ذكريات المغتربين السوريين حول الابادة الارمنية

د. نورا اريسيان* “غوائل الارمن في الفكر السوري” دمشق – 2002 لقد تحولت معاناة الشعب الأرمني إلى مادة كتابية وموضوع بنيت على أساسه دراسات وإبداعات أدبية- كالرواية والقصة والمسرحية – لدى بعض الدارسين والمؤلفين السوريين. وقبل البدء بدراسة إجابات المفكرين والتجوال في ذكرياتهم وآرائهم لا بد من أن نذكر أن موضوع تواجد الأرمن في سوريا بعد عمليات تهجيرهم وإبادتهم قد أضحى موضوع بحث اختصاصي أيضا. فتجد عنوان “الأرمن في الإقليم السوري” وهي رسالة جامعية للباحث الجغرافي وجيه خيمي، درس من خلالها مواطن الهجرات الأرمنية وتوزعهم داخل المدن وعددهم، وكذلك نشاطهم الاقتصادي والأحوال الاجتماعية والثقافية.إذ يفسر في البحث أنه في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هاجر عدد كبير من الأرمن إلى سوريا إثر المذابح وسياسة البطش التي اتبعتها الدولة العثمانية سواء في عهد السلطان عبدالحميد أو في عهد جمعية الاتحاد والترقي. ويشير وجيه في بحثه إلى الهجرات التي رافقت تلك المذابح، ويقول أنه في عام 1915 وبعد قانون التهجير أجبر الأرمن على ترك قراهم ومدنهم والاتجاه نحو سوريا فمات أكثرهم “نحو مليون” ووصل الباقون على قيد الحياة إلى المدن والقرى السورية على أمل أن يقضي السكان عليهم، ولكن الناس هناك ساعدوهم وحدبوا عليهم. وفي عام 1916 أعدم جمال باشا 300 من رجال الفكر والثقافةالأرمن في إسطنبول، وفي عام 1922 هاجر أرمن كيليكيا إلى سوريا تاركين بيوتهم وأملاكهم، وأخيرا وفي عام 1938 هجر الأرمن من اسكندرونة وعددهم 130 ألف. ويخلص إلى أن عدد الأرمن انخفض في العالم خلال 7 سنوات 1,750,000 نسمة بدلا من أن يتزايد وذلك بسبب المآسي والمذابح التي تعرضوا لها في تلك الفترة 1915 – 1922. إلى جانب هذا، سنورد مثال الدراسة التي قام بها الباحث عمر صليبي من دير الزور عند دراسته “لواء الزور في العصر العثماني إداريا وسياسيا”. حيث تطرق إلى موضوع تواجد الأرمن في اللواء والمجازر الأرمنية. فيفسر أن عوامل النهوض القومي التي نجمت بتأثير المفاهيم الأوروبية التي سادت في القرن التاسع عشر في العالم الغربي والعثماني الشرقي والتي أدت إلى المطالبة بالحقوق القومية للأرمن وغيرهم ونتيجة للضغط الخارجي بضرورة فتح الأسواق العثمانية أمام أوروبا بالإضافة إلى التعاطف بين الأرمن والغربيين الفرنسيين والانكليز المسيحيين المؤيدين لحقوقهم ضدالأتراك والالمان المتحالفين معهم كانت سببا وراء الأحداث الأرمنية. ويلاحظ بروز الدور اليهودي في تسيير دفة الحكم التركي وخاصة بعد عام 1908 وتسلم الاتحاديين الحكم. ويتساءل:” فهل نجافي الحقيقة إذا قلنا أن المذابح الكبرى كانت بتدبير اليهود الاتحاديين وأنها تمتد بعد خلع عبد الحميد سلطان العثمانيين”. ويصف صليبي المجازر بأنها إحدى المآسي التي عاشها البلد. ويقول بأنها كانت تجري على فترات طويلة، مما أدى إلى نزوح العديد من الأرمن إلى سوريا ومنها لواء الزور. واتخذ مسار القوافل للسوقيات التي تمت من مناطق أرمينيا نحو سوريا عدة محاور. جرت لهم مذابح كبرى على يد الأتراك والأكراد التابعين للجيش العثماني. أما من الناحية الجغرافية فنجد دراسة هامة للمؤلفين أنور نعمان وعزة النص بعنوان “أقليمية سوريا والحياة البشرية فيها”. ومن ضمنها دراسة “الجغرافيا البشرية لسوريا” للباحث ورئيس مجلس الوزراء السوري سابقا د. عزة النص. تحت عنوان “الأقليات الدينية في سوريا” يبين الباحث تعداد الطوائف في الجمهورية السورية عام 1951 كما جاء في مجموعة الاحصاءات الرسمية لعام 1952 كما يلي .