ليفون الذي مشى ألف كلم بحثا عن ذاكرته

جريدة البلد – لبنان 22 نيسان 2006 محمد بركات حمل ليفون ذاكرته على كتفيه ومشى. حمل أجداده وأجدادهم على كتفيه وقرر أن يحفر عميقا في الذاكرة الأرمنية عله يصل إلى ما يشفي غليله الوطني (والوطني هنا غير الوطني هناك). قرر أن يمشي إلى أرمينيا القديمة التي تسيطر عليها تركيا منذ أكثر من 65 عاما. حمله الرقم القياسي في سباق الـ 10 آلاف متر ركضا، منذ نحو 30 عاما، ليس الإنجاز الوحيد في حياة هذا الشاب الأرمني الخمسيني، فهو فاز ببطولة لبنان في الركض في العام 1974، ولم تثنه السنوات الثلاثون التي اكتسبها آنذاك، عن القيام بإنجاز آخر أكثر أهمية. سافر، مشيا على أقدامه، إلى جبل موسى الذي يتحدر منه وبقية سكان عنجر. اختار أن يقوم بهذه الرحلة إلى ذاكرته وذاكرة أجداده تزامنا مع الذكرى الـ65 لتأسيس عنجر، ومع عيد الصليب المسيحي. انطلق في 22 آب 2004 من النصب التذكاري للشهداء الـ18 في عنجر، ليصل إلى النصب التذكاري الثاني، الذي أقيم في جبل موسى، في 2أيلول، مستعملا خريطة أرمنية للوصول. يحكي ليفون أنه قطع 10 كيلومترات يوميا. كان يبدأ المشي عند الخامسة صباحا، يتوقف عند الحادية عشرة ظهرا للراحة، قبل أن يتابع مشيه عند الثالثة، حين تخفف الشمس أثقالها قليلا. سلك طريق بعلبك- رياق- طرطوس- بانياس-اللاذقية وصولا إلى الحدود التركية حيث عبر بجواز سفر لبناني وبتأشيرة دخول تركية. صادف الكثير من المتاعب في سفره، من الحيوانات البرية في السهول التي قطعها إلى بعض الرضوض التي أصيب بها، وأجبرته على تخفيف سرعته ليومين متتاليين. لكنه وصل بعد عشرة أيام إلى البلدة التي طرد منها أجداده ونام عند بعض الأقرباء الذين بقوا هناك منذ منتصف القرن الماضي. وكان الآلاف من العنجريين يجتمعون في الجبل للمناسبة نفسها. ثم انطلق في رحلة إلى المدن الأرمنية القديمة مدتها 15 يوما. بدأها في “أورفا” المهجورة من الأرمن والتي يسكنها الأكراد والأتراك، حيث رأى الكنائس وقد تحولت إلى جوامع. وقد شعر هناك بالحزن “كما يشعر الفلسطيني الذي يرى بيته مهدوما والإسرائيلي يسكن فيه مكانه”، يقول. ويقول: إنه نام تلك الليلة في فندق، فيما نام الغرباء في بيوت أجداده. ثم انتقل إلى “ديكراناغير”، أي مدينة الملك ديكران الذي بنى أرمينيا، وقد أصبح اسمها ديار بكر اليوم. ثم إلى “بيكليس” و”فان” و”أريزروم”و”إيفدر” و”جبل أرارات” و”مراش”، التي يتحدر منها معظم سكان برج حمود، على ما يقول، وصولا إلى “دارس” ثم “آني”، عاصمة مملكة بقرادوني، بلدة الـ1001 كنيسة، والتي لم يتبق فيها اليوم غير أطلال 10 أو 15 كنيسة، فيما دمر الأتراك البقية. وفي 22 أيلول كان ليفون في بيروت حيث عاد والتقى بآلاف قرروا زيارة عنجر لإحياء ذكرى تأسيسها. كان ليفون يحمل في جعبته أكثر من 300 صورة عن تلك المدن التي زارها. حملها لينقل التاريخ، الذي يدرسه الطلاب الأرمن، من الكتب والكلمات، الى الصور الحقيقية: “ليعرف الأطفال أن تاريخهم حقيقي وأن هناك شيئا تركه أجدادهم قبل أن يقتلوا ويهربوا”. يعرف أن أجداده عاشوا هناك، لذلك يريد أن يعود ليشتمّ رائحتهم. لكنه يعرف أن أبناءه وأحفاده قد لا يذكرون أرمينيا القديمة لأن جدهم، أي هو، سيكون مولودا في لبنان ومدفونا فيه. يروي أن الأرمن الذين بقوا في جبل موسى لا يتحدثون الأرمنية، بخلاف الذين هاجروا إلى عنجر. لا يحتفظون من تراثهم إلا بأسمائهم الأرمنية، علّها تحل محل الوطن واللغة الضائعين. ليفون يدور في هذه الأيام بين قبرص وكندا وسورية ولبنان و”غوركراباخ” المسلوخة عن أرمينيا المستقلة، ليقول من خلال معارض للصور، أن أرمينيا ما زالت موجودة وأنها يجب ان تحيا في قلوبهم وفي الصور التي لن يتوقف عن جمعها. سيسافر بالسيارة المرة الآتية وليس مشيا. أوفى النذر الذي قطعه على نفسه بالذهاب إلى أرمينيا مشيا. لكنه سيمشي إلى دير الزور في سورية هذا العام “احياء لذكرى من توفوا على الطريق قبل وصولهم إلى دير الزور”. ليفون يملك اليوم متجرا لتصليح دواليب السيارات على المدخل الرئيسي لعنجر. ليفون قصة أرمنية تتنقل على قدمين قويتين، لكن لا يبدو أن لها شاطئا تستطيع ان تحطّ فيه، سوى الذكريات المشتركة. ليفون يشبه ارمينيا، المتناثرة ناجين ومهاجرين في الشرق والغرب، يشبه القصة التي يحاول تجميعها. يشبهها كثيرا.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *