بيار عقيقي صحيفة البلد-لبنان 25 نيسان/ابريل 2012 لا بدّ أن ينحني التاريخ اليوم لبضع دقائق، فذكرى المجازر الأرمنية تتوقف في مرحلتها السنوية الـ97، وهي ما تزال حيّة في قلوب أرمن الداخل والشتات. واذا كان الشتات الأرمني يتلمّس قوته من حين الى آخر في دول الغرب، ضمن مسيرة ترفض الاستسلام أمام القوة التركية، فإن أرمن لبنان يشعرون أن وجوديتهم في “ملاذ طالبي الحرية في الشرق”، لا تكتمل من دون التمسّك بأهداب الذكرى ونفح الروح فيها كي لا تموت. تستيقظ برج حمود، عاصمة الأرمن، على يوم اقفال عام، شأنها شأن المدن والقرى الأرمنية من بيروت الى البقاع. فـ24 نيسان 1915 ذكرى حزينة، ترفض الصلب على مذابح لعبة الأمم. وإذا كانت أرمينيا وقّعت اتفاقات ثنائية مع تركيا، إلا أن بالنسبة لأرمن لبنان “لا وجود لمثل هذه الاتفاقيات، ما لم تعترف تركيا بالمجازر الأرمنية”. المجازر التي وقعت في عدّة محطات تاريخية، يوم أمسك العثمانيون بالسلطة في الشرق الأوسط، تُوّجت في أحد 24 نيسان 1915 حيث ألقي القبض على 250 قائداً من قادة الأرمن في العاصمة العثمانية، القسطنطينية، لتستمر المجازر على مختلف أراضي السلطنة. ربما دفعت الهجرة العدد الأكبر من الأرمن للجوء الى لبنان، إلا أن الأرمن يرتبطون بلبنان منذ العام 1755 حين تأسس دير بزمّار للأرمن الكاثوليك في كسروان. كما أن الهجرة الكبرى التي قذفتهم في مختلف أصقاع الكون، لم تجعلهم ينسون هويتهم. فحافظوا على حضورهم في أوروبا والولايات المتحدة، كما تمكنوا من بناء علاقات صلبة مع مختلف قوى الاقتصاد والاجتماع والسياسة في كل بلد حلّوا فيه. في لبنان حيث يرتبط اسمهم ببرج حمود، مع أن وجودهم خارجها بدأ ينمو. خرج من سكن “المخيمات” الى العالم اللبناني الرحب، منذ عقود، الى درجة أن الأرمن باتوا “الطائفة السابعة”، بحسب الكثير من المتابعين. في 24 نيسان 2012، كيف تبدو أحوال الأرمن؟ السياسة في السياسة لم يكن الأرمن يوماً بهذا الضجيج في الوسط السياسي كما هم اليوم، فبعد أن استكانوا الى الوسط لفترات طويلة، بدأوا يميلون أكثر الى جهة سياسية محددة، مع الاحتفاظ بثابتة واحدة: العداء المشترك لتركيا. منهم من خرج للانضواء تحت رايات حليفة لتيار المستقبل، ومنهم من وجد نفسه معارضاً للمستقبل. انتخابات بيروت العام 2000، أوجدت وعياً أرمنياً مناقضاً للماضي، من حيث انضمام الأرمن الى أحلاف سياسة. كما أن ما حدث في 2005، جعل من الأرمن في موقعين متضادين. وجدوا أنفسهم الى جانب العماد ميشال عون، دون أن يتخلّوا عن حلفهم التاريخي مع ميشال المرّ. انكبّوا على التنديد بالسياسة الحريرية التي حاربتهم وألغت وجودهم في بيروت بحسب أدبياتهم، كما وجدوا أنفسهم في موقع المغضوب عليهم بعد انتخابات 5 آب الفرعية والتي أدت الى سقوط الرئيس أمين الجميل أمام مرشح التيار الوطني الحرّ كميل خوري. ورغم اقصائهم من حكومات عديدة، بات معها الحديث عن “مقعد أرمني في الحكومة” كأمثولة يومية تُحكى في المنتديات السياسية، إلا أن هذا المفهوم بدأ بالتهاوي مع ترسيخ مبدأ “المقعدين الأرمنيين” في حكومات ثلاثينية. كما أن تلاقيهم في السياسة القومية الأرمنية، يجعلهم موضع حسد جميع اللبنانيين، ففي اعتصام ساحة الشهداء رفضاً لمشاركة كتائب تركية في قوات حفظ السلام في جنوب لبنان، لم يُميّز الطاشناق من الهانشاك من الرامغافار وغيرهم. في تنديدهم بالاتفاقات الموقّعة بين أرمينيا وتركيا، نظّموا مسيرات وحّدت جميع الأرمن في لبنان. وفي انتخابات 2013، يرغبون بالحفاظ على قوتهم ونوعيتهم كبيضة قبان قاسية، دون أن ينخرطوا في حرب الغاء بعضهم البعض. ممنوع هذا الأمر. آرام الأول في الاقتصاد، طوّر الأرمن الصناعات الصغيرة في الاقتصاد اللبناني، القائم أساساً على مثل هكذا صناعات مع الاعتماد الهائل على قطاعي الخدمات والسياحة. وعمد الأرمن الى تفعيل الدورة الاقتصادية على مداخل بيروت، وفي بيروت، وعلى خط بيروت – الشام، أي أن تعمّدهم تنشيط الخطوط المركزية والرئيسية في موضوع المواصلات، ساهم في دفع الاقتصاد اللبناني خطوة هائلة الى الأمام، كما ان دورهم في قطاع الذهب، وخصوصا في مرحلة 1970-1975، شكّل علامة فارقة على الصعيد الاقتصادي. الحراك الاقتصادي الذي تميّز به الأرمن انعكس على الصعيد الاجتماعي. فقام الأرمن بتفعيل دور الأندية التابعة للأحزاب السياسية، وساهمت في الحدّ من الفقر في الوسط الأرمني، كما نجحوا أثناء الحرب اللبنانية في الحفاظ على هويتهم الحيادية من جهة (كان الأرمني يمرّ عبر كل الحواجز التابعة لكل الميليشيات دون أن يتعرّض له أحد بالسوء، سوى المنضمين وبخيار شخصي الى أحد الأحزاب المتقاتلة)، كما ساهموا في توزيع المساعدات والتموين لجميع الأرمن. في السياسة والاقتصاد والحرب عضدوا بعضهم البعض، رغم تفرّق خياراتهم الشخصية. حتى أن وفي مؤتمر “من الاعتراف الى التعويض”، والذي عُقد في كاثوليكوسية الأرمن الأرثوذكس لبيت كيليكيا في أنطلياس، وبرعاية الكاثوليكوس آرام الأول، من 23 الى 25 شباط الفائت، حضرت جميع الأطياف الأرمنية، وواكبت المؤتمر بكثير من الاهتمام خصوصا وأن الكاثوليكوس آرام الأول رفع السقف بعد الاعتراف الدولي بالابادة “نحن ككاثوليكوسية كيليكيا، والتي تأسست في القرن العاشر في جنوب – غرب تركيا الحالية، وبعد أن طُردنا بالقوة منها في 1915، نطالب السلطات التركية باستعادة جميع ممتلكاتنا. هذا هو هدف المؤتمر وهدف الأرمن”. تراث بعد هذا المؤتمر بات جلياً لدى الجميع، أن الأرمن سينقلون سقف معركتهم الى مطالبة انقرة في التعويض عبر اعادة ممتلكاتهم التاريخية، حتى أن بعض الأرمن لا يفرّقون بين الاعتداء الاسرائيلي على فلسطين والاعتداء التركي على أراضيهم. كما حذّروا من مغبّة “مدّ اليد الى تركيا، فهي لا تسعى الى فتح أبواب حوار مع أحد، بقدر ما ترغب في اعادة احلام سلطنة ذهبت الى لا رجوع”. ومع أن 97 عاماً مرّت على المجازر، ومع ان تركيا ترفض اعتبار ما جرى بـ”الابادة”، ومع أن التاريخ يظلم أحياناً، وبيروقراطية التعامل الدولي سلبية للغاية، إلا أن الأرمن ما زالوا متمسكين بخياراتهم التاريخية، وبأرضهم، كما فخرهم في أنهم أول بلد آمن بكامله بالمسيح في العام 301، وأرمن لبنان ليسوا بعيدين عن تراث بلادهم، لا بل لا يترددون في حمل لواء بلاد جبلٍ كان أول من احتضن فجر البشرية المتجدد، بعد وصول سفينة نوح اليه بعد الطوفان الكبير… أرارات.