- المسيحيون: روم ارثوذكس 160782 ارمن ارثوذكس 109005 ارمن كاثوليك 19219 مجموع المسيحيين: 460452 وعندما يتحدث عن الطائفة الأرمنية يبين أنهم يشكلون أقلية عرقية ودينية. وأن موطن الأرمن الأول هو أرمينيا في المنطقة الجبلية الواقعة بين سهول القوقاز الشمالية وهضبة الأناضول والبحر الأسود وشمال العراق. وبعد شرح مفصل عن تاريخ الأرمن ولغتهم واحتلال روسيا لجزء من أرمينيا وموقف الأتراك العدائي من الأرمن، يبين أنه أثناء الحرب العالمية الأولى قامت المذابح من جديد بين الترك والأرمن ونفى الأتراك قسما من الأرمن إلى شمال العراق وسورية. ثم ينتقل إلى توضيح عدد الأرمن بعد نزوحهم وهجراتهم. “ففي مصر وسوريا وفلسطين وجدت جاليات أرمنية منذ عبد الحميد وذهب كثير من المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأميركية. أما بعد الحرب العالمية الأولى فالهجرة الأرمنية اتجهت خاصة إلى سوريا وفرنسا. في عام 1915 كان الأرمن موزعين في العالم كما يلي: الارمن في ارمينيا: تركيا 2380000 روسيا 1987000 فارس 140000 المجموع 4507000 الارمن خارج ارمينيا: امريكا 100000 مصر 40000 بلغاريا 40000 الهند 20000 النمساوهنغاريا 20000 رومانيا 30000 البلاد الاخرى 8000 المجموع 258000 المجموع العام للارمن: 4765000 وبعد الخسائر التي تكبدها الارمن اثناء الحرب العالمية الاولى هبط عددهم الى 3004000 عام 1922 موزعين كما يلي: تركيا 281000 اوروبا 206000 روسيا 2195000 امريكا 128000 سوريا مصر وايران 194000 ولكن مصائب الأرمن لم تنته عند هذا الحد بل اصطدموا مع الأتراك الكماليين وهاجر قسم كبير منهم إلى سوريا عام 1922 – 1929″. ثم ينتقل ليعطي صورة تفصيلية عن توزع الأرمن في سوريا. ” توزيع الارمن على المحافظات عام 1951 ” المحافظة ارمن ارثوذكس ارمن كاثوليك حوران 33 109 السويداء 385 152 الفرات 1915 676 الجزيرة 9150 3339 حلب 71651 10975 اللاذقية 6037 970 حماه 664 54 حمص 1626 1534 دمشق 61 106 مدينة دمشق 17473 2305 المجموع 109.005 19.219 وفي النهاية، يبين أماكن تمركزهم في المحافظات السورية، ويبدي ملاحظاته حول أن الأرمن أينما كانوا يمارسون الصناعة فلا نجد جاليات زراعية إلا في الجزيرة وفي قضاء الشغور – حلب – . إلا أن تواجد الأرمن كأقلية في منطقة الشرق الأوسط اندرج أيضا ضمن بحث الأستاذ فايز سارة “الأقليات في شرق المتوسط”، حيث يستعرض تاريخ تواجدهم في المناطق العربية، وتفاوت زمن مجيئهم إلى المنطقة. هذه الأقلية الوافدة تم دفعها بالقوة للهجرة جنوبا بإتجاه بلاد الشام والعراق، وقد توزع الأرمن في هجرتهم هذه على مختلف بلدان الشرق العربي إضافة إلى بقاء أقلية منهم في تركيا. أما تحت عنوان “الأرمن والبقاء رغم المجزرة” يبين سارة أن الأرمن يشكلون في شرقي البحر المتوسط واحدة من أضعف الأقليات القومية عددا ولكنهم في الوقت عينه يعتبرون من أكثر تلك الأقليات قوة وتنظيما وأثرا في الواقع السياسي والأقتصادي الاجتماعي في البلدان التي تتواجد فيها الجماعات الأرمنية. ثم يشير الباحث السوري إلى أنه وبفعل الحروب تعرض الأرمن إلى هجرات متوالية والى عمليات تهجير تركت أثرها العميق في الأرمن وبنيانهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. والأهم من ذلك ما طرأ على الأرمن في تركيا مع ظهور النزعة الطورانية، ومن نتائجها مذابح الأرمن التي ارتكبها الحكام الأتراك وأرفقوها بعمليات نفي وتهجير وتشريد للأرمن. وبفعل تلك العمليات تمت إبادة مليون ونصف المليون أرمني وفرغت أرمينيا الغربية من سكانها الأصليين، ولم ينج من المذابح سوى أعداد قليلة اتجهت إلى أرمينيا الشرقية حيث أقاموا لاحقا جمهورية أرمينيا وقسم آخر اتجه إلى بقاع أخرى. وصار معروفا بإسم بلدان الشتات الأرمني. ومن الملفت للنظر توسعه في مسألة الجاليات الأرمنية والجماعات السياسية وكذلك الشتات وما تمخض عنها من أنماط في التنظيمات الأرمنية التي شدت أزر الجماعات الأرمنية إلى بعضها البعض وكذلك اهتمامات الأحزاب الأرمنية من قضايا المجزرة وغيرها. بالإضافة إلى تطرقه إلى موضوع توزع الأرمن في العالم على شكل جماعات قومية تكاد تكون مغلقة، مما جعلها تحافظ على خصوصيتها ومزاياها القومية اللغوية والتاريخية، وأغلبها أو جميعها قوية محكمة التنظيم وشديدة الفعالية وتحتل مراتب سياسية اقتصادية اجتماعية هامة في التركيب والبنية العامة للبلدان التي تتواجد فيها. وليس من سبيل الصدفة أن نجد شخصيات أرمنية مدرجة أيضا في الفن الإبداعي السوري. فقد لاقت مواضيع أحزان ومآسي الأرمن اهتماما لدى الأوساط الثقافية والفنية وأعطت أصحابها إلهاما في صياغة مواضيع جديدة، لتثبت مرة أخرى أن أعلام الفن والثقافة السوريين لا يستطيعون إبداء اللامبالاة أمام ماضي ومصير الأرمن المستقرين في الأراضي السورية. ولقد تم عرض بعض الأعمال التي تضم شخصيات أرمنية أو تلمح إلى موضوع المأساة الأرمنية على مسارح سوريا وتم أيضا عرض بعضها الآخر على شاشة التلفزيون لتحوز على تقدير واهتمام المتلقي السوري والعربي إجمالا. وبذلك تأتي الشخصيات الأرمنية في الأعمال المذكورة، إن كانت حاضرة في النص الروائي أو المسرحي، حاملة معها بصمة تاريخ الشعب الأرمني بأكمله. في هذا السياق، فكرت في إستقصاء آراء من كان لهم تجربة أدبية أو فكرية ولامسوا من خلالها خبايا قضية الأرمن، وذلك لمعرفة وقع مجازر الأرمن الجماعية عليهم كشخصيات مرهفة الحس جسدت تلك الأحاسيس من خلال شخصيات أدبية ابتكروها أو اقتبسوها، وكذلك لتلمس ما يحملونه من ذكريات عبر تجربتهم في التعامل مع قضية إنسانية تطال الجميع. من حلب التي استقبلت عشرات الألوف من الأرمن المنكوبين والناجين من المذابح، يعترف ابن مدينة حلب الكاتب نهاد سيريس أنه كانت لديه فكرة عامة عن تلك المذابح، وقد عايش الأرمن منذ الطفولة، لكنه عند التحضير لكتابة روايته التاريخية “رياح الشمال” جمع معلومات ووجد نفسه يزداد وعيا للعالم، وقد اكتشف وتعرف عن قرب على مذكرات الشاهد الأول على المذابح فائز الغصين. وقال في إجابته عن ذلك: “لقد تأثرت بهذا الكتاب أيما تأثر ونزل علي كالصاعقة. لقد كان مريعا لفائز الغصين ولي شخصيا حين كنت أقرأ أنهم كانوا يسوقونهم إلى خارج المدينة لذبحهم. وعندما رحت أكتب الجزء الثاني من روايتي لم أجد نفسي إلا أنني أتبنى قصة فائز الغصين”. وبالنسبة لذكراياته يتحدث نهاد سيريس عن إحدى قريباته وكانت أرمنية وجدها أحد التجار في سوق المدينة في حلب وتبناها. وعندما لم تعرف كيف تهجي اسمها سموها مريم احتراما لدينها المسيحي. لقد دخلت مأساة تلك الفتاة حياة سيريس الأدبية. فعندما بدأ بكتابة مسلسله -الثريا – ، الذي يرصد تاريخ سوريا قبيل التحرر من الأتراك وبعده، كتب عن قريبته مريم مضيفا الكوابيس التي كانت تنتابها في المنام مسترجعة مشاهد تذبيح أهلها. من الواضح أن الكتاب السوريين أدخلوا مأساة الأرمن في أعمالهم الأدبية للتعبير عن المشاعر الإنسانية وعما سببته فظائع الأتراك في الروح الإنسانية. وليس من الصعب أن نكتشف أن وصف عذابات الروح لدى الإنسان الأرمني وذكريات المذابح الرهيبة قد أخذ حيزا لا بأس به في الأدب السوري. ويرى الكتاب السوريين أن مصدر المعاناة لدى كل من الأرمن والعرب السوريين واحد، ولذلك فهم على اطلاع جيد على كافة وجوه المسألة واتضح ذلك في أجوبتهم. ويجد القارئ العربي في المؤلفات التاريخية السورية إلماعات عن المعاناة المتشابهة والمصير الواحد الذي واجهه الأرمن والعرب خلال فترة الحكم العثماني ولا سيما على يد الاتحاديين. ونخص بالذكر الخطة التي نفذها جمال باشا في البلاد العربية للقضاء على الروح العربية، وقد اقترنت أحكام الإعدام التي أصدرها بأحكام النفي والإبعاد، حيث سيقت أسر من سوريا ولبنان وفلسطين إلى الأناضول بعد مصادرة أملاكهم وأموالهم. وكان قد قام قبل ذلك بخطة مماثلة ضد الأرمن. وبهذا الخصوص يذكر الباحث قدري قلعجي في كتابه عن الثورة العربية الكبرى أن قادة الأتراك رأوا في الحرب الكبرى وفي حلفهم مع المانيا فرصة سانحة لخنق القوميات والقضاء على نزاعات التحرر وإلقاء الرهبة والهول في قلوب المخالفين والمعارضين. ويقول:” فأهلك طلعت وأنور نحو مليون نسمة من الأرمن تقتيلا وتجويعا وإغراقا في دجلة والفرات وإنهاكا على دروب المنافي التي سيقوا إليها في هجرات جماعية إجبارية شاقة”. أما ابن منطقة الفرات الكاتب والباحث د. وليد مشوح، فينظر إلى المسألة من منظور آخر ويقول مجيبا على أسئلتنا: “الشعبان العربي والأرمني تعرضا للمحن نفسها على أيدي الأتراك العثمانيين وواجها المصير نفسه، إذ تعرضا للإبادة والإرهاب والتجويع… إن الذين دبروا مذابح الأرمن وشنقوا العرب هم عصبة شكلت جمعية الاتحاد والترقي وكانت تقوم على العصبية القومية… والإسلام بريء من أفعالهم، إذا فأعمال الترك مخالفة لأحكام الدين الإسلامي تمام المخالفة”. ويذكر وليد مشوح أن السفاح جمال باشا الذي أعدم في السادس من أيار 1916 كوكبة هامة من متنوري الأمة العربية هو نفسه الذي أعدم الكثيرين من متنوري الشعب الأرمني، وهو الذي نفذ به بطلان أرمنيان إرادة الشعبين العربي والأرمني وأعدماه في تفليس عام 1922 وثأرا لشهداء العرب والأرمن. وقد كان د.مشوح قد سمع الكثير عن معاناة الأرمن من الأرمنيات الكبيرات في السن اللواتي تزوجن من العرب في منطقة الفرات. ومتأثرا بتلك القصص يعطي صورة المجازر في الكون الدامي للأرمن على الشكل التالي: “الكون تسربل بعباءات حمراء والضمير الإنساني بحجاب أسود قاتم، فالأحمر والأسود يشكلان لوحة المجزرة”. ويحكي عن تجربته الشخصية ويلتفت إلى أبناء بلده، ويقول أنه قد سجل لهم التاريخ مأثرة إيواء الأرمن والدفاع عنهم وحمايتهم، وأن الدماء الأرمنية تجري في شرايين أجيال من أبناء الفرات نتيجة للتزاوج الشريف مع الأرمنيات الفاضلات. وعن المواطن التي نزلها الأرمن في الفرات فيرى أنها غدت شواهد، وحفرت أحداثها في وجدان مواطني تلك البقعة. وهكذا تأسست العلاقات المتبادلة بين الشعبين على روابط الدم والمشاعر الصادقة. عند لقائنا بالأستاذ نزار خليلي الذي ترجم الكثير من الكتب عن الأرمنية شرح لنا في إجابته الأسباب الأساسية للمذابح والتهجير والإبادة. وأشار إلى أن الأتراك وبعد أن احتلوا كل مدن كيليكيا بدؤوا بهجرة كردية معاكسة. أي أنهم أخرجوا الأرمن من الشمال وأرسلوهم في قوافل إلى الجنوب ليموت من يموت منهم وينفى من تكتب له الحياة، وأسكنوا في تلك الديار المقفرة من سكانها الأرمن أكرادا مهجرين. ولم ينس نزار خليلي أن يشير إلى دور الدول الغربية الداعمة لكمال أتاتورك. فقال أنه لم يكن ثمة وجود لشعب تركي هنا فيما مضى بل كان ثمة قبائل ترك متفرقة تتكلم لغة تركية مختلفة، وذات قوة وبطش وحشي، أي لم تكن تتمتع بحضارة مدنية. وهكذا استطاعت شرذمة من هذه القبائل سلوك طريق الغرب إلى أن تمكنوا من الدولة العباسية القوية، ومن ثم اجتاحوها وخربوا مدنها وأحرقواكنوزها الأدبية وألقوا بما لم يحرق في الفرات. ويقول المترجم عن ذكرياته: “سمعت من الشاعر الكبير المرحوم عمر أبي ريشة، وكان صديقي، عن أبيه رحمه الله شافع بيك أبي ريشة الذي كان قائم مقام في طرابلس، في منبج وأخيرا في اعزاز وشاهد قوافل الأرمن المهجرة والعذاب والشقاء الذي تعانيه، فعمل ما بوسعه على تخليص بعض أفراد هذه القوافل بإرسالهم إلى حلب، ومنها إلى المناطق العربية في الصحراء”. وقد تعرف نزار خليلي على تاريخ الأرمن ومأساتهم عن كثب من خلال ترجماته. يقول عن تلك التجربة: “من جملة ما ترجمت – كتابا بعنوان “وثائق تاريخية عن المجازر الأرمنية” يتضمن برقيات ورسائل موثقة من الحكام العثمانيين إلى الولاة في المناطق الأرمنية يأمرونهم بإخراج الأرمن من ديارهم وتسفيرهم إلى الصحراء العربية وقتلهم قدر المستطاع بشكل إبادة جماعية، ولذلك كانوا يرحلونهم مشيا على الأقدام قاطعين الجبال والسهول من أصعب ممراتها ومخوضين في الأنهار على أمل القضاء عليهم غرقا”. أما بخصوص تجربة الكاتب المسرحي ممدوح عدوان الذي استحق لقب – أحد المبدعين السوريين في القرن العشرين – في مجال الشعر والمسرح، خلال عمله على موضوع ” سفر برلك” المتصل بمرحلة الحرب العالمية الأولى والحكم العثماني وبسياسة الاضطهاد والاستبداد المتعبة من قبل الإمبراطورية العثمانية ضد العرب، فقد قضى عشرين عاما تقريبا يجمع وثائق ومراجع ويجري مقابلات شخصية مع أشخاص عايشوا تلك الفترة. وبهذا الصدد كتب عدوان مسرحيتين – الغول – عن جمال باشا و-أيام الجوع – وتدور حول المعاناة الشعبية وأحد أبطالها شاب أرمني هارب ومهاجر. وبعد أن اطلع الكاتب المسرحي على المأساة الإنسانية الكبيرة والتصفية العرقية التي نفذت ضد الأرمن، أشار إلى أن أسبابها عديدة، لكن أساس البلاء كان الحكم العثماني. وكانت بداية ذلك برأيه خسارة الحرب وإحساس القيادة العسكرية العثمانية بالهزيمة مما جعلها تبحث عن كبوش فداء، ففتك جمال باشا في سوريا بالحركة القومية العربية واتهم أنور باشا الأرمن بالتجسس لصالح الروس، ويشدد عدوان على أن الأتراك اتخذوا قرار الترحيل لإبعاد الأرمن