د. بيان نويهض الحوت * “القضية الارمنية في الفكر اللبناني” بيروت – 2000 مدينة القدس التاريخية، الشهيرة بالقدس القديمة، تضم داخل سورها العريق خمسة أقسام أو أحياء متجاورة منذ مئات السنين، وهي بحكم تواجدها التاريخي: الحي المسيحي؛ الحي الأرمني؛ الحي الإسلامي؛ منطقة الحرم الشريف؛ الحي اليهودي. أما سبب “حداثة” الحي اليهودي على الرغم من قدم المملكة الإسرائيلية منذ ثلاثة آلاف عام، فناتج عن شبه انقطاع للوجود اليهودي في مراحل تاريخية متعددة، ما جعل الثري البريطاني اليهودي مونتفيوري، حين زار فلسطين زيارته الشهيرة سنة 1827، لا يجد فيها ما بين شمالها وجنوبها أكثر من خمسمائة يهودي في فقر مدقع؛ وأما مشروعه لبناء مساكن للفقراء في القدس الذي أنجز سنة 1856، فكان عبارة عن سبعة وعشرين كوخا وطاحونة هواء لطحن الذرة، شيدت كلها خارج حائط المدينة. أما مساحة الملكية اليهودية في القدس القديمة فلم تكن لدى قيام دولة إسرائيل في 15/5/1948، لتتجاوز خمسة دونمات (ما يعادل 4,596 مترا مربعا). يقع الحي الأرمني في جنوب غربي القدس القديمة، وهو يضم نحو خمس مساحتها. وترجع بداية الوجود الأرمني إلى القرن الرابع للميلاد، أي إلى أول عهد إعتناق الأرمن للديانة المسيحية وقدومهم إلى الأرض المقدسة للحج، وإستقرار جماعة من الرهبان والحجاج بالقرب من “الغرفة العليا”، وهي بناء على جبل صهيون كان يعتبر مكان تجمع للمسيحيين الأوائل. ومن المعتقد أن كاتدرائية سانت جيمس للأرمن الأرثوذكس قد بنيت في هذا الموقع. يوم الفتح الإسلامي للقدس سنة 637م.، وهو اليوم الذي تسلم فيه الخليفة عمر بن الخطاب المدينة سلما من البطريرك صفرونيوس، أعطى الخليفة العادل العهد والأمان لكل سكان المدينة، للبزنطيين وللأرمن ولكل المسيحيين. ومع إنتهاء العهد البيزنطي غادر الكثير من البيزنطيين المدينة، لكن بقي الكثيرون منهم أيضا، لشعورهم بالأمان؛ إلا أن الوجود البيزنطي إنتهى بمرور الزمن، تماما كما انتهى وجود اليونان أو الرومان في بلاد الشام، أو وجود العرب في الأندلس. أما الأرمن، فما كانوا هم الحكام حتى يزولوا بزوال الحكم، ولا كانوا قد ارتبطوا بحاكم بيزنطي أو غيره حتى ينتهي وجودهم بانتهاء وجوده؛ وهذا ما يميز تاريخ الأرمن عن تاريخ كل “الأقليات” في القدس، فهو تاريخ لم ينقطع في أية مرحلة من المراحل. قبيل عهد الإفرنج الصليبيين وتأسيسهم المملكة اللاتينية في القدس (1099 – 1187)، كان قد اصبح لحي الأرمن وجود معروف وطابع مميز. وقد عمل ملوك الإفرنج الصليبيين على تشجيع النصارى المحليين في الأردن وسوريا على القدوم إلى القدس، حتى امتلأت القدس فعلا بأعداد كبيرة من الأرمن والسريان والأقباط، وكان من أبرز الأعمال التي قاموا بها استثمار الأراضي الزراعية التي كان أهلها المسلمون قد تركوها، وكانت أهم المزروعات الزيتون والكرمة. يوم دخل صلاح الدين بيت المقدس سنة 1187، كان إلى جانبه الأرثوذكس العرب بقيادة الكاهن يوسف