نحن واصدقاؤنا الارمن

بقلم د. رياض نعسان آغا وزير الثقافة السوري www.khabararmani.com كان الأرمن جيراني حين سكنت في حي الميدان في أثناء دراستي الثانوية في حلب، وكنت أشعر بإعجاب شديد بهم، وأتعاطف مع مأساتهم الإنسانية التي تشبه مأساة شعب فلسطين. لقد قدموا إلى سورية هاربين من المذابح مطلع القرن العشرين ، فتلقاهم الشعب السوري بالمحبة والرعاية ووفر لهم الأمن والاستقرار، وقد عاشوا في البداية حياة بائسة، إلا أنهم سرعان ما نهضوا بمستواهم المعيشي من خلال براعتهم في الصنعة حتى بات أهل حلب يفضلون الميكانيكي الأرمني على سواه، وكانوا بارعين في شتى المهن والعلوم، فقد عرفنا منهم أطباء ومهندسين لامعي ، مثلما عرفنا أدباء وفنانين كباراً، والمتتبع لدورهم في مهجرهم العربي يجد أنهم ساهموا معنا بقوة في النهضة الاجتماعية والأدبية ، وأسسوا العديد من الجمعيات والنوادي وشكلوا الفرق الغنائية والمسرحية، هم بالطبع مواطنون سوريون يتمتعون بكل حقوقنا المدنية، فهم ممثلون في البرلمان ويخدمون في الجيش وبعضهم وصلوا إلى مناصب قيادية عليا في القوات المسلحة وفي مواقع سياسية، وهذا الانفتاح العربي على الجاليات غير العربية دون حساسية ليس حديثاً وليس حكراً على سورية، فنحن نذكر أن أول رئيس وزراء في مصر كان أرمنياً وهو بوغوص نوبار باشا في دولة محمد علي الذي هو كذلك لم يكن عربياً، وقد شكل نوبار الحكومة المصرية ثلاث مرات في أواخر القرن التاسع عشر ، وعلى الرغم من حفاظ الأرمن الشديد على خصوصياتهم الثقافية ( اللغوية والدينية ) دون أن يضارهم أحد في تمسكهم بقوميتهم ولغتهم، فإن ثقافتهم باتت جزءاً من النسيج الاجتماعي المزركش المعبر عن ثراء التعددية التي تعيشها سورية، وكان من اللطيف أن يطمح لخلافة صباح فخري على عرش غناء القدود الحلبية فنان أرمني هو الذي عرف باسم شادي جميل، وأن تكون أشهر أغنية كوميدية غناها دريد لحام لمحبوبته الظريفة ( فطوم حيص بيص ) تلك التي يقول فيها ” فطوم فطومة ، خبيني في بيت المونة ” لحناً أرمنياً شهيراً، وهناك فنانون مشهورون في الوطن العربي أصلهم أرمن مثل الفنانة لبلبة والفنانة نيللي وأختها الطفلة فيروز التي أبهرت عشاق السينما في أدوارها مع أنور وجدي، وفي سورية اليوم حضور قوي للفرق الموسيقية الأرمنية التي تلقى دعماً رسمياً واحتضاناً جماهيرياً . وقد حفزتنا هذه العلاقة الفريدة بين العرب والأرمن إلى الحفاظ عليها مع الأجيال الشابة في جمهورية أرمينيا، فدعونا السيدة هاسميك بوغوسيان وزيرة الثقافة الأرمنية لزيارة دمشق، فلبت الدعوة مشكورة أواخر نوفمبر تشرين الثاني 2008 وترأست وفداً ثقافياً رفيع المستوى لإقامة أيام الثقافة الأرمنية في سورية، لمشاركتنا احتفاليتنا بدمشق عاصمة الثقافة العربية . وكان صديقنا الدكتور أرشاك بولاديان سفير أرمينيا بدمشق ، وهو باحث أرمني سوري ، كنت تعرفت إليه حين التقينا سفيرين في أبو ظبي قبل بضع سنين، قد أعد لوزارة الثقافة السورية كتاباً لطيفاً فيه موجز مختصر لتاريخ العلاقات العربية الأرمنية ، التي تحدث عنها بالوثيقة المعرض الأثري الذي اغتنى مجموعات من النقود الأموية المصكوكة في أرمينيا ، فضلاً عن المخطوطات النادرة التي تعود إلى القرون الهجرية الأولى . لقد استعادت هذه النفائس من ذاكرة التاريخ عصوراً من العلاقة الحميمة بين العرب والأرمن ، ففي القرن الأول قبل الميلاد امتدت إمبراطورية ( ديكران ) ووصلت إلى سورية وفلسطين ، وقد أنهاها القائد الروماني بومبيه الذي أخضع أرمينيا لنفوذ بيزنطة ، و مع ظهور الإسلام ، وصلت الفتوحات الإسلامية إلى أرمينيا في عام 850 م وقد احترم المسلمون الأوائل عقيدة الأرمن الدينية ( وهم من أوائل المسيحيين ) وعقدوا معهم أفضل الصلات ، ويذكر المؤرخ الأرمني البرفسور فلاديمير بدروسيان أن العرب المسلمين أقاموا أول دولة أرمنية في تاريخ الشعب الأرمني ، وهذا السلوك العربي الحسن يبرر عمق التواصل الأرمني مع سورية وبلاد الشام ومصر منذ العصر الأموي ، وأعتقد أن أمام الأجيال الشابة مسئولية تنمية هذه العلاقات في عالمنا الذي ينبغي أن يكون أكثر انفتاحاً من الماضي .

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *