السفير 20 ك2/يناير 2007 محمد نور الدين يختصر الصحافي التركي ذو الأصل الأرمني هرانت دينك في شخصه وفي صحيفته الأسبوعية «آغوس»، تاريخ الوجود الأرمني في تركيا الحديثة. منذ زمن طويل لم يعثر أرمن تركيا على مدافع عنيد عن هويتهم مثل هرانت دينك. كما لم تعثر تركيا عبر تاريخها الحديث عن مدافع أرمني عنيد عن ضرورة إقامة جمهورية ديموقراطية حقيقية، مثل هرانت دينك. hrant2.jpg” hspace=4 width=200 align=left> لذا فإن الرصاصات الثلاث التي صرعت دينك إنما أصابت مقتلاً، ثلاثة أهداف: الحضور الأرمني، الأمل بتركيا ديموقراطية، والجهود التي تبذل للتقريب بين الأرمن والأتراك. منذ سنوات لم ترتكب جريمة بوزن جريمة اغتيال هرانت دينك. جريمة تذكّر بجرائم اغتيال الصحافي اوغور مومجو والسياسي المثقف احمد طانير كشللي. جريمة أخرى تضاف إلى جرائم مجهولة الفاعل. جريمة في وضح النهار وفي قلب «العاصمة» في منطقة تقسيم على الضفة الأوروبية لاسطنبول. صورته وهو مطروح وحيدا على بطنه وهو مغطى بملاءة بيضاء لأكثر من ساعة، لم يُضِفْ إلى دينك (53 عاماً) سوى مزيد من الغربة.. برغم الحشد الكبير من الصحافيين والأصدقاء والمستنكرين الذين تجمهروا في مكان الجريمة التي حملوا مسؤوليتها إلى «الحكومة».. كانت جثته هناك وكأن هذا البلد وهذه المدينة غريبتان عنه، هو الذي لم يشأ غربة الدياسبورا الممتدة من حلب وواشنطن وعَوداً إلى لبنان. أرادها معركةً ديموقراطية وحضارية هو وأورخان باموق. ربما كان يسابق أحدهما الآخر الموت. لو لم تكن الضحية أمس هرانت لكانت ربما اورخان. أورخان بعد اليوم قد لا يجد مكانا آمناً. كلاهما حوكم بموجب المادة 301 من قانـون العقـوبات التي شكلت أسـاسـا لملاحقات قضائية بحق العديد من المفكرين الذين انتقدوا النظرية الرسمية حول القضية الأرمنية.. كلاهما رست عليه تهمة احتـقار تـركيا والعرق التركي وكل من يرفع شعار «هنيـئا لمن يقول أنا تركي» المنسـوب للعـرق لا للجمهورية. إن من قتل هرانت دينك لا يريد أبدا لتركيا أن تواصل طريق الإصلاح والحرية والديموقراطية التي بدأها فعلا رجب طيب اردوغان ورفاقه في حزب العدالة والتنمية، وهذا ما قاله فعلاً أردوغان أمس، مشيراً إلى اعتقال شخصين يشتبه بهما، واصفاً الجريمة بـ«المخزية» وتهدف إلى “زعزعة وحدة البلاد واستقرارها”.فعلاً، إنها رصاصات على مسيرة الثورة الصامتة التي بدأت قبل أربع سنوات. رصاصات تريد أن تبقي تركيا مزرعة لانكشارية «الدولة المتجذرة» بالمتطرفين من علمانييها وعسكرييها. رصاصات تريد إرباك رجب طيب اردوغان مع مطلع عام الاستحقاقات الرئاسية والنيابية. وهل يمكن فصل الجريمة عن محاولات إرباك الساحة التركية الداخلية بعد ارتفاع النبرة الحكومية المعارضة للسياسة الأميركية الجديدة في العراق والتهديد باستخدام القوة المسلحة ضد الأكراد في العراق ونزعتهم إلى دولة مستقلة؟ هذه الجريمة مؤشر خطير على ما ينتظر حزب العدالة والتنمية في العام الجديد. رصاصات تريد كسر أي مسعى يهدف إلى إضفاء بعض المرونة على العلاقات التركية ـ الأرمنية، وآخرها المؤتمر حول هذه العلاقات الذي انعقد في يريفان قبل أيام. رصاصات تريد تطهير البلاد من آخر ارمني يفكر في البقاء في بلاد الأجداد، أملا بتحويل تركيا إلى «طالبانستان» تدمّر تماثيل من ليس من ملّتها ودينها. لقد نقلت التقارير الإعلامية عن صاحب مطعم في الشارع الذي أردي فيه دينك قوله أن مرتكب الجريمة، وهو في العشرين من عمره، صاح بعد إتمام مهمته «قتلت الرجل غير المسلم». hrant1.jpg” hspace=4 width=200 align=left> كان هرانت دينك مثقف الجماعة الأرمنية في تركيا وناشرها ومؤرخها وكان كذلك بطريركها المدني الذي فاق بتأثيره بطريركها الزمني. كان باختصار التاريخ غير الرسمي للأرمن في تركيا. ومع ذلك لم يوفّر دينك بعض الأرمن ومنهم البطريرك من انتقادات تتناول بعض سلوكهم في التعاطي مع المسألة الأرمنية. دينك الذي عاش يتيما منذ طفولته بعد انفصال والديه، يترك تركيا في يتم سياسي. من دونه لا يمكن تخيل تركيا كبلد متطلع إلى تفاعل الحضارات والديانات والحريات. في مقالته الأخيرة في الصحيفة الأسبوعية التي يعمل رئيساً لتحريرها «آغوس» والتي تصدر منذ 5 نيسان 1996 باللغتين التركية (8 صفحات) والأرمنية( صفحتان)، قال دينك أن سنة 2007 ستكون أكثر صعوبة بالنسبة له (بعدما حكم بالسجن ستة اشهر في العام 2005 بسبب تصريحات صحافية قال فيها «أجزم طبعا أن ما أصاب الأرمن هو إبادة.. يمكنكم أن تروا أن شعبا أقام على هذه الأرض طوال أربعة آلاف عام، قد اختفى). لقد كتب دينك في تلك المقالة أنه بات مشهوراً كعدو للأتراك.. وأن «حاسوبه مليء برسائل الكراهية والتهديدات»، متسائلاً عما إذا كانت ستستمر محاكماته وعما إذا كان سيتعرض لظلمات إضافية. أمس كانت الظلمة الأخيرة: أمس كان هرانت دينك شهيدا بامتياز.