ناخيتشفانيك. يبدو أن مفارز الجبهة الشعبية لم تهدف من وراء ذلك إلى إنقاذ سكان خوجالي، بل إلى ارتكاب مجزرة أثناء المسير، الغرض منه خلع مطاليبوف”. وأثناء مقابلة أجرتها المراسلة التشيكيّة دانا مازالوفا مع الرئيس الآذري عياذ مطاليبوف، بعد شهر على حصول مأساة خوجالي، طرحت عليه السؤال التّالي: “ما الّذي تود أن تقوله بصدد أحداث خوجالي، التي قدمت استقالتك عقب وقوعها؟ وكان، في حينه، قد تم العثور على جثث أناس من خوجالي بجوار اغدام. وتبيّن ان أحدهم سبق أن أطلق الرصاص على سيقانهم ليحول دون فرارهم، ثم عمد إلى قتلهم. وفي 29 شباط، صوّرهم زملائي وفي 2 آذار حين صورناهم فيما بعد، كانت هذه الجثث قد سلخت رؤوسها. فأي نوع من لعبة غريبة هو هذا؟” ثمّ قال مطاليبوف: “لقد دُبّرتْ كل تلك الأمور، على حد قول سكان خوجالي الذين جرى إنقاذهم، لتهيئة الأرضية الصالحة لحثي على الاستقالة. أنا لا أعتقد أن يكون الأرمن، الذين أبدوا تفهماً واضحاً وعميقاً لمثل هذه الأوضاع، قد سمحوا للآذريين بالحصول على دليل قاطع دفعهم إلى ارتكاب أعمال فاشستية”. “يبدو أن مفارز الجبهة الشعبية لم تهدف من وراء ذلك إلى إنقاذ سكان خوجالي، بل إلى ارتكاب مجزرة أثناء المسير، الغرض منه خلع مطاليبوف”. “وإذا ما صرّحتُ بأن المعارضة الآذرية هي التي أخطأت. فقد أُلام عندئذ بتهمة القدح والذم. إلاّ أن المشهد العام للنتائج هو على النحو الآتي: كان الأرمن، في كل الأحوال، أمنوا ممراً يتيح للمدنيين أن يهربوا. لماذا إذن سيطلقون النار؟ وفضلاً عن ذلك، هل كان آنذاك على مقربة من اغدام قوة كافية مستعدة لمساعدة الشعب؟ أم انهم اكتفوا بالموافقة على رحيل المدنيين… إن مفرزة اغدام كانت متموضعة في الجوار وملزمة بتتبع تطور الأحداث بشكل جاد. وما إن طوقت خوجالي بالدبابات حتى بات ضرورياً توجيه المدنيين خارجاً. وكنت من قبل أصدرت أوامر مماثلة في شأن شوشي – من أجل إجلاء النساء والأطفال وإبقاء الرجال وحدهم في المدينة. إنه قانون من قوانين الحرب – ينبغي إنقاذ المدنيين. وتصرفت على نحو ملائم لا لبس فيه – فأصدرت أوامر مماثلة، لكن لماذا لم يتم تنفيذها في خوجالي؟ إنه لأمر غامض بالنسبة إلي””، اضاف مطاليبوف. وفي السنوات التّالية، ما انفك مطاليبوف يلح ببعض التصويب، ان الأرمن تركوا ممراً ليستخدمه المدنيون عند الرحيل. “وفي مساء 25 شباط، نقل إلي توفيق كريموف، الوزير السابق للداخلية، ما جرى من أحداث، لكن من دون ذكر تفاصيل. قال أن بضع مئات من الناس سقطوا قتلى في خوجالي نفسها. وكان أول ما فعلته حينها هو الاتصال هاتفياً بزعيم كاراباخ الجبلية، المدعو مكرديتشيان. أنا لم أكن أعرفه ولا كنت رأيته قط، لكن عرفت اسمه. فسألته والغضب يتملكني كيف يمكن قتل ما يقارب ألف مدني في خوجالي. فأجاب بالحرف الواحد على النحو الآتي: شيء غير معقول! لم نقتل أحداً في خوجالي. عندما استولينا على خوجالي، كان سكانها قد غادروها لتوهم، ما إن فتحنا ممراً لهم. غير ان بعض السكان ما زالوا هناك، يقيمون في مبنى المدرسة المهنية. لقد أطعمناهم، رغم أننا نشكو من قلة الطعام”. لم أصدقه وطلبت منه استدعاء أرمين ايساكولوف الذي كان رئيس قسم الشرطة في حينه ليحادثني هاتفياً. فأبلغني هو أيضاً انهم هيأوا ممراً للسكان. ولهذا عندما وافقتُ حينها على إجراء مقابلة، قلت اني أُبلغت بأن ممراً