د. مارغريت الحلو * “1915 – 1995: حق وعدالة” بيروت – 1995 تعود جذور القضية الأرمنية إلى العام 1375 تاريخ سقوط المملكة الأرمنية المستقلة، ووقوعها فريسة تتقاسمها كل من تركيا وروسياوبلاد فارس اثر الحروب التي نشبت بينهم في القرون التي تلت. ومع بروز بوادر المسألة الشرقية أواخر القرن الثامن عشر، وتكريس الوجود الروسي في كل من جورجيا وأرمينيا القوقازية في الربع الأول من القرن التاسع عشر، ابتدأت القضية الأرمنية تتبلور وتزداد تعقيدا. وبالتالي ازدادت المعاناة الأرمنية في أنحاء الامبراطورية حدة، وابتدأت الأحداث تسمع مطالبة بحل لهذه القضية. ففي حين تمتع سكان أرمينيا الروسية بحياة كريمة بحياة نسبيا، عانى أرمن الامبراطورية الأمرين، وأخذوا يجاهدون لضمان الحد الأدنى من الظروف الحياتية المقبولة. ومنذ ذلك الحين ابتدأ الأرمن بطرح مطالبهم التي قلما لاقت آذانا صاغية حتى في يومنا هذا أي العصر الذهبي للحرية والديمقراطية والعدالة. سنقسم عرضنا للمطالب الأرمنية والأساليب المستخدمة لتحقيقها إلى مراحل تاريخية. أما المعيار المعتمد في تحديد نهاية مرحلة وبدء أخرى فسيكون التغير إن في نوعية المطالب أو في نوعية الأساليب المستخدمة أو الجهة التي تقوم بدفع المطالب هذه. المرحلة الأولى – 1830 – 1914: تم التركيز في مطالب الأرمن خلال القرن التاسع عشر على إدخال إصلاحات في الامبراطورية العثمانية كفيلة برفع القهر والظلم عنهم، وحماية تراثهم القومي وثقافتهم الوطنية وصون كرامتهم. بمعنى آخر طالب الأرمن بتطبيق المساواة بينهم وبين الأتراك من حيث الحقوق والواجبات دون التطرق أبدا إلى موضوع الإستقلال عن الامبراطورية العثمانية. ولقد عمل الأرمن لتحقيق أهدافهم هذه على جبهتين: جبهة داخلية حاولت إقناع السلطنة بتبني الإصلاحات المنشودة، وجبهة خارجية عملت على تجنيد الدعم والضغوط الخارجية لتحقيق هذه الأهداف. وفي محاولة تحقيق أهدافهم هذه وقع الأرمن فريسة الاستغلال الدولي فكانوا أحيانا العصا التي تهدد بها الدول الأوروبية السلطنة العثمانية. وأحيانا الجزرة التي تشبع بها أطماع السلطنة لكي تستطيع بدورها إشباع أطماع الآخرين. على الصعيد الداخلي جاءت الانجازات محدودة جدا، وتجلت في نجاح مجموعة من المفكرين الأرمن الشباب في إقناع السلطان بإقرار “الدستور الوطني الأرمني” عام 1863. وبموجب هذا الدستور أعطي الأرمن حق انتخاب مجلس وطني علماني كنائسي بالاقتراع العام، كما أعطوا حق اختيار بطريرك القسطنطينية. إلا أن هذا الحق بقي محصورا في الأعيان الموالين للباب العالي. كذلك لم تستفد جميع المناطق الأرمنية من هذه الإصلاحات بشكل متساو. ففي حين شهدت الحواضر الكبرى انتشارا مذهلا للصحافة الأرمنية وازديادا في عدد المدارس، وانشاء مؤسسات أرمنية تميزت بالممارسةالديمقراطية، كانت الغالبية الأرمنية في مقاطعات شرق الأناضول تتعرض لأسوأ أنواع المضايقات والابتزاز والتفرقة. وكان لهذين النقيضين من النتائج اثرهما الفاعل في نشوء وترترع حركة يقظة وطنية وتنظيمات ثورية أرمنية، أسهمت منذ نهاية القرن الماضي في توجيه الشعب الأرمني وقيادته في نضاله (الارمنكان، الهنشاق والطاشناق). لكن لم تلبث النوايا العثمانية الحقيقية تجاه الأرمن أن عادت للظهور مع اندلاع الحرب الروسية – العثمانية 1877 – 1878 وتجلت في المجازر التي طاولت الغالبية العظمى من السكان الأرمن في مناطق بيازيد، الشكرد ودياديت خلال هذه الحرب. وهنا ابتدأت الجهود على الجبهة الخارجية تعطي ثمارها. فقد حملت معاهدة “سان ستيفانو” الموقعة بين روسيا والامبراطورية العثمانية بتاريخ 3 آذار 1878 وعدا لأرمن الامبراطورية بحياة قابلة للعيش. وتكمن أهمية هذه المعاهدة في كونها قد ذكرت أرمينيا بالاسم، وربطت في مادتها السادسة عشرة بين الانسحاب الروسي من المناطق المحتلة في أرمينيا وإدخال الباب العالي لاصلاحات وتحسينات تضمن سلامة الأرمن من اعتداءات الشراكسة والأكراد، اليد المنفذة للسياسةالعثمانية، بمعنى آخر، شكلت هذه المعاهدة منعطفا مهما من خلال إبرازها للقضية الأرمنية على الصعيد الدولي وتحديدها للجهة الدولية التي ستتولى الإشراف على تبني الإصلاحات وتنفيذها أي روسيا. لكن تضارب المصالح الدولية لم يعمل لصالح الأرمن. فبريطانيا العظمى لم تكن راغبة في ضعضعة موقع الامبراطورية العثمانية لما قد يحمله هذه من تهديد لمصالحها وإخلال بميزان القوى الدولي. فقامت باستفراد العثمانيين في معاهدة سرية حصلت بموجبها على تنازل عثماني لها عن جزيرة قبرص بتاريخ 4 حزيران 1877. والثمن كان ضغوطا مارستها بريطانيا على روسيا نتج عنهاالاستعاضة عن معاهدة سان ستيفانو بمعاهدة برلين الموقعة بتاريخ 13 تموز 1878. وشكلت هذه المعاهدة تراجعا في الدعم الدولي للمطالب الأرمنية. فلقد أتت على ذكر المقاطعات التي يسكنها الأرمن دون أي ذكر لأرمينيا وذلك في المادة 61 بدل المادة 16. والأهم من هذا كله أن معاهدة برلين سحبت حق الاشراف على تبني الاصلاحات وتطبيقها من يد روسيا لتضعها تحت اشراف الدول الكبرى التي كانت دائمة التنافس والتصارح والتي كانت علاقاتها تقوم في معظم الأحيان على مبدأ اتفقنا على أن لا نتفق. ولقد فتح هذا الباب واسعا أمام تركيا لاستغلال تضارب المصالح الدولية والتنافس بين الدول الكبرى، ولتحصل على إطلاق ليدها في تنفيذ سياستها العنصرية تجاه الأرمن كما ظهر، في مجازر 1894 – 1896 التي حصدت ما يقارب 300,000 أرمني والتي لم تلق تركيا ولو تأنيبا أو استنكارا فعليا من الدول التي تعهدت رسميا إحقاق العدل للأرمن. ولم تكن الآمال التي عقدها الأرمن على انقلاب 10 تموز 1908 بأوفر حظا من تلك التي عقدوها على معاهدة سان ستيفانو. فرغم إخلاص الاتحاد الثوري الأرمني للنظام الجديد، لم يظهر حزب تركيا الفتاة صدقية في تنفيذ وعوده أكثر من تلك التي أظهرتها السلطنة أو الدول الكبرى. وهكذا أخفقت جميع الجهود التي قامت بها مختلف الهيئات الأرمنية في حث الحكومة التركية على بث المطالب الأرمنية المتعلقة بالاستقلال الذاتي والحكومة اللامركزية، ومساواة الأرمن بغيرهم من سكان الامبراطورية وتبين الاصلاحات التي ما زالت معلقة منذ معاهدة سان ستيفانو وذهبت الآمال والجهود أدراج الرياح. ومع بزوغ سياسة التتريك والحلم الطوراني ابتدأ الخطر على الأرمن يزداد. فموقع أرمينيا الجغرافي يجعلها عقبة رئيسية في طريق تحقيق هذا الحلم. والنتيجة كانت مزيدا من الاضطهاد على يد الأكراد. ولقد حدا هذا بالكاثوليكوس اتشميازين كيفورك الخامس إلى تشكيل وفد قومي برئاسة بوغوص نوبار باشا مهمته مطالبة الدول الكبرى بتنفيذ المادة 61 من معاهدة برلين. وكانت هذه الجهود وراء الدعوة التي وجهتها روسيا إلى سفراء الدول الكبرى لعقد اجتماع في مقر السفارة النمساوية – الهنغارية في القسطنطينية حيث تم البحث بالمطالب الأرمنية، وتم الإتفاق على نقاط عدة تبلورت في مقررات مؤتمر لندن بتاريخ 3 أيلول 1913 كما في الاتفاقية التركية الموقعة بتاريخ 8 شباط 1914. ولقد أعطت هذه الاتفاقات الدول الموقعة حق الاشراف على تنفيذ الاصلاحات، كما أقرت تقسيم المقاطعات الأرمنية إلى وحدتين إداريتين يشرف على كل منهما مفتش عام يعينه السلطان بمرسوم بعد موافقة الدول الكبرى. ولقد وصل أول مفتشين من هولندا والنروج لتسلم مهامتهما في تموز 1914. ولكن تركيا ما لبثت أن ورحلتهما إلى بلادهما، وعلقت موضوع الاصلاحات الأرمنية اثر دخولها الحرب العالمية الأولى بتاريخ 12 تشرين الأول 1914. وكانت الحرب أكبر غطاء لتركيا للتخلص من التزاماتها بموجب المعاهدات والاتفاقات الدولية، فشرعت في ربيع 1915 بتنفيذ سياسة الإبادة الجماعية التي نحيي اليوم ذكراها الثمانين. ولعل أفضل وصف لهذه الإبادة هو ما جاء على لسان طلعت باشا وزير الداخلية التركي آنذاك عندما قال إنه نجح خلال ثلاثة أشهر في تنفيذ ما عجز السلطان عبد الحميد عن إنجازه خلال ثلاثين سنة. المرحلة الثانية – المطالبة بالاستقلال: وجاءت الحرب بمآسيها ومجازرها لتحدث نقلة نوعية مهمة في المطالب الأرمنية وأساليب تحقيقها معلنة بذلك بدء مرحلة جديدة. فالإتكال على الغير لم يعد كافيا والاستقلال هو السبيل الوحيد للعيش الكريم. وتزامن هذا التحول في التطلعات الأرمنية مع تدفق الوعود والتعهدات والتصريحات من كل حدب وصوب، وعلى لسان سفراء الدول الحليفة ووزرائها ورؤسائها حول حق الأرمن في تقرير المصير والاستقلال طبعا مقابل الدعم الأرمني لهم في الحرب. وأعطت هذه الوعود دفعا جديدا للأرمن الذين استماتوا في الدفاع عن مواقعهم حتى عندما لم يمد لهم الحلفاء يد المساعدة. وكان لتنازل روسيا البولشفية لتركيا عن الأراضي التي احتلتها إلى جانب باطوم واولتي واردهان وكارس بموجب معاهدة بريست ليتوفسك (3 آذار 1918) أثره الفاعل في حفز تركيا على استكمال نصرها والاستمرار في مخطط ابادة الأرمن. ومع هذا التراجع في موقع حليف مؤيد لحق أرمينيا التركية بتقرير المصير استمات الأرمن في الدفاع عن الحق في الوجود فأدت مواجهاتهم مع الجيش التركي إلى هزيمة هذا الأخير واعلان استقلال أرمينيا بتاريخ 28 أيار 1918. ولقد اعترفت تركيا بهذا الاستقلال في معاهدة باطوم بتاريخ 4 حزيران وهدنة مودروس التي وقعتها تركيا مع الجمهورية الأرمنية التي بلغت مساحتها حينذاك 54,000 كلم مربع. وسارع عدد كبير من الدول إلى الاعتراف بالجمهورية المستقلة وأقيمت معها العلاقات الديبلوماسية. وأرسلت أرمينيا وفدها للمشاركة في مؤتمر السلام المنعقد في باريس، والذي توصل إلى توقيع معاهدة سلام مع تركيا في سيفر بتاريخ 10 آب 1920. ولقد رسمت هذه المعاهدة الحدود التركية الأرمنية ونصت على تحكيم رئيس الولايات المتحدة الأميركية في أي خلاف قد ينشأ بين الدولتين حول قضايا الحدود وغيرها. وتكمن الأهمية الكبرى لهذه المعاهدة في كونها تضمنت أول إدانة رسمية للمجازر الأرمنية وتعهدا تركيا بتسليم المسؤولين عن هذه المجازر، واقرارا تركيا بصلاحيةالمحاكم التي ستتولى بث هذه الجرائم. لكن تضارب المصالح الدولية عاد ليخدم مصلحة تركيا على حساب أرمينيا والأرمن إذ لم يمض شهر على توقيع معاهدة سيفر حتى قام الجيش التركي بقيادة مصطفى كمال، وبدعم مبطن من بعض الدول الأوروبية، بمهاجمة أرمينيا التي سقطت بتاريخ 2 كانون الأول عام 1920 بعد أن أنكرت عليها الدول التي اعترفت باستقلالها أية مساعدة تذكر. وأدت انتصارات مصطفى كمال هذه إلى توقيع معاهدة سلام جديدة مع تركيا في لوزان. وبموجب هذه المعاهدة حصل الأتراك رسميا على ارمينيا التركية و3/1 الجزء الروسي وأصبح الباقي جمهورية سوفياتية وأدرجت القضية الأرمنية في عدادالقضايا غير المحلولة. وهكذا جاءت معاهدة لوزان تكريسا لسياسة الغاب والقوة والمصالح على حساب مبادئ قانون دولي ومقررات عصبة أمم أنشئت لضمان قيام نظام دولي جديد على أساس العدل. وحق الشعوب في تقرير مصيرها. فلا تركيا حوكمت على مجازرها ولا الأرمن حظوا بحق المصير كما لم تحترم أي من الدول وعودها والتزاماتها تجاه الأرمن. وهكذا قدمت معاهدة لوزان أرمينيا على طبق من فضة إلى تركيا لقاء تغييرات مهمة في النظام التركي ساعدت على اطلاق المطامع الاستعمارية في أنحاء الامبراطورية على عنانها وجعلت من تركيا اتاتورك أداة للدول الكبرى في تنفيذ سياساتها في المنطقة منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا. ومع لوزان طويت مرحلة وابتدأت أخرى شهدت تغييرا في نوعية المطالب. المرحلة الثالثة – فترة ما بين الحربين: محاولة الحد من الخسائر: تركزت الجهود الأرمنية خلال فترة ما بين الحربين على المطالبة بحقوق الأرمن في أراضيهم وممتلكاتهم التي صادرتها الحكومة التركية، وفي جنسيتهم التي أنكرت عليهم تحت ذرائع عدة. كذلك تمحورت المطالبات حول ضمان عدم خرق تركيا لبنود معاهدة لوزان المتعلقة بحقوق الأقليات. ولقد تمت هذه المطالبات عبر مساع ديبلوماسية مع الدول منفردة، أو مع عصبة الأمم، والمحكمة الدائمة للعدل الدولي. ولقد تقدمت بمعظم هذه المطالب اللجنة المركزية للاجئين الأرمن. ولكن لم تؤد هذه المطالب والمساعي إلى النتائج المرجوة. فلقد استغلت تركيا عبر إجاباتها وتفسيراتها القانونية لبنود لوزان وغيرها من الاتفاقيات الدولية مفاهيم السيادة والاستقلال والأمن القومي وغيرها من المفاهيم التي يمكن تحويرها وتفسيرها بما يخدم المصالح التركية. ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية كثرت التساؤلات، وتعززت الآمال حول امكانية عودة الأرمن إلى ديارهم في ظل أي تغيرات قد تشهده الساحة الدولية. وهنا عاد الأرمن لطرح قضيتهم بزخم على الصعيد الدولي، وتم ذلك عبر خطوط ثلاثة: الأول كان باتجاه الاتحاد السوفياتي، والثاني كان باتجاه الولايات المتحدة وحلفائها، والثالث كان باتجاه الأمم المتحدة. فعلى الخط السوفياتي اعتبر الأرمن ان أية هزيمة تلحق بالاتحاد السوفياتي هي هزيمة للأرمن داخل أرمينيا وخارجها. لذا قدموا جميع أنواع المساعدة للاتحاد السوفياتي عندما تعرض للهجمات النازية في اواسط 1941. إستجابة لدعوة الكنيسة الأرمنية أرسل أرمن الدياسبورا جميع أنواع الدعم الممكن. وكان هذا فاتحة لعلاقات وطيدة بين الكنيسة الأرمنية وستالين الذي وعد البطريرك الأرمني بتأمين وحدة الأرمن وعودتهم إلى أرضهم من خلال العمل على ضم الأراضي المغتصبة من أرمينيا التركية إلى أرمينيا السوفياتية. وعلى خط مواز قامت الكنيسة الأرمنية ممثلة بشخص بطريركها باتصالات مع بريطانيا والولايات المتحدة محاولة استغلال الظروف الدولية المؤاتية إذ طالب الاتحاد السوفياتي حينها باعادة النظر في العلاقات مع تركيا، وبخاصة منها ما يتعلق بالحدود والممرات المائية كما اعلن رسميا في آذار 1945 الغاء معاهدة الصداقة التركية السوفياتية. وفي اجتماعات بوتسدام ويالطا طالب ستالين ومولوتوف بضم ولايات كارس وأردهان إلى الاتحاد السوفياتي الذي كان قد أجبر على التنازل عنها عام 1910. ولقيت الخطوة ترحيبا شديدا في الأوساط الأرمنية. لكن رفض تشرشل القاطع لهذا الاقتراح واللامبالاة الأميركية التي تجسدت في اعتبارها هذا شأنا يخص تركيا وأنقرة فقط، شكلا دعما للموقف التركي الرافض لمطالب السوفيات. وعلى الجبهة الأميركية أيضا طلب اجتماع للبرلمانيين في فيلادلفيا (بتاريخ 23 أيلول 1944) من الرئيس الأميركي دعم مطالب الأرمن بتوسيع حدود أرمينيا السوفياتية وفق تقرير الرئيس ولسن لأفساح المجال أمام عودة الأرمن المهجرين منها عام 1915. وفي الولايات المتحدة أيضا نظمت اللجنة المركزية لحزب الطاشناق حملة لجمع التبرعات عام 1944. وأفلحت في جمع 165،000 دولارا لمساندة المجهود الأرمني. كذلك حدد الحزب في هذه السنة خطه السياسي بوضوح، وجعل من أهم أهدافه توسيع حدود أرمينيا السوفياتية، واعادة الأراضي المغتصبة إلى أصحابها الأصليين، وتأمين عودة عشرات الآلاف من الأرمن المهجرين إلى ديارهم. ولم يعتبر الحزب مسألة تحديد نوع النظام داخل أرمينيا مسألة ملحة، بل اعتبرها مسألة يمكن للأرمن بثها عندما تتحقق أهدافهم الأساسية. وعلى اثر هذا تم تأليف “لجنة الدفاع عن القضية الأرمنية” في نيويورك التي ما زالت تتولى متابعة تطورات القضية الأرمنية في الولايات المتحدة حتى يومنا هذا. أما على صعيد الأمم المتحدة فقد شارك وفد أرمني في التحضيرات التي جرت في سان فرنسيسكو، والتي ضمت ممثلين عن خمسين دولة. وفي 7 أيار 1945 رفع هذا الوفد إلى الجمعية التأسيسية وثيقة من احدى عشرة صفحة طالبت بحل عادل وانساني للقضية الأرمنية، وذلك بضم أرمينيا التركية إلى أرمينيا السوفياتية. وأستأثرت المطالب الأرمنية حينها باهتمام الصحف ووكالات الأنباء الأميركية والسوفياتية والعربية وحتى التركية منها. وفي 13 حزيران من السنة عينها رفعت “لجنة الدفاع عن القضية الأرمنية” توصية جديدة إلى هيئة الأمم المتحدة مطالبة اياها بادانة الهجوم التركي على أرمينيا خلال الحرب الثانية، ومطالبة بتصنيفها في خانة الدول المعتدية على غرار المانيا واليابان. كذلك عبرت هذه التوصية عن رغبة اللجنة في أن تصبح أرمينيا عضوا كاملا في الأمم المتحدة. وفي 28 أيار 1945 قام الدكتور هامو أوهانشانيان، (الذي سبق له ان شغل منصب رئيس وزراء جمهورية أرمينيا في العام 1918 والذي شارك في أعمال مؤتمر باريس) بارسال برقيات إلى كل من تشرشل وستالين وترومان عبر سفارات دولهم في القاهرة يذكرهم فيها بالتضحيات الجلى والخسائر المادية والبشرية الجسيمة التي تكبدها الأرمن لمساندة الحلفاء معتبرا أن الوقت قد حان لتتحمل الدول الكبرى مسؤوليتها، وتعمل على ايجاد حل عادل للقضية الأرمنية في ظل النظام الدولي الجديد. وفي 21 كانون الأول من السنة عينها تقدمت اللجنة المركزية العليا في حزب الطاشناق من الجمعية العامة للأمم المتحدة بالمطالب التالية: إعادة ضم الولايات الأرمنية التركية إلى أرمينيا السوفياتية، والعودة إلى حدود 1920 المنصوص عليها في معاهدة سيفر. إعادة ما يقارب المليون أرمني إلى وطنهم. مطالبة تركيا بالتعويض المالي عن الخسائر التي الحقتها بالأرمن. ولقد ترافقت هذه الجهود الرسمية مع خطوات غير رسمية قامت بها الجاليات الأرمنية ضمن الحدود التي تسمح بها قوانين الدول التي تواجدت فيها كلبنان وسوريا وفلسطين واليونان وبلغاريا ورومانيا وإيران وارجنتين وكوبا. ولقد عملت هذه الجاليات على انشاء جمعيات ضمت أرمن اجانب في الولايات المتحدة وفرنسا بهدف خدمة القضية الأرمنية سياسيا واعلاميا. الا أن الدول الكبرى لم تكن تسمح بعد بحل القضية الأرمنية خاصة مع بداية ظهور بوادر الحرب الباردة. ولقد لعب عاملان مهمان دورهما في اعطاء الأولية لتركيا على حساب القضية الأرمنية في العالم الغربي. تجلى العامل الأول في تمحور المطالب الأرمنية حول الحاق أرمينيا التركية بجمهورية سوفياتية. والعامل الثاني كان العمل التركي الدؤوب على دخول المعسكر الغربي. ففي أيلول 1947 صدق المجلس التركي على اتفاق تركي أميركي تحظى بموجبه تركيا بالمساعدات العسكرية الأميركية على أنواعها. وفي شباط 1952 انضمت تركيا إلى حلف شمالي الأطلسي. وكان هذا فاتحة تعاون تركي أميركي في الميادين السياسية والعسكرية والاقتصادية، وأسهم في تفسير موقف دين اشتيسون الذي اعرب لوفد أرمني أن مصلحة الولايات المتحدة تقضي بالابقاء على الوضع الراهن في كارس وارداهان. فكيف يمكن للولايات المتحدة أن تسلح اراضي من دولة حليفة ومهمة استراتيجيا لتقدمها إلى دولة عدوة؟ وبما أن الأمم المتحدة كانت أسيرة صراعات الدول الكبرى، فلم تستطع حينها ان تحرك ساكنا رغم نشاطها القوي على صعيد إعلان حقوق الانسان ومنع إبادة الأجناس. فلقد رفضت الأمم المتحدة عام 1947 طلبا قدمته جمهورية جورجيا السوفياتية لضم كارس وارداهان وآني اليها إذ تشكل جزءا من حدودها التاريخية. وبدا هذا الطلب وكأنه لعبة جديدة تخططها السياسة الستالينية فرفض الطلب وتم الإبقاء على الوضع الراهن. وفي العام 1949 أعلن الاتحاد السوفياتي عدم وجود مطالب أو اطماع له في تركيا. وعكس هذا عدم استعمال الدول الكبرى، بما فيها الاتحاد السوفياتي، لبث القضية الأرمنية رغم حركة النزوح الشديدة (140,000) إلى أرمينيا السوفياتية من مناطق عدة (البلقان، الشرق الاوسط واوروبا) والتي تهدف إلى اعطاء أرمينيا السوفياتية دعامة مهمة في مطالبها. المرحلة الرابعة – الدبلوماسية لا تكفي!! بعد فشل جميع هذه الجهود في احقاق الأهداف المرجوة شهدت الستينات تحولا جذريا في عقلية أرمن الشتات. فلقد افسح وجود جيل جديد على الساحة المجال أمام عقلية جديدة طالبت بالتخطيط على المدى الطويل، وبتغيير الاسلوب أي اعتماد مزيج من القوة والدبلوماسية بدل الاعتماد الكلي على الوسائل الدبلوماسية. كذلك عمل هذا الجيل الجديد على التنسيق بين مختلف المؤسسات السياسية الأرمنية وهذا ما كان مفقودا في السابق. وكنتيجة حتمية لهذا لم تعد المطالبة محصورة بيد الاكليروس الذي كان يأخذ المبادرة بسبب غياب التنسيق بين الأحزاب الأرمنية، بل أصبحت عملية مشتركة بينه وبين المؤسسات والأحزاب السياسية. ولقد حلت الذكرى الخمسون للمجازر في ظل هذه الأجواء والمتغيرات. ففي 24 نيسان 1965 قام وفد جمهورية أرمينيا (1918) الذي كان ما يزال فاعلا في باريس بارسال رسائل إلى كل من الأمين العام للأمم المتحدة، الرئيس الفرنسي ورؤساء الوزارة في كل من بريطانيا والهند والمانيا والاتحاد السوفياتي يضعهم فيها أمام التزاماتهم التي تعهدوها في معاهدة سيفر. كذلك وجه هذا الوفد برقية إلى رئيس تركيا Gurall يطالبه فيها بأخذ المبادرة والاعتراف بالحقوق المشروعة للشعب الأرمني على أراضي أجداده لأنه السبيل الوحيد لاحقاق سلام دائم بين الشعبين. وشهد كانون الثاني من العام 1965 نشاطا ديبلوماسيا حثيثا شمل ممثلي الدول الكبرى وسفاراتها لإيصال صوت الأرمن إلى حكومات هذه الدول في محاولة جديدة لإحقاق العدالة للشعب الأرمني. ولقد كان لهذه الحملة بعض الآثار الايجابية إذ أخذت قبرص المبادرة وطلبت عبر وزير خارجيتها Kipriano في كلمة القاها أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بمناقشة المسألة الأرمنية. وفي حديث مع وفد أرمني نصح كبريانو الأرمن باللجوء إلى لجان الأمم المتحدة المختصة بحقوق الإنسان. وفي 16 شباط 1966 سلم وفد الجمهورية الأرمنية الدول الكبرى وثيقة تضمنت عرضا تاريخيا وقانونيا للمسألة الأرمنية واشارت إلى أن حل القضية الأرمنية لا تمليه فقط اعتبارات العدالة، بل يشكل إحدى الدعائم الأساسية للسلام في الشرق الأوسط. ودعت الوثيقة هذه الدول الكبرى والصغرى إلى الوفاء بالتزاماتها، وتنفيذ بنود معاهدة سيفر، وإيجاد دولة أرمنية حرة ومستقلة ضمن الحدود التي حددها ولسن، وقبول هذه الدولة عضوا كامل العضوية في الأمم المتحدة. وشهد شهر نيسان 1966 إجراء مقابلات بين وفود أرمنية، ووزراء خارجية كل من سويسرا وفنلندا وهولندا والنروج والسويد والدانمرك. وفي أيار تم تقديم وثيقة حول القضية الأرمنية إلى الهيئة الاشتراكية العالمية المنعقدة في ستوكهولم. وفي الوقت عينه جرت مشاورات في اليونان وعدت بنتيجتها السلطات اليونانية بتقديم المساعدة ضمن حدود المستطاع، نظرا إلى علاقاتها السياسية. وفي تشرين الثاني 1966 تم تقديم وثيقة إلى منظمة الوحدة الافريقية المنعقدة في أديس أبابا (اثيوبيا) حول القضية الأرمنية. وتلا الاجتماع ندوة اعلامية بثتها وسائل الاعلام العالمية كافة. وتماما كما في الأربعينات ترافقت هذه الجهود الرسمية مع جهود حثيثة قامت بها الجاليات الأرمنية بخاصة في البلدان الأميركية. ولقد أثمرت هذه الجهود في التعريف بالقضية الأرمنية، كما ادت إلى مواقف ايجابية من قبل السلطات السياسية في الدول المضيفة كإعلان رئيس فنزويلا Raphael Kandera أنه يجب على حكومة فنزويلا دعم قضية الشعب الأرمني العادلة واعلان رئيس الاورغواي المشابه الذي صدر عام 1967. وفي 13 نيسان 1965 تم تسليم وثيقة عن القضية الأرمنية خلال اجتماع لوزراء خارجية الدول الأميركية كان منعقدا في بونس ايريس. وقد أثر هذا في مواقف ايجابية أعلنها وزراء خارجية كل من فنزويلا، التشيلي، وبوليفيا والبرازيل. وفي شهر نيسان 1967 تمكن وفد أرمني من دخول القاعة التي كان يجتمع فيها رؤساء الدول الأميركية في Prados deleste وقام بتوزيع وثيقة عن القضية الأرمنية. كذلك أجريت مقالات مع رؤساء كل من كولومبيا وفنزويلا والبيرو والتشيلي وباراغواي حول القضية الأرمنية. وبعد اثني عشر يوما عقد في Montevidéo مؤتمر على المستوى النيابي لدول أميركا الجنوبية شارك فيه 131 نائبا مثلوا مجالسهم، ورغم الضغوط التي مورست على المجتمعين قرروا بأغلبية 80% من الأصوات طرح القضية الأرمنية في الأمم المتحدة. لكن رئيس دولة البرازيل اعلن في حزيران أن من الأفضل الإنتظار لأن الظروف السياسية غير مؤاتية لإيجاد حل عادل كفيل بضمان حقوق الشعب الأرمني. وشهدت الذكرى الخامسة والخمسين لمعاهدة سيفر نشاطا كبيرا خاصة في دول أميركا الجنوبية تجلى في تظاهرات وندوات قامت بها الجاليات الأرمنية في بونس ايريس ومونتيفيديو وسان باولو وكاراكاس حضرها وشارك فيها عدد من السياسيين والعسكريين في البلدان المضيفة. وفي 5 آب 1970 قرر برلمان الاورغواي العمل ضمن هيئة الأمم المتحدة لضمان تنفيذ معاهدة سيفر. وفي الشهر عينه استقبلت المجالس النيابية في كل من فنزويلا والاوغواي وفد الجمهورية الأرمنية (1918) بصفته الرسمية وأتيح له الكلام أمام هذه المجالس. وفي تشرين الثاني 1970 كلف مجلس النواب في الأورغواي الحكومة ووزارة الخارجية رسميا بطرح القضية الأرمنية في الأمم المتحدة بالطريقة التي يرونها مناسبة. وهكذا كانت الأورغواي الدولة الأولى التي حملت لواء القضية الأرمنية بصورة رسمية في الأمم المتحدة. ولقد لقي هذا الموقف ترحيبا شديدا من الجاليات الأرمنية في البلدان المختلفة. أما في الولايات المتحدة فقد تركزت الجهود على الوصول إلى أعضاء الكونغرس والمرشحين الرئاسيين. لكن الوعود التي كانت تطلق خلال الحملات الانتخابية لاستقطاب الدعم الانتخابي كانت تنسى بعيد إعلان النتائج. وعلى خط آخر كانت الاحتفالات المنظمة لإحياء ذكرى المجزرة في شهر نيسان من كل سنة ترتدي طابعا سياسيا وتهدف إلى توعية الرأي العام خاصة عبر وسائل الاعلام. إلى جانب هذا، كانت الاضرابات والتظاهرات السلمية كتلك التي نفذت في نيويورك في كانون الثاني 1967 أمام مبنى الأمم المتحدة عند تقديم وفود الجمهورية الأرمنية (1918) إلى لجنة حقوق الإنسان، دعامة مهمة في توعية الرأي العام، وإبقاء القضية الأرمنية حية في ضمائر البشر. أما في الشرق الأوسط فقد اتخذت نشاطات لجنة الدفاع عن القضية الأرمنية منحى مختلفا. فبسبب الأوضاع والظروف السياسية في هذه البلدان لم يتم التركيز كثيرا على الأنشطة الدبلوماسية. لكن شكلت دول هذه المنطقة وفي طليعتها لبنان وإيران مراكز أساسية في ادارة أعمال القضية الأرمنية وتوجيهها. وقد أسهم التواجد الأرمني الكثيف في هذه المناطق في جعل الشرق الأوسط المنطلق الأساسي لأي نشاط كان. فلقد حفزت مشاركة 80,000 أرمني في احياء الذكرى الخمسين للمجزرة في بيروت الجاليات الأخرى كي تقوم بالنشاط الدبلوماسي اللازم. كذلك كان شباب لبنان وإيران أول من لجأ إلى اضرابات وتظاهرات أمام السفارات التركية للتذكير بالمطالب الأرمنية. وفي آب 1972 ناقشت لجنة التمييز العنصري والحد من المجازر التابعة للجنة حقوق الإنسان تقريرا عن “المجازر” بالمطلق، ولم تأت هذه المناقشات إطلاقا على ذكر الأرمن. ولقد جوبه هذا الموقف باصرار أرمني في كل بلدان العالم على ضرورة ذكر المجازر الأرمنية مثالا على المجازر. من جهتها كانت تركيا تحاول الضغط والتدخل للحؤول دون حصول هذا، مما دفع الأرمن إلى المطالبة بشدة أكثر. وبعد مضي أكثر من عشر سنوات، وبعد تطورات عدة، أعلنت هذه اللجنة مجزرة الأرمن عام 1915 “نموذجا عن المجزرة”. ولقد تم هذا الاعلان بتاريخ 29 آب 1985. ذكرنا سابقا ان الستينات شهدت تحولا في العقلية الأرمنية وتوجها نحو دمج الدبلوماسية بالعنف. ولكن هذا لم يتم فعليا إلا في السبعينات. فبعد ان تركزت الجهود السابقة على المطالبة بحل القضية الأرمنية عبر القنوات السياسية والدبلوماسية والاعلامية، وجد الأرمن ان تظاهرة صاخبة، أو اشتباكا مع الشرطة في منطقة معينة عامل كفيل بإثارة الاهتمام ولفت النظر أكثر من المطالبات الدبلوماسية المنمقة والمهذبة. فابتدأت التظاهرات الصاخبة تطغى على التجمعات الهادئة، واستعيض عن المناشير المهذبة بتلك التي تحوي شعارات ثورية وعنيفة. وأخذت الـ Sitins تتوالى، وكذلك عملية الاعتداءات على السفارات التركية، وتحطيم زجاج مبانيها، ولقد أدى هذا إلى اعتقال بعض الشباب الأرمن، ولكنه من جهة أخرى أفلح في استقطاب الاعلام والرأي العام. وفي هذا الاطار تندرج الأحداث التالية. إقدام مجموعة من الشباب من “اتحاد الثوريين الأرمن” باحتجاز مكاتب الاعلام والطيران والثقافة التركية في نيويورك لمدة ساعتين، واعلانهم انها مكاتب أرمنية. ومطالبتهم بلقاء مع سفير تركيا لدى الأمم المتحدة Osma Olirha وعدم انهائهم عملية الاحتجاز الا بعد الاتفاق على موعد للقاء. اغتيال سفراء تركيا في فيينا وباريس في 22 و24 تشرين الأول 1975. الاعتداء على سفراء تركيا وسفاراتها في معظم عواصم العالم من باريس إلى سيدني ولوس انجلوس ومدريد ولاهاي والفاتيكان وروما وكوبنهاغن واسطنبول وليشبونة واوتاوا وبروكسل وغيرها. عمليات ارهابية متفرقة بين 1975 – 1980 ترافقت مع اعتقالات لبعض الشباب الأرمن. تظاهرات ضخمة وحاشدة في باريس ومرسيليا بتاريخ 24 نيسان 1977 تدخلت على اثرها الشرطة إرضاء لتركيا. ولقد أدت هذه الأعمال إلى اطلاق تسمية “الحقبة الثورية من النضال الأرمني” على السبعينات والثمانينات وهدفت إلى: