كاراباخ الجبلية والسهلية لقد أغنى الشعب الأرمني خلال قرون طويلة وطنه التاريخي وموطنه الأصلي بالمعالم الثقافية التي لا تحصى. وقد تضررت أرمينيا على التوالي من الأمم الدخيلة التي غزتها ودمرتها وألحقت الأذى بالحضارة الأرمنية وغالباً ما كانت تبطئ وحتى تثبط من تطورها. حسب المصادر الأولية، يعتبر القرنان الحادي عشر والثاني عشر فترة عصيبة في تطور الشعب الأرمني وثقافته عندما كانت فترة سيادة الأتراك والسلاجقة. يكفي أن نذكر أنه في أواخر عام 1170 عند احتلال قلعة “باغابيرت” والزحف الى “سونيك” جعلوا النار تلتهم أكثر من 10 آلاف مخطوط. ولم توفر أذربيجان أي جهد لنفي الصروح التاريخية والمتعددة الأشكال عن وجه البسيطة وإخفاء آثارها رغبة منها في استملاك الأراضي الأرمنية التي احتلتها خلال العقود الماضية. وغدت أعداد النصب التذكارية المهدمة تزداد عاماً بعد عام، وتتوسع جغرافياً. ولم يغفل أيضاً المعالم التاريخية الموجودة في الأراضي المأهولة بالأرمن مثل المعالم التاريخية في جمهورية كاراباخ الجبلية وكاراباخ الشمالية ومناطق مأهولة بالأرمن على الضفة اليسرى من نهر “كورا”. وكذلك لا يمكن تقليص أهمية الآثار والنصب التذكارية الموجودة في كاراباخ الشمالية (خاصة في كيدابيك وتاشكيسان) والمناطق المتاخمة لجمهورية كاراباخ الجبلية (المحررة حالياً). كان المؤرخون في أكاديمية العلوم في أذربيجان يحاولون على مدار عقود متتالية (بدءاً من 1960) عبر الأبحاث التي نشروها إقناع الأوساط العلمية والبرهان على أن الآلاف من المعالم التاريخية الموجودة في أراضي الدولة التي نشأت بعد خلق جمهورية أذربيجان ليست أرمنية بل هي إرث من الأغفان، الأسلاف المسيحيين من الشعوب التركية-التترية. ولكن منذ عام 1988، قامت عملية المجازر الواسعة والحانقة بحق النصب التذكارية الأرمنية والتي أشهرت على أنها “أغفانية” بشكل حانق في أذربيجان بفضح سياسة أذربيجان التي تغيرت رؤيتها فعوضاً عن جهودها في استملاك النصب التذكارية الأرمنية فضلت نفيها برمتها. وبنتيجة ذلك، تعرضت مئات المقابر الأرمنية الغنية بآلاف الصلبان الحجرية والأضرحة والكتابات ذات القيمة التاريخية الكبيرة وكذلك العديد من الأديرة والكنائس الى عمليات هدم واسعة النطاق. والسؤال الذي يطرح نفسه: إن كانوا هم من أجيال الأغفان فلماذا يتلفون تاريخهم وحضارتهم؟ الحقيقة هي أن شعب أغفان الذي عاش فقط في المناطق الواقعة بين بحر قزوين ونهر كورا، زال من الخارطة التاريخية في القرن التاسع وليس من أسلاف الأذريين لا عرقياً ولا حضارياً. وفي نهاية عام 1988، وصلت عملية إتلاف النصب التذكارية الى حد لم يسبق له مثيل. لقد استفاد الأذريون من ظروف الحرب وبدأوا بتدمير الكنائس الأرمنية ليس بالمتفجرات، كما كانوا يفعلون بشكل أساسي سابقاً، بل عبر طلقات مدفعية حيث لم تتمكن الجدران من مقاومة الانفجارات التي تحدث فجوات عريضة الأقطار. وهكذا، فمثلاً بلمح البصر تم هدم