بابيط الذي عمل مستشار له. وقد فصل صلاح الدين فصلا نهائيا بين المسيحيين المحليين من عرب وغير عرب، وبين المسيحيين الإفرنج. فبينما كان من الطبيعي أن يغدر الإفرنج المحتلون المدينة، عمل صلاح الدين على عودة المسيحيين سكان البلاد والمشرق، وهكذا تزايد عدد الأرمن والأحباش والهنود واللاتين، وقد أعفوا من الضرائب، وقاموا بممارسة طقوسهم الدينية بحرية تامة. كما أن حقوق الأرمن قد تأكدت في “مرسوم” جديد على غرار العهدة العمرية. تراجعت أوضاع الأرمن عموما، كما تراجعت أوضاع سواهم من رعايا الكنائس المسيحية في نهاية عهد المماليك، غير أن هذا لم يمنع حي الأرمن من أن يتطور وأن يصبح له في منتصف القرن الخامس عشر ذكر يتردد على ألسنة الناس والمؤرخين. وبدءا من عهد السلطان سليم الأول في القرن السادس عشر أصبحت أوضاع الأرمن أفضل بكثير من ذي قبل إستنادا إلى “مرسوم” عثماني، وقد تجدد مثل هذا المرسوم من قبل سلاطين عدة، وكلها محفوظة في مكتبة الدير. وأما الميزة التي رافقت تاريخ الأرمن في القرنين السابع عشر والثامن عشر فكانت كبر مساحة حيهم في القدس حتى بلغ حجمه المعروف في القرن العشرين. كتب عدد من الرحالة الأجانب عن توافد القوافل التجارية إلى فلسطين، وخصوصا قوافل الأرمن واليونان منذ منتصف القرن الثامن عشر، أما الرحالة الإنكليزي براون الذي وصل إلى القدس في شتاء سنة 1797، وفي يوم كان الثلج فيه يتساقط عند وصوله، فقد أدهشه إهمال كنيسة القيامة إلى حد إنهيار بعض الجسور الخشبية في سقوفها، ما أدى إلى تساقط الثلوج بداخلها، بينما كان وصفه لدير الأرمن على العكس من ذلك، فقال أنه كان في أحسن بناء، ويتسع لألف حاج. وبعد نحو ستين عاما زار الرحالة السويسري فيلكس بوفيت القدس في موسم الأعياد، فقال إنه قدر وجود خمسة عشر ألف حاج أرثوذكسي، وعشرة آلاف حاج أرمني، بينما كان الحجاج من الأوروبيين هم الأقلية. في عهد الإنتداب البريطاني عرف حي الأرمن بحارة الأرمن، على غرار القول بحارة النصارى أو حارة اليهود في القدس القديمة. ومن أبرز معالمه دير الأرمن الذي كتب على بابه باللغات الثلاث الأرمنية والأجنبية والعربية: “دير الأرمن مار يعقوب”. ويحيط بالدير عدة كنائس، أكثرها شهرة كاتدرائية سانت جيمس، وهناك مبنى البطريركية، ومقر البطريرك، ومساحات مكشوفة، وحدائق، ومكتبة، ومتحف، ومطبعة، ومدارس إبتدائية وثانوية، وبيوت للسكن، ونواد إجتماعية ونواد للشباب. كما يتصل بحارة الأرمن دير الزيتونة حيث يحتفظ بكل السجلات للطائفة الأرمنية. أما المنطقةالسكنية المجاورة للدير فهي تتصل به عن طريق الشوارع الصغيرة الضيقة التي تشتهر بها القدس القديمة، وهي تحمل أسماء أرمنية، مثل “طريق أرارات”. حافظ الأرمن على الأبنية القديمة، فيوم أقيمت بطريركية الأرمن الكاثوليك في القرن التاسع عشر، مكان حمام السلطان من القرن السادس عشر، لم يعمل المهندسون على تقويض القديم كله، بل أبقوا على بعض العقود التي تميزت بتشكيلات