قد فُتح للمدنيين، إلاّ أني لم أؤكد ماإذا كان الممر قد هيئ فعلاً أم لا. إني اكتفيت بالإشارة إلى واقعة الحديث الهاتفي… ولاحقاً قال مطاليبوف: “بالمناسبة، لقد كُتب بالأبيض والأسود في التقرير المعدّ من قبل مركز نصب حقوق الإنسان التذكاري ان المن محمدوف تم إبلاغه شخصياً بتأمين الممر”. بعد انقضاء أيام على المأساة، أفاد عمدة خوجالي المن محمدوف، “لقد علمنا أن الممر جرى تأمينه لتمكين المدنيين من الرحيل”. بلغت أنباء مأساة خوجالي مدينة باكو مساء 25 شباط 1992. وذلك قبل أن تباشر قوات كاراباخ عملياتها العسكرية. ولم يستطع وزير الداخلية كريموف ولا وزير الأمن القومي حسينوف التحقق من مصدر الخبر الكاذب. وغداة 26 شباط، اتصل عياذ مطاليبوف هاتفياً برئيس مجلس النواب في كاراباخ الجبلية، ارتور مكرديتشيان، وبمدير قسم الشرطة، ارمين ايساكولوف، للتثبت مما جرى فعلاً. وفي مساء 26 شباط، وبعدما أدرك وزير الداخلية الآذري ان خسارة خوجالي سيعني هزيمة مطاليبوف، أصدر بياناً يفيد “ان الهجوم الذي شنّه الفدائيون الأرمن باتجاه خوجالي قد صُدّ واستعادت القوات الآذرية السيطرة على المدينة”. غير ان هذا النبأ ما لبث أن دحضه مركز إعلام الجبهة الشعبية، الذي أعلن “ان عربتين محملتين بجثث سكان خوجالي وصلتا إلى اغدام”. يعتقد الصحافي البريطاني توماس ده فال ان الهجوم على خوجالي بدأ ليل 26 شباط – احتفاء بذكرى المذابح ضد الأرمن في سومغايت، والتي اقترفت في شباط 1988 لأربع سنوات خلت. وكتب ده فال يقول: “ساندت الكتيبة 366 لتابعة للجيش السوفياتي الأرمن بمعدات مدرعة. فطوّقوا خوجالي من ثلاث جهات، ثم دخل الجنود الأرمن المدينة وقضوا على مقاومة المدافعين المحليين”. ويبدو ان ثمة بعض الأخطاء. فهل يعتبر من المنطقي أن تستولي قوات كاراباخ على خوجالي في أيام ذكرى مجزرة سومغايت؟ ومن ناحية أخرى، فإن أحداث سومغايت وقعت في 27 و28 شباط، وتالياً تكون قوات كاراباغ بدأت الهجوم على خوجالي، وفقاً لعملية “الأخذ بالثأر” المنطقية في ليل 27 شباط. وقد عُدَّ الاستيلاء على خوجالي بالنسبة إلى قوات كاراباخ ذا قيمة لا تقدر بثمن. واليوم بعد انقضاء سنوات على وقف العمليات العسكرية، فإن الافتراضات المتعلقة بالتطابق التقريبي بين بعض التواريخ هي أمور لا يعتدّ بها. على كل حال، كانت خوجالي ونزاع كاراباخ بأكمله حرباً ضارية بالمعنى الأعنف للكلمة، وعليه من الذي قد يفكر في عقد مقارنات تاريخية؟ إلى ذلك، تلح المصادر الآذرية والأرمنية على السواء على أن قوات كاراباخ خططت الهجوم على خوجالي منذ وقت مبكر، لكنها لأسباب ما أرجأت تنفيذه. وكان عياذ مطاليبوف، في أواسط شباط وعشية زيارته لإيران، قد أمر حاكم شوشي، رحيم غازييف، بالمحافظة على الهدنة أثناء غيابه، والامتناع عن إطلاق النار باتجاه ستباناغرد. غير انه في غضون ساعات على سفره إلى إيران، بدأت ستيبانكرت، وبخاصة الكتيبة 366 المؤللة، تتعرضان لقصف مدفعي شرس. قامت قوات كاراباخ، رداً على ذلك، بمهاجمة خوجالي، واستمر تبادل إطلاق النار أياماً عدّة – من 14 شباط إلى 16 منه. وذكر غازييف “لقد أمطرت القذائف علينا من جهة ستيبانكرت، وكأننا في كابوس. فأصدرتُ الأمر بفتح النيران على ستيبانكرت من منظومة صواريخ غراد. ولم يتمكن جنودنا من استخدام الاحداثيات بشكل دقيق. فكانت أربعة من مدافع الغراد معطلة. وتسلق أحد جنودنا البرج [في شوسي] وأبلغنا ما إذا كانت القذائف تسقط على المعسكر أم لا. ثم صاح بغتة أن قذائف عدة أصابت المعسكر. وتم تعطيل خمس من آليات الكتيبة المؤللة”. وكان ثمّة في ذلك الوقت وبحسب غازييف، منظومة غراد واحدة فقط في شوشي، يمكن استخدامها أثناء المعارك الثابتة. وفي 16 شباط، وافتنا أنباء عن استعدادات لشن هجوم على خوجالي. ونجحت قواتنا المرابطة في شوشي في صد الهجوم بمساعدة منظومة الغراد هذه، التي استعنا بها لقصف مواقع العدو. وفي 25 شباط، تلقينا مجدداً أنباء عن محاولة جديدة لمهاجمة خوجالي. وإني أؤكد لك انه لم يكن لدينا من المؤن لمساعدة سكان خوجالي وصدّ الهجوم الأرمني. ولم نستخدم منظومة الغراد في ذلك الوقت إلاّ عندما خيم ضباب كثيف على شوشي… وفي أحد تلك الأيام، اتصلتُ هاتفياً بمطاليبوف وأحطته علماً بالخطر الذي يتهدّد خوجالي. فقال الرئيس ان وزير الداخلية، توفيق كريموف، أكد له أن الوضع ثابت. فأدركت أن فخاً نصب لمطاليبوف في خوجالي، لكن ليس صحيحاً أنني فتحت النار في ستيبانكرت خلافاً لأوامر الرئيس”. قبل خوجالي، كانت قوات كاراباخ قد سبق لها أن اكتسبت الخبرة في القيام بعمليات عسكرية في أماكن عديدة أخرى. وكتب الرئيس الدائم للجنة العلاقات الخارجية في مجلس نواب كاراباخ الجبلية، ليفون مليك-شاه ناظاروف، ان النجاحات العسكرية في دوغ وسارنشين أعقبتها انتصارات في لسنوئي (مشالي)، مالي بيليي، وأشاغي كوشتشولار (هذه العمليات خطط لها اركادي تر-تاديفوسيان، وكان فاليري بابايان القائد المسؤول) وأسفر القتال الضّاري عن تحرير ضاحية ستيبانكرت المتّصلة بـ كركزهان. “عندما سنحت الفرصة لإخلاء النساء والأطفال والشيوخ، أُلقي في روعنا بألاّ نغادر المكان”. وكتب مليك-شاه نازظاريان: “إنه لمن الصعب المبالغة في تقدير أهمية خوجالي بالنسبة إلى كلا الفريقين الأرمني والآذري. فخوجالي تفصل جنوب كاراباخ عن الشمال، ويقع مطار كاراباخ الجبلية الوحيد داخل خوجالي، وهذا يشكل الرابط الأوحد بين أرمن ارتساخ المحاصرين والعالم الخارجي. وأخيراً، استخدمت كذلك خوجالي لقصف ستيبانكرت والتجمّعات الأرمنية الأخرى”. إن عملية خوجالي خطط لها وترأسها قائد قوات كاراباخ، أركادي تر-تاديفوسيان، المعروف تحت اسم كوماندوس. وكان يفترض أن تدخل وحدات كاراباخ العسكرية خوجالي من أربع جهات: أولاً من مهتيشان، وثانياً من نوراكيوغ، وثالثاً من كاتوك، ورابعاً من جوار المطار. وتُرك، على امتداد نهر كركر، ممر للمدنيين والجنود الآذريين المتقهقرين. وكتب مليك-شاه ناظاريان يقول: “إلى ذلك، لم يكفّ الجانب الكاراباخي، قبل أسابيع من الهجوم، عن تحذير باكو وسكان خوجالي ان المدينة قد تتعرض للهجوم. وكان ذلك لتحقيق هدف مزدوج: الأول نشر الرعب بين السكان وجعل المدنيين يرحلون قبل بدء العمليات العسكرية. والثّاني هو أن غياب المدنيين يثبط عزيمة الجيش، فتتلاشى رغبته في القتال، ويفكر الجنود في كل شيء تقريباً ما عدا التعرض للقتل، وإذا أمكنه يعمد إلى الهرب. في مثل هذه الظروف، وكما بينت العمليات العسكرية اللاحقة، تكبد الجانب الكاراباخي خسائر فادحة يستحيل تصديقها”. بدأت عملية خوجالي في الساعة 11 من ليل 25 شباط، أي بعد بضع ساعات على إبلاغ مطاليبوف بمجزرة المدنيين في خوجالي. وتبين بوضوح، بعد حوالى ساعتين ونصف الساعة، عبر تبادل الرسائل الإذاعية بين موظفي الإذاعة الآذريين ان العسكريين كانوا يغادرون المدينة بصحبة المدنيين. وحدة عسكرية واحدة لا غير حصّنت مواقعها داخل مبنى من أربع طبقات وتأهبت للمقاومة، لكن بعضاً من الجنود كانوا في الساعة 4 من صباح 26 شباط قد أبيدوا، واستسلم آخرون. هل من الممكن إذن أن تكون الإمدادات قد أرسلت من خوجالي، التي كانت حينذاك تحت سيطرة الوحدات العسكرية التابعة للجبهة الشعبية؟ الواقع أن خوجالي كانت محاصرة من الجهات الأربع، ولم تكن تحصيناتها الدفاعية، من وجهة النظر العسكرية، منيعة. وكانت الاتصالات بين خوجالي والتجمّعات السكنية الأخرى في أذربيجان، وفي اغدام بنوع خاصّ، مؤمنة من طريق المروحيات. وحلّق الطيران للمرة الأخيرة باتجاه خوجالي، قبل سيطرة قوات كاراباخ على المدينة، في 13 شباط. وبقي في خوجالي منذ 25 شباط، وفق تقديرات مختلفة، ما يقارب الـ 3000 مقيم، وكان قائد فصيلة طوارئ المطار، عارف حاجييف، مكلفاً حماية المدينة بمساعدة 160 جندياً من جنوده. ومن ناحية أخرى، تستحيل معرفة سبب عدم انسحاب المدنيين، بينما كانت ظاهرة سقوط خوجالي واضحة تماماً في نظر الجانب الآذري. لعل أحد الأسباب الكامنة وراء ذلك يعود إلى الوضع الداخلي المضطرب في أذربيجان. إذ لم تكن هناك قيادة عسكرية موحّدة، على الرغم من أن القوات الآذرية المحتشدة في اغدام كان بوسعها تقديم الدّعم للمدافعين عن خوجالي. وفيما يلي مقتطف من مقابلة أجريت مع رحيم غازييف: “لماذا لم يتأمّن الدعم لسكان خوجالي في وقته؟” “منذ 25 شباط، كان هناك 12 دبابة ت 72، و12 آلية مؤللة، و4 قاذفات صواريخ غراد، و40 مدفعاً و2500 جندي في اغدام. كل هذه القوى، كان من الممكن توجيهها لحماية خوجالي، لكن لم يتم تقديم أي دعم لها”. “لماذا لم يتم ذلك؟” “لا أعلم. كان يكفي فتح النار من منظومة غراد. كان ثمّة قناص باستطاعته إصابة أي هدف. هل يمكنك أن تتصور ذلك؟ لكن ثبت أن منظومة الغراد اختفت”. “ان صح ظني، فإن تامرلان غازييف وفهمي حاجييف كانا في اغدام في ذلك الحين…” “أجل. وكان طاير علييف القائد المسؤول عن جبهة كاراباخ كاملة. وكنت أنا عُينتُ قائداً عسكرياً لشوشي، غير أني علمت بذلك القرار من خلال برنامج تلفزيوني. لم تكن في حوزتي وثائق، لا خاتم ولا أي عقد حسب الأصول”. أثناء عملية خوجالي، كان طاير علييف وزير الدفاع، وقد تولى هذا المنصب لفترة قصيرة من الزمن. الحقيقة أن أربعة وزراء للدفاع تعاقبوا على هذه الوزارة في غضون ستة أشهر من عامي 1991-1992، وهذا يعتبر أمراً لا معقول بالنسبة إلى دولة تخوض الحرب. كان وزير الدفاع الأول هو الجنرال في الجيش السوفياتي فالح برشدلي. ثم ما لبث أن استبدل بتاج الدين مهتياف، الذي أجبر على الاستقالة عقب هزيمة كارنتاك، وأستعيض عن مهتياف بـ طاير علييف. وفي 17 آذار، عين رسيم غانرييف وزيراً للدفاع بعد عملية خوجالي واستقالة الرئيس مطاليبوف. كتب مليك-شاه نظاريان يقول: “بعد الاستيلاء على خوجالي، عثر جنودنا على 11 جثة لمدنيين، ما عدا، طبعاً، الخسائر التي لحقت بالعسكريين الآذريين. وقد نقل إلى ستيبانكرت بضع مئات من المدنيين – 734 شخصاً على وجه الدقة – كان معظمهم من الأتراك المسخيت. واعتباراً من 28 شباط، سلم جميع سكان خوجالي الأسرى إلى الجانب الآذري”. ومنذ 1989، أعيد إسكان الأتراك المسخيت في خوجالي. وكانت أذربيجان قد أعادت تدريجاً إسكان نحو ألف تركي مسخاتي أبعدوا من أوزبكستان إلى خوجالي، مما أدى إلى زيادة عدد سكان المدينة زيادة مصطنعة. وإذا كان في خوجالي، في 1989، حوالى 1600 نسمة، فإن عددهم ارتفع في 1991 إلى 6300، ومنحت خوجالي في ذلك العام نظام مدينة. يقول المحلّل السياسي دافيد بابايان أن خوجالي كانت، بحسب إحصاء 1926، قرية أرمنية بكاملها يقطنها 888 نسمة. ويقول بابايان: “في خمسينات القرن الماضي، استهل الآذريون عملية الإسكان، وفي أوائل السّتينات نشأت قرية آذرية في خوجالي بجوار القرية الأرمنية. وبدءاً من 1977، لم يعد أحد يتحدث عن خوجالي الأرمنية إطلاقاً، بينما أصبحت خوجالي، منذ 1989 قرية آذرية برمّتها، وبلغ عدد الآذريين المقيمين فيها 1661 نسمة”. لا شك أن المأساة الإنسانية الكبرى، في أيام حرب كاراباخ، كانت خوجالي. إذا لم يتفق، في أثناء أية عملية عسكرية أخرى، أن تكبد مثل هذه الأعداد الضّخمة من المدنيين، أطفالاً كانوا أو نساء، ما تكبدوه من ألوان العذاب في خوجالي. فما زال العدد الفعلي للقتلى موضع جدال إلى اليوم – حيث قدمت أرقام متضاربة، وما انفكت الجهات الحكومية في باكو تستغل مأساة خوجالي لأغراضها السياسية الخاصّة. كم من القتلى لقوا مصرعهم في خوجالي؟ أرقام مختلفة عُرضت في أوقات مختلفة – فتراوح العدد بين 200 إلى أكثر من 600. ويعتبر توماس ده فال أن الرقم المعلن بالاستناد إلى أعمال البحث والاستقصاء التي قام بها مجلس النواب الآذري، هو 485 شخصاً، وهو الأقرب إلى الواقع. ويضم هذا العدد جميع الأشخاص الذين قتلوا أثناء عملية خوجالي، بمن فيهم الذين قضوا من البرد وهم يلوذون بالفرار. وقال نامق علييف، أحد أعضاء اللجنة النيابية، لفريق ” هلسنكي وتش” في نيسان 1992، أن 213 مقيماً في خوجالي قد دفنوا في اغدام. وأكّد موظف حكومي آخر، هو آيدين رسولوف، لأعضاء الفريق نفسه أن عدد المدنيين القتلى تعدى الـ 300 نسمة – عدا أولئك الذين قضى عليهم البرد وهم في طريقهم إلى اغدام. وفي 27 شباط 1992، أبرز إمام مسجد اغدام للصحافي الأميركي توماس غولتز لائحة تتضمن 477 اسماً لأشخاص قتلوا. ونشرت صحيفة “أوردو” الآذرية، في السنة عينها، لائحة بأسماء 636 شخصاً لقوا مصرعهم في خوجالي. وأصدر مجلس نواب كاراباخ الجبلية، في 4 آذار 1992، البيان التالي: “ان شل مواقع الأسلحة العائدة للوحدات الآذرية المسلحة وفتح المطار الوحيد في كاراباخ الكائن بالقرب من قرية خوجالي… أثارا ردة فعل واسعة النطاق في وسائل الإعلام الآذرية والأجنبية. وقد عمدت الوحدات المسلحة التابعة لجيش أذربيجان الوطني، والمرابطة في خوجالي إلى سد الطرق التي تربط منطقة اسكران في كاراباخ الجبلية بعاصمة الجمهورية بشكل كامل، وقصفت بصورة منتظمة ستيبانكرت والتجمعات الأرمنية الأخرى بالمدفعية الثقيلة. وكان من الممكن التغلب على المجاعة الناجمة عن الحصار من طريق تشغيل المطار وحسب. ورغم أن قوات الدفاع الذاتية في كاراباخ تركت ممراً لسكان خوجالي يتيح لهم مغادرة منطقة العمليات العسكرية، فإن شريحة من المدنيين لم تغتنم هي الأخرى هذه الفرصة، وإنّما تمت مواكبة هؤلاء جميعاً – وكانوا حوالى 20 شخص – بناء على رغبتهم ومن دون أي شرط مسبق إلى الجانب الآخر من الحدود. ومرة جديدة أعلنت رئاسة مجلس كاراباخ الجبلية الأعلى استعدادها لحل جميع المشاكل القائمة بين كاراباخ الجبلية وأذربيجان بالطرق السلمية وحدها، وحول طاولة مفاوضات”. ماذا صور جنكيز مصطفاييف؟ التقط المصور الآذري، أولاً في 29 شباط، ثم في 2 آذار، سلسلة من المشاهد المتعاقبة على مقربة من اغدام. وكانت لقطاته تمثّل الجلسة الاستثنائية المنعقدة في البرلمان الآذري. والمنطقة التي قام مصطفاييف بتصوير الجثث فيها كانت خاضعة للسيطرة الآذرية، وبعبارة أدق، لسيطرة وحدات الجبهة الشعبية المسلّحة – وهذا ما يمكن رؤيته من خلال المشاهد الملتقطة. الواقع أن الجثث كانت مشوّهة قبل أن يهم بتصويرها للمرة التالية في 2 آذار. فأبلغ مصطفاييف مطاليبوف بذلك. وكان الرئيس مطاليبوف هو الذي أرسله بالمناسبة، لتصوير المشهد. واستناداً إلى بعض الأخبار، حذّر مطاليبوف قائلاً: “جنكيز، لا تتفوّه بكلمة لأي كان بأن شيئاً ما غير صحيح وإلاّ قتلوك والمنطقة التي شوّهت الجثث فيها كانت على بعد بضع مئات الأمتار من مواقع الجبهة الشعبية وكانت تحت سيطرة القناصة. ما كان بإمكان مصطفاييف، بكل بساطة، أن يصوّر في تلك المناطق لو أنها كانت تحت سيطرة قوات كاراباخ. بعد بضعة أشهر، قتل مصطفاييف فيما كان يصوّر، على جري عادته، داخل قطاع عمليات عسكرية خاضع لسيطرة وحدات الجبهة الشعبية العسكرية. وما زال سبب مقتله موضع جدال. الجانب الكاراباخي يلحّ على أن مصطفاييف ذهب ضحية خوجالي. فقد اعتقد كل من مطاليبوف ومصطفاييف بما لا يدع مجالاً للشك أن الجبهة الشعبية حاولت الاستيلاء على السلطة عبر تأكيد تفوقه في مأساة خوجالي. هذا ما جرى بعد عملية خوجالي مباشرة. وأكثر من ذلك، فإن سلسلة المشاهد التي التقطها مصطفاييف استخدمت لتوجيه التهمة إلى مطاليبوف. واجتمع عشرات الآلاف من المحتجين قبالة مبنى البرلمان الآذري للمطالبة باستقالة عياذ مطاليبوف. وأثناء الجلسة الاستثننائية للمجلس الأعلى الآذري، المنعقدة في 5 آذار 1992، قدمت الميرا كلفاروفا استقالتها. وانتخب يعقوب محمدوف، مدير القسم الطبي في جامعة باكو، رئيساً للبرلمان. فحاصر المحتجّون مبنى البرلمان، واحتجزوا أعضاء المجلس النيابي في داخله. وصف مطاليبوف الأحداث الجارية بأنها “عمل انقلابي”. ثمّ استقال في 6 آذار، وأصبح محمدوف الرئيس الفعلي ريثما يتم انتخاب رئيس جديد. وفيما يلي كيف شرح مطاليبوف تلك الأحداث: “كانت استقالتي قسريّة. وأنا لم أكن أنوي التخلّي عن السّلطة، لكن حين ثبت لي أن كل شيء قد خطط له بدقّة، وأن اليسار واليمين قد تآلفا ضد الرئيس، قررت عندئذ عدم إثارة مواجهة”. واعتقد الرئيس المنسحب أن مسألة كاراباخ ستكون عقب استقالته، موضوع تكهنات في الصّراع السياسي الداخلي، وسيغدو امتداد الحرب المتنامي عملية غير قابلة للتراجع عنها. “لقد عابت الجبهة الشعبية علينا عجزنا عن حلّ مشكلة كاراباخ. فهاهم الآن يمنحون الشعب ضمانات على أنهم قادرون على حلّها. هنالك طريقان اثنان: إما المزيد من الأعمال الحازمة، إذ أنني تعرضت للّوم بسبب التردد، وإما التسوية… ولنفترض أنهم نجحوا في توحيد جميع قوانا. في هذه الحال، من الجائز أن يتحول كل ذلك إلى حرب تمتد على نطاق واسع، من غير أي وضوح في ما يخص من سيكون المنتصر، بالرغم من أن أحداً في أذربيجان لم يعد يرغب في القتال على الإطلاق”. الحقيقة حول الأحداث في خوجالي البينات من خلال المصادر الآذرية ملحق للكتاب المرسل من قبل الممثل الدائم لأرمينيا بتاريخ 8 آذار 2005، وموجه إلى الأمين العام للأمم المتّحدة ظلّت السلطات الرسمية في باكو، على مدى تسع سنوات بعد الأحداث التي وقعت في خوجالي تؤجج بعناد الهستيريا المناهضة للأرمن، وذلك بهدف تزوير الأحداث الحقيقية والإِزراء بالشعب الأرمني أمام أنظار المجتمع الدّولي. إنّ الأحداث في خوجالي، التي أدت إلى مقتل مدنيين، كانت وحسب، حصيلة الدسائس السياسية والصراع من أجل السلطة في أذربيجان. وقد انعكست الأسباب الحقيقية بشكل مقنع جداً في تقارير الآذريين أنفسهم – بصفة مشاركين في ما حدث وشهود عيان – كذلك الأمر كأشخاص يعرفون القصة الداخلية الكاملة للأحداث الجارية في باكو. واستناداً إلى الصحافي الآذري م. سفراوغلي، “احتلت خوجالي موقعاً استراتيجياً بارزاً. واعتبرت خسارة خوجالي فشلاً سياسياً ذريعاً لمطاليبوف”(1). وكانت خوجالي، مع شوشي، واغدام، أحد المعاقل الرئيسية التي كانت ستيبانكرت، عاصمة جمهورية كاراباخ الجبلية، تتعرض منها للقصف باستمرار ومن دون رحمة طوال أشهر الشتاء الثلاثة، وذلك باستخدام المدفعية والصواريخ وقاذفات القنابل واتخاذ المدن أهدافاً لها. إنّ إخراج مرابض الأسلحة في خوجالي من دائرة القتال وتحرير المطار كانا الطريقة الوحيدة لسكان جمهورية كاراباخ الجبلية من أجل تأمين البقاء المادي لأناس حكمت عليهم أذربيجان بالهلاك المبرم. كما ان قصف ستيبانكرت اليومي من خوجالي المجاورة اختطف أرواح السكان المساكين، أطفالاً ونساء وشيوخاً. وقد شدّد عياذ مطاليبوف، رئيس أذربيجان السابق، على “أن الانقضاض على خوجالي لم يكن هجوماً مفاجئاً(2). ففي مقابلة مع جريدة “نيزافيزيمايا غاذيتا” صرّح أن “ممراً أبقي سالكاً من قبل الأرمن كي يتمكن الناس من الرحيل”(3). غير أن رتلا من المدنيين تعرّضوا للنيران من جانب الجبهة الشعبية في أذربيجان عندما اقتربوا من حدود مقاطعة اغدام. وهو ما أكّده فيما بعد عياذ مطاليبوف، الذي ربط هذا العمل الإجرامي بمحاولات المعارضة لإقصائه من السلطة، وأنحى باللوم عليها كاملاً جراء ما حدث. وأكّد مطاليبوف في مقابلة أجريت مؤخراً مع مجلة “نوفويه فريميا” التصريح الذي أدلى به لتسعة أعوام خلت، وهو “ان قصف سكان خوجالي كان قد دبّر، طبعاً، من قبل أحدهم للسيطرة على أذربيجان”(4). مثل هذه التأويلات ووجهات النظر المتعلقة بالأحداث الجارية في خوجالي غدت معروفة لأن العديد من الأشخاص الآذريين الرسميين من ذوي الرتب العالية ومن الصحافيين أيضاً أدلوا بها. بالإضافة إلى ذلك، هناك النتيجة التي توصل إليها الصحافي الآذري عارف يونوسف، والتي تختلف إلى حدّ ما عن التصريحات السابقة، ومفادها “ان المدينة وسكانها قد تمت التضحية بهم عن قصد لتحقيق غاية سياسية – تقضي بإبعاد الجبهة الشعبية في أذربيجان عن الاستيلاء على السلطة”(5). حتى في هذه الحال، يشار إلى الآذريين أنفسهم بأنهم هم مرتكبو المأساة. أما ما نتج عن خيانة سكان خوجالي من قبل مواطنيهم ذوي الرتب العالية فهو معروف تمام المعرفة. غير أن الدعاية الآذرية نشرت في العالم أجمع “فظاعات الأرمن”، مزودة محطات التلفزيون بصور رهيبة لحقل مغطّى بحثث مشوّهة. وادّعت خوجالي أنّها كانت ضحية “ثأر الأرمن لسومغايت”. وأدلى تامرلان كاراييف، وهو رئيس المجلس الأعلى في جمهورية أذربيجان، أدلى في الوقت