محمد نور الدين جريدة السفير-لبنان 18 آب/اغسطس 2012 يخطئ من يقول إن المعارضة لسياسات تركيا الخارجية في المنطقة تقتصر على معارضي «حزب العدالة والتنمية» في الداخل. هناك ثابتة انه ليس من حزب أو طرف في الداخل يؤيد مثل هذه السياسات، من «حزب الشعب الجمهوري العلماني» إلى «حزب الحركة القومية» المتشدد إلى «حزب السلام والديموقراطية» الكردي، وكلها أحزاب ممثلة في البرلمان. ليس من حزب في البرلمان أو خارجه، غير «حزب العدالة والتنمية»، يؤيد هذه السياسة. أكثر من ذلك، نشرت صحيفة «حرييت» قبل أيام ما سمته «احتكار القرار» في وزارة الخارجية، حيث يتمسك وزير الخارجية احمد داود اوغلو برأيه ويتهم الديبلوماسيين في الوزارة بأنهم جاهلون لا يعرفون سوريا التي «أعرفها أكثر منكم». وتشير الصحيفة إلى أن التعارض في الرأي هذا داخل وزارة الخارجية، موجود كذلك بين الوزير والعديد من السفراء في الخارج، ولا سيما أولئك الموجودين في عواصم دول الشرق الأوسط. ولا يتردد كاتب تركي في التعليق على ذلك بالقول ان «يكون وزير خارجية تركيا شخص عنده مثل هذه الأنا المتضخمة جدا فهذا خطر كبير على تركيا. أما في مثل هذه الظروف في الشرق الأوسط، فإن الخطر على تركيا من وجود وزير بمثل هذه الأنا المتضخمة يصبح كبيرا جدا». ولا تقتصر الانتقادات على المعارضة، بل غالبا ما ترتفع الأصوات من داخل الحزب في الاجتماعات المغلقة، التي ترشح منها انتقادات حتى من أقرب المقربين. أما الذين يتجرأون ويكتبون علنا على صفحات الصحف فمصيرهم معروف، إما ممارسة الضغوط عليهم لتغيير آرائهم وإما الضغط على مؤسساتهم لتطردهم، وهو ما حصل مع عدد كبير من الصحافيين البارزين. وتواجه سياسة داود اوغلو الخارجية مأزقا جديا منذ وقت طويل، ولا سيما تجاه الأزمة السورية. وما كنا نكرره من رهانات غير واقعية نتيجة النقص في المعرفة عن منطقة غابت عنها تركيا تسعين عاما، بات لازمة يكتبها كتاب أتراك بارزون أيضا. إذ اعتمدت أنقرة سياسة الصعود بالمصعد في تناولها الأزمة السورية تحديدا، فوصلت بسرعة إلى الطابق الأخير، بل إلى سطح المبنى، بدلا من أن تصعد المبنى على السلالم طابقا طابقا وعلى مهل. وصلت سياسة داود اوغلو إلى سطح المبنى، ولم يكن أمامها سوى الانتظار، أو الانتحار بإلقاء نفسها من على السطح. وبالرغم من أن الاعتماد على الحكمة وبعد النظر كان كافياً لرؤية مبكرة للنتائج، غير انه استلزم مرور سنة ونصف السنة بالكامل لكي يلمس منظرو «حزب العدالة والتنمية» النتائج الكارثية لمثل هذه السياسة: ÷ تصاعد في عمليات حزب العمال الكردستاني داخل تركيا وعودة أنقرة إلى مناخ التسعينيات. ÷ ظهور واقع كردي جديد في شمال سوريا يجعل أنقرة في مرمى «طوق كردي» يزداد اتساعا. ÷ تصاعد منسوب الاحتقان السني ـ العلوي في الداخل التركي. ÷ تعريض مصالح أنقرة للخطر في المنطقة. ومن ذلك في لبنان، حيث انتقلت تركيا من وضع المرحّب به بعد حرب تموز العام 2006 واعتداء «مرمرة» واستذكار الضحايا الأتراك في احتفال في الضاحية الجنوبية، إلى وضع بات كل مواطن تركي في لبنان معرضا للخطر. ÷ خسارة تركيا، بسبب سياستها المذهبية، ثقة المكونات الاجتماعية من كل الأديان والمذاهب في منطقة الشرق الأوسط. ÷ أما المشهد الأكثر إذلالا لتركيا فهو أن تكون في ظل حزب إسلامي، أكثر انسجاما وتطابقا مع السياسات الغربية في المنطقة. لقد ضحّت تركيا بكل إنجازات سياساتها السابقة من أجل رهان اتضح انه وهم وانتحار. ويحلو للمسؤولين الأتراك أن يرددوا أن الوقت فات على أي إصلاح في سوريا، وفي ظل بقاء الرئيس بشار الأسد على رأس النظام. وربما يكون الوقت قد فات منذ زمن بعيد على إمكانية أن تستعيد تركيا دورها وصورتها السابقة، وفي ظل قيادة «حزب العدالة والتنمية» لها. وتشير استطلاعات الرأي في تركيا إلى أن شعبية «حزب العدالة والتنمية» في ازدياد، من 50 في المئة في انتخابات العام الماضي إلى أكثر من ذلك، وقد تصل إلى 52 أو 53 في المئة. وقد يتساءل البعض: كيف يمكن لهذه السياسات الفاشلة أن تعزز شعبية الحزب؟ الجواب بسيط جداًـ وهو أن رئيس الحكومة التركية رجب طيب اردوغان يريد أن يكون رئيسا للجمهورية في العام 2014. ولن يكون له حظ مؤكد إلا باتباعه سياسات مذهبية واتنية متشددة، لينتزع دعم الفئات السنية والقومية التركية. ومن هنا هذا الخطاب المعادي للعلويين والأكراد في الداخل والأسد وإيران والعراق والشيعة وأكراد سوريا في الخارج. لكن بقاء الحزب في السلطة شيء وظهور المخاطر التي بدأت تهدد تركيا بالفعل شيء آخر. وهنا تجد أنقرة نفسها في مأزق كبير، وهو أن تلافي الأخطار التي بدأت تهز الاستقرار والكيان غير ممكنة في ظل استمرار سلطة «حزب العدالة والتنمية»، تماما كما كان غير ممكن تلافي انهيار الإمبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى في ظل سياسات جمعية «الاتحاد والترقي» العنصرية والقمعية. والمعادلة اليوم واضحة: على الأتراك اليوم أن يختاروا بين تمسكهم بسلطة وسياسات «حزب العدالة والتنمية» وأن يدفعوا بالتالي ثمنا غاليا لهذا التمسك، ولكن بعد فوات الأوان، أو أن يجدوا طريقا ووسيلة لحماية تركيا ومنعها من أن تكرر التجربة المرة والكارثية لـ«الاتحاد والترقي».