إنشائية فنية، كما أبقوا على أحواض المياه. أما في كنيسة القيامة نفسها، فهناك قسم للأرمن، كما لسائر الطوائف الكبرى. منذ العام 1870، أخذ سكان القدس في الخروج من داخل الأسوار للبناء والسكنى على الهضاب المحيطة بالقدس التاريخية، وأشتهرت مباني القدس “الجديدة” بجمالها ومبانيها من الحجر الأبيض والقرميد الأحمر، وبساتينها التي كانت تحيط بمعظم البيوت. وكان للأرمن نصيب كبير من المباني الجديدة. وأهم ما يميز هؤلاء المقتدرين منهم أنهم ما عملوا على السكن في حي خاص بهم، بل اختلطوا بالسكان العرب، في كل الأحياء الجديدة كالطالبية والقطمون والبقعة الفوقا… أي أننا بالمقارنة مع الأجانب الذين كانت لهم الكولونية الألمانية، أو الكولونية اليونانية، لا نجد الأرمن قد عملوا على تشييد كولونية أرمنية مثلا، بل شيدوا بيوتهم متفرقة بين بيوت العرب. كان من الطبيعي أن يختلط السكان الأرمن بالعرب لعدة أسباب، منها أنهم أتقنوا اللغة العربية وتكلموها كأهلها، وإن يكن مع لكنة خفيفة جدا بالنسبة إلى البعض منهم كانت موضع إعجاب المستمعين لها؛ ومنها مشاعر الإنتماء المصطلح عليها بـــ “الهوية”، ذلك أن وجود الأرمن بالقدس كان خلافا لمنطق وجود “الأقليات” في العالم كله. هم لم يشعروا بأنهم أقلية، ولم يتصرفوا كأقلية. وهم مع محافظتهم التامة على خصوصيتهم كشعب له تقاليده وعاداته وصفاته، وعلى تميزهم بتسميتهم كاغاكاتسي (Kaghakatsi)، وهذه كلمة تعني أرمن القدس المحليين، فقد تمكنوا من الإندماج بكل مناحي الحياة في القدس، بحيث ما كانت كلمة “أرمني” تعني إنتماء إلى جالية أجنبية. بإيجاز، كان الأرمني في مدينة القدس التي عاشت فيها غالبية الأرمن الفلسطينيين، كما كان في سائر المدن الفلسطينية، “أرمنيا” بكل ما في الكلمة من معنى، كما كان “فلسطينيا” بكل ما في الكلمة من معنى. وما نظر العرب الفلسطينيون يوما إلى الأرمن، إلا نظرتهم إلى أبناء وطن واحد. ولعل عطاء الأرمن الدائم في مجالات الثقافة والفن والعلم هو الدليل على اندماجهم الكلي في نسيج هذه المدينة العريقة. تعتبر مكتبة دير الأرمن، أو دير مار يعقوب، من أكثر مكتبات الأديرة في القدس القديمة شهرة، فهي تحتوي على ثاني أكبر مجموعة من الوثائق الأرمنية في العالم، ومنهم من يعتبرها المجموعة الأكثر أهمية، إذ توجد فيها وثائق ترجع إلى القرون المسيحية الأولى، بالإضافة إلى العهود والمراسيم والرسائل من قبل الحكام المسلمين للطائفة الأرمنية بالقدس. ويبلغ عدد المخطوطات فيها نحو ثلاثة آلاف مخطوطة، جاء بالكثير منها الحجاج الزائرون وقدموها للكنيسة، عبر القرون. أما أبرز مكتبات دير الروم (البطريركية الأرثوذكسية)؛ مكتبة دير اللاتين (دير المخلص)؛ مكتبة دير السريان (دير مار مرقص). أنشأ الأرمن الغريغوريون مطبعة لهم في القدس حوالي سنة 1848، وأصدروا كتبا معظمها دينية، باللغتين الأرمنية والتركية بحرف أرمني، وتلك هي المطبعة الثانية في تاريخ القدس، فقبل عامين، أي في سنة 1846، كان الآباء الفرنسيسكان قد أنشأوا أول مطبعة في المدينة. وفي سنة 1929 تأسست مكتبة أرمنية ضخمة بأموال تبرع بها الثري الأرمني غولبنكيان، وقد تطورت حتى أصبحت تضم أكثر من ستين ألف مجلد. على صعيد الفن اليدوي الحرفي، كان أكثر ما اشتهر به أرمن القدس النقش على الفخار، أو صناعة الخزف المعروف بالسيراميك، وهو فن قديم جدا في فلسطين، لكنهم هم الذين عادوا وأدخلوه إلى القدس، حتى بات من أجمل الحرف اليدوية التي تعتز بها فلسطين. تعلم الأرمن هذا الفن في شمالي تركيا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وطوروه حتى برعوا فيه واشتهروا به في القرن الثامن عشر، واختصوا بفنهم هذا كنائس ومتاحف عدة في العالم، وكان من الطبيعي أن يختصوا كنائسهم في القدس بنصيب كبير، حيث عملت اليد الماهرة بالنقش على حيطانها لوحات وآيات من الجمال. تزايد مجيء الخزافين الأرمن في أوائل القرن العشرين بسبب تصاعد الإضطهاد التركي لهم. وكان أمرا مثيرا للتأمل، أن يعمل هؤلاء القادمون المعذبون والهاربون من مجازر، لا على سؤال أي كان منة أو عطاء، بل على القيام هم أنفسهم بالعطاء، وقد ابدعوا في عطائهم، حتى اكتست دور العبادة ومقر الحكومة وجدران البيوت الثرية، بأعمال السيراميك الجميلة. ومرت السنوات، وتعلم صناعة السيراميك من الأرمن أهل القدس وأهل الخليل، وبرع هؤلاء أيضا، وأصبح الزائر في حوانيت الخليل كما في حوانيت القدس القديمة، يجد الصحون والكؤوس والمزهريات وغيرها، من مختلف الأحجام، وقد صنعت كل واحدة منها بفن وجمال. وبرع الأرمن في مهن عديدة أخرى، في الصناعة والحرف اليدوية المتعددة والتجارة والصياغة والخياطة والنجارة وغيرها… وما كان أكثر أهمية من البراعة هو الصدق والأمانة، حتى أقبل سكان المدينة قاطبة على التعامل مع الأرمني. ويندر أن تتحدث مع مقدسي عاش في عهد الإنتداب ولا يذكر لك أسماء العديد من أصدقائه الأرمن، وأسماء الذين تعامل معهم أول مرة، ثم لم يتعامل مع سواهم. ويندر أن تجد مقدسيا لم يعرف أو لم يسمع بالطبيب الماهر كاليبيان، هذا الطبيب الدائم الإبتسام والملجأ لكل الحالات المستعصية. إذ أشتد المرض على أحدهم، حملته أسرته دون تفكير إلى عيادة الدكتور كاليبيان في “أول نزلة المصرارة”. عيادته من معالم القدس، ومن لم يزر هذه العيادة مرة في حياته، أو من لم يعرف مكانها تحسبا للطوارئ، فهو ليس “مقدسيا”. أما اليوم الأرمني في القدس فهو يوم عيد الميلاد المجيد، الذي يحتفل به في التاسع عشر من كانون الثاني، لا السادس منه موعد إحتفال الكنائس الشرقية، والسبب في ذلك رغبة الأرمن في تفادي الإزدحام، خصوصا بسبب مجيء الآلاف من الحجاج من الخارج، وقد جرت العادة أن يبقى أرمن القدس في القدس، فلا ينتقلون إلى بيت لحم. وإنطلاقا من حرمة الأماكن الدينية، لم يكن مسموحا للناس بأن تسكن في القرب من الدير والأبنية الملاصقة له في القدس القديمة، فهذه كلها كانت من أجل رجال الدين، ما جعل الطابع الديني هو الغالب على حارة الأرمن. ولكن اخترقت القاعدة مع مجيء الأرمن اللاجئين هروبا من مظالم الأتراك في أوائل القرن العشرين، إذ فتحت أبواب الدير وكل الأبنية المجاورة له لاستيعاب الأعداد الكبيرةالوافدة، والتي هدّها الجوع والمرض. وتضامن السكان العرب معهم،وتعاونوا. أما المرة الثانية التي تعرض فيها الأرمن للهجرة، ولكن من القدس وليس إليها، فكانت في خلال حرب 1948. القائد عبدالله التل، قائد الكتيبة السادسة الأردنية التي دخلت القدس القديمة في 18 أيار 1948، روى في مذكراته كيف اتخذ من دير الأرمن مقرا للقيادة من أجل فصل حي الأرمن عن الحي اليهودي، ومن أجل حماية الأرمن من اليهود والعرب على السواء، فاليهود كانوا يعتبرون الأرمن مع العرب، وأما الجيش العربي نفسه الداخل للإنقاذ، فكان من بينه جنود قد لا يميزون بين الأرمني واليهودي، وهكذا يتعرض الأرمني للخطر من الجهتين، كما روى التل. والواقع أن حي الأرمن قد تكبد خسائر فادحة لأنه وقع بين نار الجهتين المتقاتلتين. ولما أصبحت المنطقة كلها هدفا لنيران اليهود، سقطت مئات القنابل على الدير وعلى الحي. ومع ذلك كله، تضامن الأرمن مع العرب، وكان على رأس الأرمن الأرثوذكس البطريرك كيورغ الثاني، وعلى رأس الأرمن الكاثوليك الأب كيومجيان، وكانا يحثان الناس على التحمل بصبر. وقد تحمل الأرمن خسائرهم بصبر. وقدموا كل التسهيلات الممكنة للجنود العرب. وكان أقسى يوم عاشه الأرمن في تلك المرحلة، يوم الأحد في 12/9/1948، يوم القنبلة التي رماها اليهود على ساحة دير الأرمن، بينما كان الناس خارجين من الصلاة، فقتل من جرائها ستة وجرح إثنان وثلاثون. بالإضافة إلى القصف، كانت مأساة الهجرة، فقد التجأ إلى دير الأرمن وحارة الأرمن ما بين ثلاثة آلاف وأربعة آلاف لاجئ أرمني من مختلف أنحاء القدس، بالإضافة إلى عائلات مسلمة من منطقة النبي داود ربطتها مع الأرمن صداقات من قرون طويلة. أعتقد هؤلاء “اللاجئون” أن مسألة اللجوء مؤقتة، لكنها تحولت إلى قضية مستعصية، فاضطر الكثير منهم إلى الهجرة متوجها نحو أرمينيا، أو الولايات المتحدة، أو أميركا الجنوبية، أو أوروبا، أو أستراليا… ولكن ما زال من تلك العائلات الأرمنية حتى اليوم عدد استقر في القدس القديمة ولم يتمكن من العودة إلى بيته في القدس الغربية التي احتلتها إسرائيل ما بين الخامس عشر والثامن عشر من إيار 1948. هؤلاء هم اللاجئون من القدس إلى القدس. وأما المرة الثالثة في مسلسل الهجرة، فكانت هي الأسوأ، وكانت في أعقاب حرب 1967، حيث أجبر الأرمن على تفريغ عدد من الأبنية احتلها الإسرائيليون عدوانا وانتقاما، وتمادت السلطات الإسرائيلية حين منحت قسما من المحتلين الجدد عقودا طويلة الأمد للسكن. ما زال الحي الأرمني حتى اليوم على خريطة القدس القديمة، غير أن حقيقة التجاور مع الحي اليهودي تجعله يجابه خطر التقلص أكثر وأكثر مع مرور السنوات. ومن المؤكد أن عدد السكان قد تقلص أيضا، ففي عهد الإنتداب بلغ عدد الأرمن في القدس القديمة والجديدة أكثر من عشرة آلاف أرمني. أما حاليا فيعيش نحو ألف أرمني في الحي الأرمني القديم، وأما مجموع الأرمن في إسرائيل وفي الضفة الغربية، فيقدر بنحو ألفين. هل يستغرب بعد هذا كله تجاهل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مسألة الإعتراف بالمجازر التاريخية التي تعرض لها الأرمن، وهي المجازر التي ذهبت مثلا في التاريخ المعاصر؟ طلب وزير خارجية أرمينيا فارتان أوسكانيان من إسرائيل، في 22 نيسان 1999، أن تعترف رسميا بأنه كانت هناك إبادة جماعية ضد الأرمن، لكنه لم يلق أي تجاوب؛ وقد شرح ريتشارد هوفانيسيان، أستاذ التاريخ الأرمني في جامعة كاليفورنيا أسباب تألم شعبه الأرمني من عدم اعتراف إسرائيل بالإبادة التي تعرض لها، بقوله: “إن الألم يتضاعف على ضوء التجربة اليهودية نفسها”. وفي أيام الهجرة، كما في أيام القدس، برهن الأرمن على أنهم لا ينسون القدس أبدا. فكان منهم من كتب أجمل الذكريات عنها، وكان هناك من كتب عنه وعنها. وإني لأشهد، بأنني ما عثرت يوما على كتاب مذكرات عن القدس، إلا وتناولته بشغف أبحث في سطوره وفيما بينها عن شوارع القدس، وحاراتها، وأيامها. وإني لأشهد بأنني ما وجدت حتى اليوم أقرب إلى روحي من مذكرات جون ميلكون روز التي نشرها بالإنكليزية سنة 1993 بعنوان: “أرمن القدس: مذكرات عن الحياة في فلسطين”. وصاحب المذكرات ولد في القدس سنة 1924، وأتقن اللغات الإنكليزية والأرمنية والعربية، ورفض مغادرة القدس مع أسرته. في مذكراته سجل للأحداث التي جرت في الأشهر الأخيرة، ووصف لذلك اليوم الذي كان على أبيه أن يغادر فيه المدينة لكونه بريطانيا مسؤولا، وعلى أمه الأرمنية أن تغادر أيضا لترافق زوجها، أما هو فرفض المغادرة، إذ طغى خوفه من المنفى بعيدا عن القدس على كل شيء، حتى على حبه لوالديه، وهو مدرك أنه قد لا يجد من يتفهم موقفه، وهو يقول: “فوق كل شيء كنت أتمنى أن أبقى مع الناس الذين كنت في طفولتي سعيدا لكوني جزءا منهم…” حين توقع جون روز ألا يجد من يتفهم موقفه كان مخطئا، فمن الذين تفهموا موقفه جيدا الدكتور وليد الخالدي أمين سر مجلس أمناء مؤسسة الدراسات الفلسطينية، وزميل جون روز في مدرسة المطران (St.Georges School) بالقدس، فهو من أخبرني كم كان جون روز محبوبا من قبل الطلاب العرب، كما قال: “كنا نناديه تحببا حنا وردة”. اضطر جون روز، أو حنا وردة، بعد فراغ الكولونية اليونانية من سكانها، أن ينتقل إلى البقعة الفوقا، الحي المجاور. وقد اختار السكن مع عائلات أرمنية قريبة وصديقة، فشعر بالقرب منها بالأمان، كما كان من أسباب الأمان راية الصليب الأحمر الدولي التي ارتفعت خفاقة على المبنى، بسبب وجود طبيب أرمني بين السكان. وهو يقول: “وصلت إلى لحظة حزينة جدا من حياتي… أنا أحببت بعمق كل ما في بيتنا في الكولونية اليونانية، الحديقة، الأشجار، الظلال، الفجر والغروب، الهواء، العصافير، الأزهار البرية