عينه بشهادته معلناً “أن المأساة ارتكبت من قبل سلطات أذربيجان، ولا سيّما من جانب شخص رفيع الرتبة”(6). انّ الصحافية التشيكية جانا مازالوفا، التي ضُمت جراء سهو ارتكبه الاداريون الآذريون إلى فريقي ممثلي الصحافة كليهما لمشاهدة الجثث المشوّهة على أيدي الأرمن”، لاحظت فرقاً أساسياً في كلا الحالين. فعندما توجّهت مازالوفا إلى المكان عقب وقوع الأحداث مباشرة، لم تر أي أثر للتمثيل بالجثث بطريقة بربريّة، لكن بعد يومين وُضعت تحت أنظار الصحافيين جثث مشوّهة جرى “اعدادها” مسبقاً لالتقاط الصّور. من قتل إذن سكان خوجالي المسالمين ومثّل بعد ذلك بجثثهم، إذ لم تقع المأساة في قرية أستولى عليها الأرمن أو على الطريق المؤدّية إلى الممر الإنساني، وإنّما وقعت على مشارف مدينة اغدام – وفي منطقة خاضعة تماماً لسيطرة الجبهة الشعبية في أذربيجان؟ إنّ المصور الآذري المستقل جنكيز مصطفاييف، الذي قام بالتقاط الصّور في 28 شباط وفي 2 آذار 1992، ساورته الشكوك حول الرواية الرسمية، واستهل تحرياته الشخصية. وتقرير الصحافي الأولي المرسل إلى وكالة أنباء موسكو D-press في شأن إمكان ضلوع الجانب الآذري في الجرائم المرتكبة، كلّف الصحافي حياته: فقتل على مقربة من اغدام، في ظروف ما زالت غامضة. وأقرّ رئيس أذربيجان الحالي حيدر علييف بأن “زعماء أذربيجان السابقين هم أيضاً مسؤولون” عن الأحداث التي جرت في خوجالي. وسبق له، بحسب وكالة بيليك-دنياسي، أن علق في نيسان 1992 على الأحداث على النحو التالي: “ان المجزرة سوف تكون لمصلحتنا، ونحن لن نستطيع التدّخل في مجرى الأحداث”. فواضح للملأ “في مصلحة” من كانت المجزرة. وكتبت “ميغابوليس-اكسبرس: “لا يمكن إنكار ان الجبهة الشعبية في أذربيجان إذا كانت قد حدّدت حالياً أهدافاً بعيدة الأثر، فإن هذه الأهداف تحققت. لقد تورّط مطاليبوف فأطيح به، وصدم الرأي العام العالمي، وصدّق الآذريون وإخوانهم الأتراك ما سمي “إبادة الشعب الآذري في خوجالي”(7). والآن تفصيل مأسوي آخر. فقد اتّضح منذ وقوع الأحداث أن 47 رهينة من الأرمن سبق أسرهم في 26 شباط في مدينة خوجالي “المسالمة”، وهي واقعة تخلّفت وسائل الإعلام التي “غطت” المأساة عن ذكرها. وبعد تحرير خوجالي، عثر هناك على 13 رهينة فقط (منهم 6 نساء وطفل واحد) أما الـ 34 الآخرون فقد نقلهم الآذريون إلى مكان مجهول. والشيء الوحيد الذي عرف عنهم هو انهم اقتيدوا من القرية ليلة تنفيذ العملية، ولم يبلغوا اغدام قط. وليس ثمّة إلى اليوم أي خبر عمّا جرى لهم أخيراً، أو ما يؤكد انهم مازالوا أسرى الآذريين. أما أولئك الذين أرادوا، بطبيعة الحال، أن يحدثوا انطباعاً بأن الجثث قد شوّهت من قبل الأرمن، فإنّهم هم من شوّهوا أولاً جثث الرهائن الأرمن أنفسهم، بحيث تعذر لاحقاً التحقق من هويّتهم. لهذه الغاية بالتأكيد انتزع اللباس الخارجي عن العديد من الجثث. ولهذا السبب بالضبط كانت جثث الضحايا المساكين ألحقت بها أضرار جسيمة حتى انه لم يعد بالإمكان التعرّف إليها. في ضوء الوقائع الآنفة الذكر، يمكن القول وبملء الثّقة إن قتل السكان المساكين في قرية خوجالي وقتل الرهائن الأرمن المأسورين هنالك، كان من عمل الجانب الآذري الذي اقترف هذه الجريمة بحق الشعب بالذات، باسم الدسائس السياسية والصراع من أجل السلطة.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *