لإعادة الإعتبار إلى هرانت دينك

سمير صالحة – اسطنبول النهار 24 ك2/يناير 2007 بالامس القريب سقط الصحافي التركي الارمني الاصل هرانت دينك على باب جريدة “اغوس” الصادرة باللغتين التركية والارمنية والتي كان يرأس تحريرها ويديرها منذ سنوات في”شيشلي” اقدم احياء اسطنبول. قتل بعدما اطلق عليه الرصاص غدرا من الخلف فتى في السابعة عشرة من عمره جاء خصيصا لهذه الغاية من طرابزون الواقعة شمال تركيا على ساحل البحر الاسود. مراهق يدعى أوغون ساماست اعترف بارتكاب الجريمة وحجته ان دينك قال “أنا تركي” لكنه اهان الدم التركي “لذلك قررت أن أقتله… لست نادماً على هذا”. جريمة هزت الداخل التركي وخارجه واثارت جملة من التساؤلات خصوصا ان المعلومات الاولية اشارت الى ترابط بين اغتيال دينك وقتل الكاهن الكاثوليكي الإيطالي اندريا سانتورو في شباط الماضي، وان الشرطة اوقفت ستة أشخاص آخرين متهمين بالتورط في عملية الاغتيال بينهم احد الاشخاص الذي زعم القاتل انه حرّضه على ارتكاب جريمته وهو ياسين خيال الذي أمضى 11 شهراً في السجن لتورطه في تفجير عبوة ناسفة استهدفت مطعم “ماكدونالدز” عام 2004. السلطات الامنية التركية نجحت في اعتقال الفاعل بعد مرور 32 ساعة فقط على الجريمة معلنة ان والده هو الذي اتصل ليبلغها أن الصور التي التقطتها كاميرات المراقبة، والتي بثتها محطات التلفزة هي لابنه. محامي دينك قال انه من المهم طبعا ان تكون السلطات اعتقلت الفاعل بهذه السرعة والفاعلية لكن الاهم هو تحديد اسباب الجريمة والجهة المحرضة لنعرف اذا ما كان فعلا يستحق الموت بهذه الطريقة. لن اطيل وانا استعرض شخصية دينك فقرّاء “قضايا النهار” يتذكرونه طبعا لأنني كتبت عنه اكثر من مرة مستشهداً بآرائه ومواقفه في ضرورة التقارب التركي – الارمني. هو من مواليد مالاطيا في جنوب شرق تركيا نشأ في عائلة حملها العوز الى اسطنبول وسلم الى دار الايتام الارمنية وهو في الثامنة من عمره بعدما انفصل الوالدان. ترعرع وكبر شاقا طريق نفسه بنفسه. تزوج من رفيقة قدره في الميتم وتواعدا على المضي نحو فسحة الامل. انهى دراسته الجامعية وافتتح مكانا للطباعة وبيع القرطاسية. تعرف باكرا على اليسارية التي قادته نحو التعامل مع محيطه الارمني والتركي بطريقة مختلفة. اراد التعبير والمشاركة والمساهمة ولو كان الثمن حياته. هو بمثاليته وتواضعه وشخصيته المحببة انتزع اعجاب وصداقة مئات الاعلاميين والمثقفين ورجال السياسة الاتراك، ولو لم يكن كذلك لما تحركت الصحافة وراحت وسائل الاعلام التركية تكتب منذ 4 ايام عن خصائله ومميزاته، وتجعل منه شهيدا سقط باسمها ذُهب ضحية حماسته واندفاعه الزائد في حملته التي اقحم الكثيرين فيها يقودها منذ سنوات نيابة عن الكثير من المترددين والمنزوين والخائفين باسم حرية الرأي والفكر. قدم قبل ايام اعتراضا امام محكمة العدل الاوروبية في ستراسبور ضد قرار المحكمة التركية التي ادانته بحسب المادة 301 من قانون العقوبات التركي بسبــــب مقالة نشرها حول القضية الارمنية “قراري هذا كان اخر ورقة املكها لاثبات براءتي فأنا لن اتمكن من العيش تحت وطاة هذا العبء وبتهمة لا استحقها”. سقط بعد ايام من كتابته حول “الحـــــمامات المرتجفة” القلقة موحيا لنــــــــا انــــــه يتوقع حدوث شيء ما. سقوطه كان درسا وعبرة لاكثر من جهة وفــــــريق فهــــو كان بامكانه لو اراد ان يقبل دعوات عشـــــرات المنظمات والهيئات التي كلفته مغادرة تركيا والالتحـــــــاق بها واضعة بتصرفه امكاناتها المادية والمعنوية، لكنه رفض واختار السير بحــــذائه المهترئ الذي لفت انتباه الكثير من وسائل الاعلام والصحافيين الاتـــــراك فكتبوا مشيدين بتواضع صاحب الحذاء والنعل المبخوش وتقشفه. سئل عن اسباب عدم مغادرته تركيا نهائيا فغضب وقال: “انا كالسمكة لا يمكنني العيش والبقاء طويلا خارج المياه التركية”. سقوطه سيقود الداخل التركي حتما نحو مناقشة اكثر من مسألة وقضية تتعلق بهذه الجريمة. قد يحمّل البعض خلالها حكومة “العدالة” المسؤولية السياسية بسبب المادة 301 من قانون العقوبات التركي التي صدرت أخيراً وتطاول مباشرة حرية الرأي والتعبير وحوكم بسببها اكثر من كاتب وصحافي ومثقف حتى الآن. من هنا مسارعة وزير الخارجية التركي عبد الله غول للالتفاف على محاولات محاصرة الحكومة في الداخل والخارج باطلاق دعوته التاريخية لكبار رجال الدياسبورا الارمنية للمشاركة في مراســــــم تشييع دينك ليكونوا ضيوفا على الحكومة التركية مبديا استعداد وزارته تحمل نفقات سفر واقامة الوافدين. استشهاد دينك تحوّل فرصة العصر في تركيا لمناقشة الآراء والتطلعات والطروحات غير الكلاسيكية على طريق الحوار والتقارب التركي – الارمني. الا يكفي ان يهتف الاف الاشخاص من الاتراك المسلمين “كلنا ارمن… كلنا هرانت” وهم يؤدون واجب نوبتهم في ليل اسطنبول البارد امام تلال من الزهور في مكان سقوطه؟ سنوات طويلة من القهر والحرمان والمعاناة في طفولته وشبابه لم تكن كافية. فجاء قرار عدم منحه جواز سفر يمكنه من التنقل خارج تركيا يزيد الطين بلة. رفع لاحقا ليحوله طائر الحرية يتنقل بين العواصم لجمع الجوائز وشهادات التقدير. رفض الحماية الشخصية “فما معنى ان اعيش محميا بقوة الشرطة في بلدي”. هو طالبنا في وصيته ان لا تتحول جنازته مهرجانا ومكانا لتفجير الحقد والغضب. لا يافطات لا شعارات ولا صراخ متحديا قتلته الذين لم يعجبهم كثيرا على ما يبدو التنوع الفكري الديني السياسي الفلسفي الاجتماعي بين الافراد. اعادة الاعتبار الى دينك تمر: اولا، عبر تحويل قصة حياته الى عمل سينمائي ضخم بتمويل تركي – ارمني مشترك يليق به ويحمل نبذة عن معاناته على قمة التواضع والمثالية هذه. ثانيا، عبر اطلاق اسمه على الجادة التي عاش فيها لسنوات طويلة وسقط فيها شهيدا. ثالثا، عبر مشاركة رسمية وشعبية واسعة في مراسم التشييع تعبيرا عن الرفض الشامل لهذه الجريمة النكراء وتعهدا بكشف ملابساتها وخفاياها واعتقال الفاعلين ومحاكمتهم. رابعا، عبر اطلاق اسمه على مكتبة متخصصة في اللغة والآداب الارمنية تتولى اهم جامعات اسطنبول مسؤولية الاشراف عليها. هرانت دينك قتل ربما لانه نجح بأعجوبة في اللعب على الكثير من التوازنات السياسية والفكرية والاجتماعية والدينية في تركيا فأزعج وضعه هذا بعض الغيورين على “مصلحة البلد”. 15 يوما من الحداد اعلنتها الجالية الارمنية في تركيا هي فرصة قد تكون قصيرة لكنها تاريخية امام الاتراك والارمن ليقولوا شيئا جديدا مختلفا مميزا طالما طالب به دينك وهو اصلا سقط من اجله. هو سيظل عضوا مؤسسا في “منظمتنا” السرية التي تجمع عشرات المتمردين الشرق الاوسطيين من كل الاعمار والاجناس يعملون في اكثر من حقل ومجال يطاردون فكرة خصوصية المنطقة ومميزاتها وضرورة التقارب والانفتاح من الداخل وبارادة داخلية قبل ان يفرض التغيير علينا فرضا وبمقاييس لا تناسبنا ولا علاقة لنا بها.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *