د.علي سلطان * “غوائل الأرمن في الفكر السوري” دمشق – 1999 إن الاحداث الخطيرة التي كانت تتعرض لها الشعوب الصغيرة الضعيفة، هي التي كانت تحدث على مفاصل الدول الكبرى أو الإمبراطوريات، أو على طرق تلك الإمبراطوريات . وكانت تلك الأحداث التي تمر على هذه الشعوب الصغيرة تتراوح بين المعاملة الطيبة كما كانت بين الدول العربية الإسلامية أيام الأمويين والعباسيين وأرمينيا، وبين حد الإبادة كما حدث في مذابح الأرمن على أيدي متعصبة الترك في حقبة من تاريخ الأرمن . وإذا كان قد قيض للأرمن من كتب عن مأساتهم بشكل واسع وكبير، فقد أهمل الكثيرون مصائر متشابهة كما حدث أيام روسيا القيصرية وسكان بلاد القرم الذين لاقوا مصيراً من القتل والترحيل وإفراغ البلاد على أيدي الاستعماريين الروس. ولا ننسى ما للأطماع الاستعمارية واستغلال الشعوب والانتفاع بها ضد الدول المعادية لها من تأثير كبير الى العلاقة بين الشعوب الحاكمة والخاضعة كالأرمن والدولة العثمانية وروسيا وبعض الأرمن الخاضعين لها، وما لتلك الحروب التي لم تشأ روسيا أن تكف عنها حتى احتلت كل الشاطئ الشمالي للبحر الأسود. كما لا ننسى الدعم المعنوي الغربي والدعاية الهائلة التي كانت تشنها ضد الدولة العثمانية حتى تتحرك الشعوب المحكومة بها، وخاصة في وجود اختلاف ديني يتطور زمن الكراهية إلى تعصب رهيب ومذابح ، ولم يكن دائماً ضد الأرمن، بل اكتوت به قرى كردية وتركية . وعلى كل فقد حدثت مذابح الأرمن في فترة نشاط استعماري كببر لاقتسام العالم الذي كانت تشكل فيه الدولة العثمانية مطمعاً للغرب، الحملة الفرنسية على مصر، احتلال الجزائر، احتلال بريطانيا لمنطقة الخليج العربي وعدن ، وإيطاليا لليبيا وكانت المناطق الحرجة جغرافياً بين جيرانها كأرمينيا من المناطق القابلة للغزو والتفجير… وبعض ذيولها ما حدث قريباًً بين أرمينيا وأذربيجان والمشكلة الأولى والأخيرة هي أن شعباً تحكمه بالقوة دولة ليست منه، فالأول يريد التحرر والأخرى تريد الاستمرار في بسط سلطتها عليه … العداء الظاهر والحقيقي.. قام الأرمن بثورتهم سنة 1895 وما بعد ضد الأتراك مثلما فعل البلقانيون جميعا، وأرادت تركيا إخماد الثورة، وحدث القتل والقتال والمذابح والتهجير، ولم تهدأ المنطقة حتى وصلت الحرب العالمية الأولى التي كانت تركيا فيها ضد الغرب وروسيا. واستمرت الثورة الأرمنية ودعمتها روسيا حيناً وتخلت عنها حيناً ( فهي تحكم جزءاً من ارمينيا ايضاً)، وإن كانت المسيحية تجمع بين الطرفين . وكانت أحداث 1911-1915 عنيفة جداً اضطر فيها الأرمن تحت القتل والذبح والتهديد إلى الهروب والنجاة بأنفسهم في منطقة أضنة، ولم يكن أقرب لهم من سورية المجاورة . فتوافدوا إليها بحالة مأساوية محزنة يضيق بهم الحزن والجوع والتعب والقتل وفقد الأهل والأرض ومصير خطير مجهول. وعندما وصلوا إلى سورية كانوا في حالة تصعب على الكافر كما يقال في المثل. أناس أو هياكل بشرية، جياع ممزقة ثيابهم وأرواحهم، مرهقة أجسادهم حتى شفا الموت. وكانوا خلال مسيرتهم الطويلة يتساقطون على الدروب كالقطعان التي تطاردها الذئاب من كل صوب. وفي سورية امتدت إليهم أيد لم تكن في حسبانهم ولم تكن في حسبان تلك الأيدي التي كان أصحابها أيضاً يعانون الفقر والقهر وسفر برلك والمجاعة وتجنيد الرجال. أصبحوا بائساً حل على بائس، ومع ذلك اقتسم الطرفان المأساة ورغيف الخبز والخيمة والبيت والماء والأرض والستر والفراش. واجتاز الأرمن الرمق الأخير وظلوا على قيد الحياة وتمازجوا وامتزجوا بالعرب وأحسوا بنعمة الرحمة ، وفي العرب كثبر منها كما هو معروف في التاريخ. وبعد أن استراح الأرمن في الشمال السوري والشرق، حتى وبين البدو، تابع كثير منهم مسيرتهم نحو الغرب والجنوب فوصلوا إلى دمشق ولبنان ، وكانت أسرابهم تمسير على الطرق يراها ركاب القطارات يتهاودون ببطء مريض . واستقبلهم الناس ايضاً وواسوا جراحهم وآلامهم وتجاوزا أيضاً شفير الموت من التعب والجوع والقتل . ذلك شيء أصبح في ذمة التاريخ ، ولا يمكن إعادة المسلسل في الواقع كما تصورها أفلام السينما، ولم يبق حتى من القتلة احد على قيد الحياة ، والثأر هنا لا يفعل شيئاً إلا أن يعد من جديد لمأساة أخرى. ونحن العرب ما زلنا نرى حتى الآن بأم أعيننا ماذا جرى للفلسطينيين وما يجري فى هذه الأيام فقد قتلوا وذبحوا وهجروا من أرضهم وأتوا لهم بأناس لا علاقة لهم بفلسطين ، وكان بداية ذلك موازياً لبداية مأساة الأرمن، الم اقل أنه كان عصر اقتسام العالم، ومازال حتى الآن . مات من ابتلى ومن عاش بعد ذلك ، ويصح حوار واعتراف واعتذار وتعويض بدلاً من دم جديد. ألم نر الآن أن هذا الغرب الذي فتت الدولة العثمانية، احتضن تركيا بكل معاني الكلمة، وهو يسخرها الآن ضد العرب ولصالح الصهاينة أعدائهم ، والأتراك والعرب ظلوا في إمبراطورية عثمانية تركية أربعة قرون . أليس من العجب أن ينقلب الموقف وتصبح الدولة الكبيرة العثمانية عدوة ولاياتها سابقاً ومع الصهاينة الذين دفعوا مالا كثيراً متى أسقطوها على يد الإنكليز والغرب . كانت ارمينيا، وظلت، وظل سكانها الارمن، ولم يقدم إليها قوم جديد، مع أنها عانت المآسي، أما فلسطين، فقد أصبحت محتلة من سكان وليس من استعمار دولة ، ومن يعرف متى تكون النهاية وكيف تكون؟ مأساة الأرمن واحدة من مآسي التاريخ، ولقد عانت بلاد العراق والشام هذه المآسي وأشدها على يد هولاكو الذي دمر الدولة العباسية وأغرق حضارتها،أو على يد تيمورلنك الذي احرق دمشق وقضى على سكانها، أو على أيدي الصليبيين … تلك مآس يبدو أنه لا نهاية لها وليس لها حدود وأنت الآن ترين وتعرفين . أعود إلى الأرمن، لقد رأيتهم وعشنا معاً في بلدنا السلمية، ودرسوا معنا في المدرسة، وكانوا شعبا ماهراً عملياً حرفيا، وأدخلوا حرفاً إلى البلدة وعلموا بعض السكان، وعاشوا في علاقة طيبة حسنة مع السكان وكان لهم دكاكين ودور وكنيسة وعملوا بالصياغة والذهب والنحاس والنجارة والحدادة وتبييض الأواني النحاسية ، وكانوا يلبسون البنطال ونساؤهم يلبسن التنانير، وكان الاحترام والمحبة سائدين وكأنهم بين أحبائهم في أرمينيا. وتعلموا العربية ، وكانوا في المدرسة يقرؤون القرآن، وكنائسهم كانت تضرب الناقوس . ورأيتهم وهم يركبون الباصات أواخر الحرب العالمية الثانية 1945، وهم عائدون إلى أرمينيا “االسوفيتية” يرفعون الرايات والعلم السوري وينشدون النشيد السوري حماة الديار، يلوحون بأيديهم ويبكون من حزن على بلدهم السلمية التي عاشوا فيها بكل أمن واطمئنان،وظلت منهم أسرة ما زالت حتى الآن ما بين حمص والسلمية . والناس هنا في سورية لا يرددون أبداً قصة تحريض الفرنسيين لكتائب الأرمن والاعتداء على الأحياء في دمشق خاصة أثناء الثورة السورية 1925، إلا لمن يقرا ذلك لجر كتب التاريخ. * باحث ومؤرخ سوري