بقلم غسان الامام جريدة الشرق الاوسط-21 كانون الاول/ديسمبر 2010 لا صحافة بلا كاريكاتير. ولا كاريكاتير بلا صحافة. كلما طال بال السياسة، واتسع صدر السلطة والمعارضة، ازدهر الزواج الكاثوليكي الذي لا طلاق فيه، بين الصحافة والكاريكاتير. الكاريكاتير فن الدعابة بالريشة. هذه الدعابة تنقلب إلى سخرية عندما يتسيس الكاريكاتير. ولأن السياسة فن صنع الحرب عندما يصبح صنع الحب مستحيلا، أو حراما، عندئذ يغدو الكاريكاتير السياسي أمضى تأثيرا، وأبلغ نفوذا على الرأي العام، من الكتابة السياسية. سواء كان النقد الكاريكاتيري بريئا. أو قاسيا، فهو فن موجع نفسيا للسياسة. ولأوتوقراطية السلطة التي تضع نفسها فوق النقد والمساءلة. من هنا، كان الصراع «أبديا»، منذ ولادة الكاريكاتير، ملفوفا بورق الصحافة، بينه وبين أهل السياسة والسلطة. أود هنا أن أقول إن القلم الساخر أيضا كاريكاتير. وحتى في زمن الاستعمار، عرف العرب الصحافة الساخرة، في مصر وسورية خصوصا. كانت مدرسة محمد التابعي الصحافية مزيجا أنيقا من الصحافة الجادة. والجملة الساخرة. والرسوم الكاريكاتيرية. وفي كتابة هيكل الرصينة (تلميذ التابعي)، تتوزع هنا وهناك عبارات مبتكرة في فن السخرية السياسية. لكن مصطفى أمين التلميذ الآخر للتابعي، هو الذي طور فن الكتابة الساخرة. أضحك مصطفى أمين العرب والمصريين، بمهارة، مستخدما الفصحى، بدلا من العامية المبتذلة. من يستطيع قراءة كتابه «أمريكا الضاحكة»، من دون أن يغرق في الضحك؟. عندما أصدر مصطفى وعلي أمين «أخبار اليوم» الأسبوعية (1944)، كان مصطفى أمين قد أصبح الكاتب الساخر الأول. وأقول إن مكانه ظل شاغرا، إلى أن ملأه محمد الماغوط الذي بلغ شأوا رفيعا، في تطوير فن السخرية مستخدما الفصحى. إنه الماغوط، وليس أبدا محمود السعدني الذي نصبه بعضهم الكاتب الساخر الأول، على الرغم من أنه كتب بلغة أقرب إلى العامية المبتذلة. لم يتعرض سياسي أو زعيم عربي للنقد الساخر، بقدر ما تعرض مصطفى النحاس زعيم حزب الوفد، ووارث شعبية سعد زغلول. لم يجد الساخر مصطفى أمين حرجا من الاستعانة بريشة الرسام محمد عبد المنعم رخا. اشتركا معا في السخرية من النحاس. ولم تنقذه منهما سوى الثورة الناصرية. استغنى عبد الناصر عن النحاس السياسي. ولم يستغن عن نجومية مصطفى أمين الصحافي. غير أن أميركا الضاحكة التي سخر منها الساخر الكبير انتقمت منه. أوقعته في حبائلها. فاعتبره ناصر محرضا لأميركا على نظامه المأزوم. وفي عصر إلغاء الحرية والسياسة، لم يكن جائزا لصحافي مصري، أن يتحدث خلسة إلى دبلوماسي أميركي. قبل الرسام رخا، كان رواد الكاريكاتير المصري من الأرمن! كان أشهرهم «صاروخان»، الذي كانت خطوطه الطويلة المتشابكة تشبه صواريخ حسن حزب الله. الأرمني الآخر هو «كيراز». بعد جولة خجولة في صحافة الأربعينات المصرية، هاجر إلى فرنسا. دخل كيراز الـ«بدروم» الباريسي، فصور تفاصيل «ماريان» الجميلة، بأبدع ما رسمت الريشة الكاريكاتيرية الملونة. كان جورج كريان الرسام الأرمني الثالث المهاجر الذي أنقذني معه يوما في بيروت، من الموت بصواريخ منظمة «الصاعقة» الفلسطينية/ السورية. كان جورج يجلس إلى الصحافي شفيق الحوت، حتى تنضج فكرة الكاريكاتير اليومية التي ساهمت في إلهاب طائفية الحرب اللبنانية. من ألهم الرسام رخا؟ أخفى رخا سره عن الأرمن والمصريين. بفطرة ثقافته السياسية، استلهم العم رخا رسام الكاريكاتير البريطاني ديفيد لو (Low). كان لو الرسام المحسوب على أنتلجنسيا يسار الوسط، «كاتب» الكاريكاتير الأكثر قوة. ونفوذا لدى الرأي العام الأوروبي، في الفترة ما بين الحربين العالميتين (1919/1939). سخر لو من الفاشية والديكتاتورية. فأضحك العالم على هتلر. موسوليني. فرانكو. ستالين. لا تكاد تفرق بين ريشتي لو ورخا، إلا بالروح المصرية البادية في رسوم الرسام العربي: ريشة رشيقة. ناعمة كأنها عصا المايسترو في انسياب وسرعة حركتها. ضرباتها. رشقاتها لا تعكر صفاء الرسم والصورة. فلا تخطئ قراءة أفكار المسكين النحاس، واللعب العابث بعينيه الموزعتين، واحدة في أقصى اليمين. والأخرى في أقصى اليسار. يكاد مصطفى أمين ورخا ينسيانني مدرسة الكاريكاتير السورية. ما زال رواد الإنترنت يراسلون أشهر صحيفة عربية ساخرة. وكأن الحبيبة «المضحك المبكي» لم تمت قبل 44 سنة، بعد وفاة صاحبها حبيب كحالة بسنة واحدة. بحسه الصحافي المرهف، أغلق حبيب صحيفته اليومية. وأصدر مجلته الأسبوعية الساخرة في عام 1929. عاشت «المضحك المبكي» حياة شقية: تستلهم أنفاس الديمقراطية السورية القصيرة، فتصدر. تختنق بدخان العسكر والآيديولوجيات، فتحتجب. كان حبيب كحالة ساخرا مهذبا. يسخر، فيداعب. ولا يجرح. لم يكن يكتب مقالة. اكتفى بلقطات سريعة. فيها ذكاء. ودعابة موحية، أكثر مما هي صريحة ومباشرة. اختار شخصية محورية حقيقية. كان الظريف الساخر «أبو درويش سويد» محور الكاريكاتير الذي يرسمه حبيب. ثم يلحق به إلى منتديات الساسة. ليملأها ضحكا. ومرحا حتى الصباح. عندما وهنت ريشة وقلم الأب. سارع نجله الثاني المحامي والصحافي سمير إلى تحمل مسؤولية إصدار «المضحك المبكي» تحريرا ورسما. طور سمير فن الكاريكاتير. ملأه حيوية وابتكارا. لكن سورية فقدت صحيفتها الساخرة، ورسامها المبدع، عندما ارتدى فارس العشيرة البدوية المتمركس «أفرول» ماو وكيم. أغلق رئيس الحكومة يوسف زعين «المضحك المبكي» بلا مبالاة، ووضع سمير في سجن مجاور لمقبرة. خرج سمير من السجن. ثم خرج من الوطن. وجد نفسه منذ ثلاثين سنة في المنفى. هنا، إلى جانبي في باريس. ورفض كل العروض السخية لإعادة إصدار المجلة. أليس من المضحك المبكي أن يكون الاستعمار أرق من الاستقلال في التعامل مع الصحافة؟! نحن العرب لم نعد نقبل المزاح والدعابة. هل السبب الهزائم؟ النكبات؟ الآيديولوجيات؟ أوتوقراطية السلطة؟ عبث المعارضة؟… لست أدري. لكن الكاريكاتير لا يموت. صمت سمير كحالة. اغتيل ناجي العلي. مات صلاح جاهين غما وكمدا. غاب بهجت عثمان ديكتاتور دولة (بهجاتيا العظمى). ما زال هناك مصطفى حسين. بيار صادق. علي فرزات وعشرات الرسامين الكبار يجزلون العطاء. من دون أن يقولوا لماذا بات الكاريكاتير فنا تجريديا؟ لماذا أطفأ المسرح الهازل الأنوار؟ فلم يعد القراء يشاهدون وجوه وأشخاص الساسة أبطال المسرح. ربما لأنه لم تعد هناك سياسة. فلم تعد هناك «كوميديا». أيضا. لست أدري!