والفراشات من حولها، الجيران، علاقاتنا مع الناس المحليين، الزوار، الأصدقاء، البائعين المتجولين، صوت الجنادب في الليل… وجرس كنيسة سانت سيمون الذي يقرع صباح كل أحد… كل هذا الحلم الجميل كان عليه أن يتمزق مع مغادرتي للكولونية اليونانية”. وروى كيف غادر الجنرال آلان كانغهام، المندوب السامي البريطاني، القدس في الرابع عشر من أيار، فقال إن كل من تبقى من السكان في البقعة الفوقا والجوار ذهب لرؤيته ورؤية موكبه الذي رافقته حراسة مشددة، وهو يمر في شوارع بيت لحم متوجها إلى مطار قلندية، حيث طار إلى حيفا، ومن هناك غادر فلسطين بالباخرة. ولعله كان خير شاهد على ما جرى في حي البقعة الفوقا، الحي الذي بقي عرضة للسلب وطوال سنة ونصف السنة بعد الإحتلال الإسرائيلي، أما البيوت الخاوية فلم يسكنها إسرائيليون إلا بعد التوقيع على إتفاقية رودس سنة 1949. قال أن الجيش الإسرائيلي هو الذي قام بداية باقتحام البيوت بحثا عن رجال ومعدات، ثم كانت جماعات الباحثين عن الطعام، تلتها جماعات السارقين لما خف حمله وغلا ثمنه، وأخيرا كانت مرحلة سرقة الأثاث، فقال أنه كان يشاهد من الشرفة شاحنات وعربات تجرها الخيل، وكلها “محملة بآلات البيانو، والبرادات، والراديوهات، واللوحات، والقطع الفنية، والأثاث، وكان بعض القطع ملفوفا بالسجاد العجمي الثمين..” . أما بعد تمكنه من العودة إلى بيته لتفقد ما جرى، فقد وجد كل شيء قد تغير. كانوا قد اقتحموا البيت. حطموا الأثاث. رموا الصور لعائلية على الأرض. تركوا الأبواب والنوافذ مفتوحة. أما مجلدات باخ التي كانت هدية من أبيه فوجدها مبعثرة على تراب الحديقة. ومع هذا كله، بقي جون روز في القدس المحتلة معلما للموسيقى في جمعية الشبان المسيحيين. أما الفنان بول غيراغوسيان، الأرمني المقدسي المهاجر إلى بيروت، الذي عاش طفولته وحداثته في أديرة القدس، والذي احتلت الأيقونة المسيحية المقدسية المكانة المركزية في نتاجه، فيقول عنه الفنان والمقدسي الآخر كمال بلاطة: “ومن خلال عناصر الأيقونة المسيحية أخذ غيراغوسيان في تأسيس النواة الأولى للصورة الإنطباعية للتراث، وبات العالم الأيقوني الذي توسطه جسد الإنسان، بمثابة المفتاح الذي أدخلنا غيراغوسيان بواسطته عتبات الزمن الفلسطيني”. أما غيراغوسيان نفسه فيقول عن حياته الفنية في القدس وبيروت معا: “وعرفت أن العالم يعيش أيضا في دير كبير، والإنسان في أي مكان، داخل الدير أو خارجه، يفتش دائما عن طريق”. ما زالت القدس تبحث عن طريق. أما الأبواق الصهيونية الزاعقة بأن القدس “مدينة لليهود” وحدهم، فهذه ينفيها نفيا قاطعا تاريخ من عاشوا في القدس بتواصل منذ القرن السابع للميلاد، وهؤلاء هم العرب؛ وكذلك تاريخ من عاشوا قبل هؤلاء، وبتواصل منذ القرن الرابع للميلاد، وهؤلاء هم الأرمن. تاريخ الأرمن في القدس، الصامدين منهم والمهاجرين، جزء لا يمحى من ذاكرة القدس. هو الجزء المشرق بالفن والعطاء والمحبة. *استاذة في الجامعة اللبنانية