عن الحدود الروسية وكان هذا القرار ذريعة لحرب إبادة ضد الشعب الأرمني كله. وعندما يتحدث عن دور العرب في حماية الأرمن يقول: “المتابع للأحداث يعرف أن الشعب في حلب والجزيرة والقامشلي ودير الزور احتضن الأسر الأرمنية التي استطاعت أن تنجو بدوافع إنسانية، لأنهم كانوا يشاهدون مشاهد لا يستطيع أي إنسان الاعتيادعليها،فعدا طريق الهجرة، كانوا يستبيحون القتل والاغتصاب وسرقة الأموال، وكانوا عندما يصلون إلى الأنهار سواء دجلة أو الفرات أو الخابور كان الأتراك يلقون الناس لا على التعيين بمياه النهر”. وحول تحليل سبب تعاطف العرب مع الأرمن يقول أن من شأن الشعب الذي يشاهد كل ذلك أن يشتعل فيه الحس الإنساني ويجعله متعاطفا مع الضحية أكثر. وأضاف أن الحركة الوطنية المقاومة للعثمانيين كانت تسير تحت شعار – عدو عدوي صديقي – ، فبما أن العرب ضحايا، والأرمن كذلك، غدا التعاطف مشتركا. ويتحدث عن أشكال الاستبداد فيقول بأن الاضطهاد كان موجها ضد الجميع لكن لون الاضطهاد الذي مورس على الأرمن كان مختلفا وأكثر شناعة. كانت هناك جريمة منظمة ضد الأرمن، واضطهاد فحسب ضد العرب، فقرار التصفية المنظمة لم يتخذ إلا ضد الأرمن، وعندما اتخذ ضد العرب جاء في شكل تصفية رؤوس وقيادات الحركة، وهكذا أعدم المئات منهم فقط. ليس غريبا أن توقظ معاناة الأرمن والظلم والقهر الذي كابدوه روح الأنسانية لدى السوريين. وفي هذا السياق لم يغد الاختلاف الديني ذا شأن، فأبدى العرب دائما الرعاية والحماية للأرمن المهجرين والمنكوبين. في ذاكرة الكاتب والمترجم وعضو اتحاد الكتاب ميخائيل عيد ذكرى خاصة عن الأرمن يرويها على النحو التالي: “لقد سمعت من الناجين من الذبح ومن أبنائهم وبناتهم في سوريا ولبنان الكثير من الأخبار المخيفة التي يصعب على من يسمع طرفا منها أن يصدق أن من ارتكبوها ينتسبون إلى الجنس البشري. أما ما شهدته بلدتي المشتى فهي حكاية من تلك الحكايات التي يصعب تصديقها”. فهو يذكرها بشكل جيد لأنها حكاية والدة صديقه. ويحكي ميخائيل عيد قصة الغريب الذي أتى إلى مشتى الحلو ليسأل عن أخته التي افترق عنها لسنوات عديدة بسبب الأحداث والتهجير والتقى بها أخيرا في بيت زوجها العربي. ولننتقل إلى منظور آخر يفسر لنا بعض الجوانب الأخرى من قصة الإبادة. فقد تسنى لنا أيضا أن نلتقي بأبناء الشخصيات العربية التي كانت في مناصب حكومية في شمال سوريا أثناء عمليات الإبادة. وحول الدور الإيجابي الذي لعبه هؤلاء السوريون يقول د. صباح الدين بقجه جي الذي كان والده مديرا لمنطقة السبخة في عام 1915: “كانت فترة مجاعة، وكان والدي مدير منطقة السبخة عندما بدأت المذابح، ومنع حينها في شهر آب حدوث أية حادثة اعتداء من الأهالي أو البدو أو الجيش لاسباب إنسانية”. وكمدير منطقة كان بقجه جي يستلم الأوامر من السلطات التركية من أجل تسهيل مرور الأرمن من منطقة السبخة بهدف ذبحهم على الطريق. لكنه عندما اكتشف الحقيقة صار يخبئ الأرمن كي ينقذ الكثيرين من مخالب الموت. يحكي الابن بقجه جي أنهم يتذكرون المذابح باشمئزاز لهولها، ويعتقد أن المذابح الأرمنية جاءت نتيجة لمؤامرة دولية. من جانبنا يجدر الإقرار بإنسانية والده لأنه لو لم يكن شديدا في المنطقة لتعرض الأرمن هناك أيضا للمجازر وللذبح بشكل واسع. ونستنتج من ذلك أن السوريين وفي مواقع عملهم الحكومية حاولوا وبشتى الوسائل إنقاذ الأرمن من الذبح. أجاب على أسئلتنا أيضا عدد من أبناء الجيل الثاني لزعماء العشائر العرب الذين استقبلوا بصدر رحب الأرمن الناجين من جحيم الأتراك العثمانيين. تعتبر رسالة شريف مكة الحسين بن علي التي وجهها عام 1917 إلى الأمراء وزعماء العشائر العربية في شمال سوريا ومن بينهم زعيم عشيرة الجربا طالبا فيها مساعدة الطائفة الأرمنية والحفاظ عليهم أكبر شاهد على مروءة العرب واستعدادهم للدفاع عن الأرمن. كانت عشيرة الجربا تعيش على الحدود التركية – السورية حيث تمت عمليات الذبح والتهجير، وكان زعيم العشائر حينئذ دهام الهادي. وأثناء مقابلة نجله الشيخ حميدي الجربا الذي يشغل منصب زعامة العشيرة في الوقت الحاضر اتضح لنا أنه على اطلاع شامل بكل خفايا المسألة. فيقول حول ذلك: “استغرب الوالد عندما أتت رسالة من الشريف حسين إلى – الجربان – العائلة الكبيرة التي ننتمي اليها، وامتعض قليلا والدي لأن الشريف حسين هو الذي يذكرنا بمكارم الأخلاق، إذ هذه أمور من واجباتنا، والأرمن أهلنا وإخواننا وسنكون أهلا لهم، ومالهم مالنا وعرضهم عرضنا وأرواحهم أرواحنا، ومن يعتدي على أرمني لا يقدر أن يفك حاله منا حتى لو كان عربيا أو كرديا أو شمريا”. وقد أشار الشيخ حميدي إلى أن العشائر التي تواجدت في منطقة الشمال كانت كلها تساعد الأرمن في حدود استطاعتها وعلى طريقتها في ذلك الوقت الحرج. برزت مساعدة عشيرة الجربا نظرا لأن تلك العشيرة الكبيرة كانت أقرب إلى الحدود ولها هيمنة معينة في المنطقة، فكان الشيخ الدهام يحب خدمة الناس وكلمته كانت دائما: – الله هلتكم بالأرمن – كناية عن أن مساعدة الأرمن هي خدمة لله، فكان يسأل عنهم وعن أخبارهم. وعند اعتداء معين في الدرباسية أو رأس العين كان ينطلق فورا هو أو أحد مساعديه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وبعد أن تأتي هذه العوائل يوزعها على أفخاذ العشيرة. ولنتعرف في منطقة أخرى وهي الرقة على الأعمال الإنسانية التي كان يقوم بها مأمور السوق الشيخ فيضي الفواز أثناء أدائه لواجبه كموظف حكومي. يروي ابنه محمد أمين الفواز عن غنى العائلة وأملاكها الشاسعة ونفوذها في المنطقة ويقول: “لقد تنقل والدي في مناصب عديدة. وكان يعمل عكس ما يطلب منه الأتراك، وأخذ على عاتقه الحفاظ على الأرمن المهجرين وحمايتهم. وقد ربى في منزله الكبير أكثر من خمسين طفلا يتيما ترعرعوا في كنفه وكبروا وتزوجوا وأصبحوا في مستويات عالمية”. لقد استند الشيخ الفواز إلى منصبه الحكومي وقام بجهود كبيرة لحماية ومساعدة الأرمن المهجرين من مدنهم والناجين على طرق الذبح. التقينا كذلك بممثل عن عشيرة كردية في رأس العين هو عبد الإله إبراهيم باشا وتعرفنا منه على طبيعة المساعدة التي قدمتها عائلته للأرمن المنكوبين. كان نفوذ هذه العشيرة يمتد في مناطق ويران شهير وأورفة وماردين وديار بكر وصولا إلى فان. تحدث لنا عن العشيرة وعلاقتها بالأرمن قائلا أن إبراهيم باشا ساعد الأرمن في منطقته كثيرا. فدفعت عائلة – الباشات – المال للأتراك من أجل الحصول على قوافل الأرمن ومن ثم إطلاق حريتهم. وفي عام 1915 ساهمت العائلة في إنقاذ حياة أطفال أرمن وإيوائهم سنوات عديدة. ويرى الباشا أن المذابح التي حصلت في التاريخ ليست سوى جرائم سياسية استغل بها غباء العامة. يمكننا الاستنتاج مما سبق، أن العشائر والعائلات التي كانت تعيش في منطقة الشمال والرقة والتي كانت ذات نفوذ كبير، وتتقلد مناصب عالية في الحكومة وفي حالة مادية جيدة قد ساهمت في إنقاذ الأرمن وإيوائهم. ومن الملفت للانتباه أن قوة وجبروت زعماء العشائر تلك كانت تخيف الجنود الأتراك بحيث لم يتجرؤوا من الاقتراب من الأرمن اللائذين بحماية العرب. فمن حسن الحظ أن الجيل الثاني منهم يذكر كل شيء ويتحدث بجرأة ووضوح مبرزا رأيه وموقفه من عمليات التهجير والمجازر الجماعية. وفي منحى آخر، يحمل الكاتب فاضل السباعي ذكرياته عن الأرمن من مدينة حلب. فيؤكد على أن حلب كغيرها من المدن السورية فتحت صدرها وشرعت أبوابها لتحتضن الأرمن المهجرين. يصف السباعي في إجابته مساكنهم الفقيرة – البراكات – ومن ثم انتقالهم إلى بيوت نظامية ومريحة بفضل نشاطهم وبسبب احتضان العرب لهم. وعندما يتحدث عن المذابح الأرمنية يقول: “لقد كانت النكبة التي نزلت بالأرمن في تركيا فظيعة فبعد إعمال القتل تدفقوا إلى المنطقة الأقرب في شمالي سوريا حيث شعروا بالأمن، فاستقروا وساهموا في بناء هذا الوطن”. ويشرح الكاتب أن البلية الأعظم أن تعمد حكومة ظالمة إلى تهجير شعب واستئصاله وإبادته. فكل هذه الموضوع يدخل برأيه في “لعبة الأمم” وليس من السهل الإجابة على التساؤل عن كيفية إنصاف شعب أخرج من دياره بالتقتيل، فهو فقد الوطن إلا أجزاء بقيت وخسر الأرواح إلا من نجا بجلده. وفي سياق آخر يبين الإعلامي والصحفي سمير رفعت، المستشار في مجلس الشعب ومدير منظمة البرلمانيين العرب والأميركيين من أصل عربي والأمين في الحزب السوري القومي الأجتماعي أن مناسبة عيد شهداء الأرمن في الرابع والعشرين من شهر نيسان ليست يوما للدموع رغم ما في الذاكرة الوطنية والقومية من ذكريات توشحت بالدم والعرق والدموع والأفئدة. ويصف ما جرى أنه حرب الشعوب الشهيدة. ويرجع اسباب المجازر الى ان الامبراطورية العثمانية ومنذ القرون الاولى لقيامها كانت تحاول توسيع حدودها لتصبح امبراطورية على اشلاء ودمار وحضارة الشعوب الشهيدة . وأن من سوء طالع الأرمن أنهم أناس يتسمون بالنظام والأمانة والعمل والصدق، فكانوا ضمن لائحة الشعوب الشهيدة التي تعرضت للأفخاخ. ويقول: “ونفذ قرار الإبادة والمجازر الجماعية والتهجير الجماعي بحق أدباء وشعراء ومسرحيين وحقوقيين ومدرسين هم طليعة شعب وحملة مشاعل النور فيه. قضي عليهم يوم 24 نيسان على أيدي الدونمة كما اندثرت أديرة وكنائس وأغلقت مدارس هي مشاعل نور وحياة”. في ضوء الذكريات والأفكار التي باح لنا بها هؤلاء الأصدقاء، والأفكار التي كانت تسبح في مخيلاتهم أثناء العمل في الموضوع المطروح وبعده، وما آلت إليه تصوراتهم عن المسألة، وجدنا أنه بات يندر أن تجلس إلى رجل فكر وأدب في سوريا إلا ويحدثك عن شعوره تجاه القضية الأرمنية ويبدي رأيه الخاص في المسألة. أو أن تعثر في ذكرياته عن طفولته وشبابه أو حتى من خلال اطلاعاته الفكرية على قصة محزنة لأرمنية أو حادثة تتصل بالأرمن، لنستنتج في النهاية أن الأرمن باتوا قطعة هامة مميزة اللون في لوحة الموزاييك التي صنعها السوريون على مر السنين. * استاذة في جامعة دمشق

السياسة التركية والقضية الارمنية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تقرير طلعت باشا حول الإبادة الجماعية الأرمنية

أرشيف