دير يغناسار المسالم قرب قرية كيداشين أثناء احتلال القرية في أيار 1991. وبين الأعوام 1950-1960 وفي جدران إحدى المدارس على الحد الشرقي الجنوبي من قرية “دزار” تم تلحيم صلبان حجرية وأضرحة وتقريباً 133 قطعة من لوحات حجرية أرمنية مكتوبة نقلت من المقبرة التاريخية والواسعة جداً التي تم تدميرها تماماً ويعود تاريخها بين القرن الثالث عشر والثامن عشر. كانت الكنيسة الأم (القرن الثالث عشر) في قرية دزار نصف مهدمة حتى نهاية عام 1950، أما الآن فلا أثر لها على الاطلاق. كانت كنيسة القديس سركيس (عام 1274) في قرية دزار قائمة حتى نهاية عام 1950 أما اليوم فهي مدمرة كلياً. دير كيداميتشو (عام 1301) تم تدميرها عام 1960، وبنوا بتلك الأحجار عدة بيوت ومبنى مدرسة في قرية دجراك، حيث نجد داخل جدرانها 22 قطعة من لوحة حجرية. في عام 1983 تم تفجير كنيسة (القرن الثاني عشر- القرن الثالث عشر) تقع على بعد 2 كم جنوب غرب قرية يغيكنود (غامشلي) في منطقة كارفاجار. في الأعوام 1970-1980 تم ترحيل وتكسير كافة الصلبان الحجرية التابعة للمقبرة التي تعود الى القرن الثاني عشر-الثالث عشر وتقع على حد قرية أغايا. عام 1983 تم تفجير الكنيسة التي بنيت في القرن الثالث عشر بين قرية أراكيلوتس (أروخلو) في منطقة كاشاطاغ (لاتشين سابقاً) وقرية موفسيساشين (كورد-حجي). في الأعوام 1970-1980 تم تسوية الأرض التابعة للمقبرة (القرن الثاني عشر- القرن العشرين) التي تقع على الحد الجنوبي الشرقي من قرية هارار (باراتشان الداخلية) في منطقة كاشاطاغ وفي مكانها قاموا ببناء مجمع لتربية الحيوانات. وفي السنوات الأخيرة تم تفجير كنيسة (أوهانا يغتسي) التي تعود للقرون الوسطى وتقع بجوار قلعة كرهام على السلسلة الجبلية سوسان سار تحيط بها الغابات في شمال زانكيلان. في عام 1970 تم تدمير الكنيسة (القرن الثاني عشر-الثالث عشر) التابعة لقرية توماس القديم في منطقة جبرائيل، وقد استعملت الأحجار أثناء بناء أدراج مدرسة. في منتصف عام 1980 تم تغيير شكل كنيسة فامكاسار (القرن السادس-القرن السابع) تحت شعار “إعادة تشييد”، أما الصليب الحجري الوحيد المحتفظ به فقد نقل الى متحف أغدام المفتوح لتقديمه على أساس نصب تذكاري أغفاني. تم الحفاظ على كنيسة واحدة من أصل 12 كنيسة (القرن التاسع-القرن الحادي عشر) التي تقع في قرية غالاكيانت في منطقة كيدابيك، وهذه في حالة نصف مدمرة. في الأعوام 1986-1987 تم هدم الكنيسة (القرن التاسع-القرن الحادي عشر) التي تقع على بعد 8 كم جنوب قرية بانانتس. أما الأحجار فقد رميت في الوادي. في عام 1960 تم تدمير الكنيسة (القرن السادس عشر-القرن السابع عشر) التابعة لقرية تسنزاهال في منطقة باشكيسان من أساسها وبنوا مكانها مدرسة. في نهاية عام 1970 تم تدمير الكنيسة التي تقع قرب قرية كيرانتس بحجة إنشاء عامود كهربائي. في عام 1970 تم تدمير الكنيسة (القرن السادس عشر-القرن السابع عشر) في قرية كارهاد العليا بحجة استثمار المناجم. حتى تحرير شوشي عام 1992 تم تحويل كنيسة المدينة التي تدعى “كنيسة خضراء” مكاناً لشرب المياه المعدنية أما الكنيسة الأم “غازانتشيتسوتس” فقد تحولت الى دورات مياه عامة. خلال بناء سد “سارسانكي” تم تدمير جسرين من القرنين الثاني عشر والثالث عشر وثلاثة أديرة وحوالي 70 صليباً حجرياً وضريحاً دون تسجيلهم أو تصويرهم، وثم استخدمت الحجارة إما للحاجز أو تركت في قاع السد. في عام 1980، وتحت شعار “الترميم” تم تبليط جدران كنيسة القديس سركيس من القرن السابع عشر في مدينة كانتساك “كانتشا”، وبذلك فقدت الكنيسة هويتها الأرمنية، وحالياً تستخدم كقصر للصداقة بين الشعوب. وفي السنوات الأخيرة، قاموا بتدمير المقبرة الموجودة في باكو والتي تعود الى القرن الثامن عشر-القرن العشرين، وثم استخدموا الحجارة في بناء أدراج الطريق المؤدية من فندق إنتوريست الى حديقة كيروف. تم تهديم دير بارين بيج الموجودة في منطقة شوشي في جمهورية كاراباخ الجبلية بعد 11 شهر من سقوطها بيد الأذريين (تم تخريرها في 17 أيار 1992)، فقد تم تدمير المعبد كلياً، أما الكنيسة التي بنيت عام 1658 فدمرت جزئياً. في بداية عام 1970 تم تدمير دير القديس ميسارو الذي يقع في منطقة شاماخو. أذربيجان – ناخيتشيفان تقع أقاليم شاهابونك ويرنتشاك وكوختن التابعة لأرمينيا التاريخية تحت تبعية جمهورية ناخيتشيفان ذات الحكم الذاتي. في آواخر القرون الوسطى، كانت مدينة تشوغا (باللغة الأذرية جولفا) مركزاً لأقليم يرنتشاك وتقع على الضفة اليسرى لنهر أراكس، على الحدود بين إيران وناخيتشيفان حالياً. كانت تشوغا تعتبر مكاناً مشهوراً في القرن السابع، وتطورت في القرن العاشر وحتى الثالث عشر، وتحولت الى مدينة. أما بين القرنين الخامس عشر والسابع عشر فقط أضحت مركزاً تجارياً معروفاً. بهدف تطوير الحرف والتجارة في إيران، قام الملك شاه عباس في عام 1605 بترحيل السكان الأرمن من تشوغا الى إيران ودمر المدينة ولم يبق فيها سوى المقبرة. إن الخراب المتبقي من الكنائس 18 في مدينة تشوغا والجسر والبيوت والسوق المغلقة والأبنية المأهولة والصلبان الحجرية المدمرة كلياً في المقبرة تبقى صامتة تجاه الماضي المجيد، وفي نفس الوقت شاهداً بليغاً على تلك الأعمال. تمتد مقبرة مدينة تشوغا على الطرف الغربي من المدينة المدمرة على طول تلال صغيرة تفرقها حفر ضيقة. يمكن تقسيم أحجار مقبرة تشوغا الى ثلاثة أقسام حسب فترة إنجازها: القرون 9-14، القرون 14-16، القرن 16 حتى عام 1605. وتمثل نماذج لا تكرر من تعدد أشكالها وزخرفاتها ومنحوتاتها وفن نحت الصلبان الحجرية. والجدير ذكره أنه بعد عمليات الترحيل من تشوغا، تم تسجيل حوالي 10000 صليب حجري في المقبرة عام 1648، وبين الأعوام 1903-1904 حوالي 5000 صليب حجري والآلاف من الأضرحة، أما بين الأعوام 1971-1973 حوالي 4000-4200 صليب حجري. لم تحز المقبرة المكتشفة في أراضي أذربيجان على انتباه إدارة حماية النصب التذكارية خلال الفترة السوفياتية، وعدا عن ذلك قام السكان الأتراك في القرى المجاورة بتكسير الصلبان الحجرية وحولوها الى مكعبات على شكل واحد بهدف استخدامها في البناء. تجدر الإشارة الى أنه من المستحيل الحصول على معلومات دقيقة حول الحجم الحقيقي للجريمة المنفذة، لأنه لا يمكن، ولا بأي شكل من الأشكال، الحصول على إذن زيارة المعالم التاريخية الأرمنية، وحتى للمواطنين الأجانب في أذربيجان. باستثناء زيارة الاسكتلندي ستيفن سيم الذي زار ناخيتشيفان في خريف عام 2005 ونجح في زيارة وتصوير الأديرة المدمرة تماماً في شوروت وأبراكونيس وكرنا خلال 3 أيام قبل ترحيله من البلاد. وعليه، فإن إصرارنا حول إتلاف المعالم الأثرية على نحو واسع في المناطق الأرمنية المحتلة من قبل أذربيجان مبني على الدليل بإتلاف تلك النصب التذكارية الموجودة قرب الحدود ويمكن رؤيتها من أراضي جمهورية أرمينيا وجمهورية كاراباخ الجبلية أو من إيران. وقد برهنت الصور الملتقطة من الحدود الإيرانية عام 1998 كيف كان الأذريون يدمرون ويرحّلون الصلبان الحجرية وأحجار المقابر بالبلدوزرات ويبسطون أماكنها وينقلون الحجارة… ودامت هذه الأعمال الوحشية مدة 3 أسابيع تم خلالها إتلاف حوالي 30% من الصلبان الحجرية المنحوتة التابعة للمقبرة. وعملية نقل الحجارة المكسرة من المقابر عبر القطار إنما تدل على أن كل ذلك تم بأوامر صادرة من سلطات أذربيجان. وقامت منظمة اليونيسكو ومنظمات دولية معنية أخرى بتقديم احتجاجات قوية وأوقفت تلك “المجزرة الثقافية” التي راح ضحيتها حوالي 800 صليب حجري. والمعلومات الموثقة التي وردتنا تؤكد على أنه تم تدمير أكثر من 250 ديراً أرمنياً في ناخيشتيفان عمداً مثل الدير الأحمر في أسداباد ودير القديس المخلص في تشوغا. لكن الوحشية مستمرة، فالآن لا يمكن مشاهدة أية صلبان حجرية قائمة تم تصويرها بجوار مقبرة تشوغا من الطرف الإيراني عام 2002. أعلن إنذار جديد بين 10-14 كانون الأول 2005. وهذه المرة الصور الملتقطة من الضفة الإيرانية تبرهن على أنه أكثر من 100 جندي من الجيش الأذري يحولون الصلبان الحجرية والأضرحة المطروحة والمنقلبة على الأرض منذ عام 2002 عبر المطارق والمدقات الى حصى. وكانت الحفارات والآليات الشاحنة وغيرها من المعدات تشارك كذلك في الأعمال. هذه الدلائل تؤكد دون أدنى شك أنه يبدو للعالم المتحضر أن كل النصب التذكارية التي تقع حالياً في أراضي جمهورية كاراباخ الجبلية والمناطق المحررة المجاورة لها مازالت على قيد الحياة (رغم أنه خلال الأعوام 1993-1998 وبفضل عمليات تسجيل النصب التذكارية ودراستها وتوثيقها تم إدراج أكثر من 1600 نصب تذكارية أرمنية من الأراضي المناطق المحررة). تعتبر عملية إتلاف هذه الأوابد الهندسية تهديداً لتاريخ الحضارة العالمية، لأنها تشكل قيمة إنسانية بغض النظر عن وضعها الجغرافي والتبعية القومية. * من كتاب ” لمواجهة سياسة اذربيجان العدوانية تجاه الارمن “