مدرسة عينطورة كانت مركزاً لـ’تتريك’ الأيتام الأرمن

جريدة النهار – لبنان 22 نيسان 2006 ترجمة اليس بوغوصيان مضى على الابادة الارمنية تسعون عاما، ولا يزال البحث مستمرا عن الناجين والمشردين بصورة حثيثة ودقيقة. صحيح ان هناك معلومات كثيرة عن كل ما حصل في تلك الفترة من فظائع وتجاوزات، ولكن تبقى احداث اخرى غامضة لم تحك ولم ترو لان المعنيين بها ارادوا محوها من الذاكرة نظرا لفظاعتها. ولأن الابادة تركت اثرا عميقا في قلب كل ارمني وفكره، غاص الجميع في البحث عن معلومات وشهادات تثبت ما حصل والمأساة التي لحقت بالارمن نتيجة عملية الابادة. وهذا ما حصل مع الباحث ميساك كيليشيان الذي لاحظ خلال احدى قراءاته صورة مؤثرة، وبعد البحث والتدقيق تبين له ان ثمة قصة في منطقة عينطورة في لبنان تتحدث عن اعمال تتريك الايتام الارمن نشرت للمرة الاولى في جريدة “ازتاك” اليومية. كانت الصورة هي البداية فكرّت السبحة وبدأت البحث. والنهاية كانت مؤلمة وموجعة لانها سلطت الاضواء على حقيقة مريرة هي بمثابة شهادة جديدة للشعب الارمني. فبعض الايتام الناجين من الابادة وصلوا الى منطقة عينطورة تحت العناية التركية وخضعوا لعملية تتريك واضحة وصريحة. عام 1915 انطلقت الحقبة التي اقتلع فيها الارمن من ارضهم عنوة وبدأت رحلة الابادة والتشريد والتعذيب. بدأت عملية ازالة العنصر الارمني من ارضه ورحلة المليون ميل في الصحارى وعلى الطرق، لمن نجا من الابادة، تحت الجزمة التركية دون هدف او مقر واضح. وعلى رغم كل الويلات التي ألمّت بالشعب الارمني كان الايمان كبيرا بالنجاة. سقط الكثير، قتل الكثير، ألقي الكثير في مياه الفرات وحضنت ارض الصحراء آلاف الارواح منهم، لكن الارمن تابعوا المسيرة، لانهم كانوا مقتنعين بأن الشعلة الارمنية ستعود بالبريق وتحيي ذكرى الذين سقطوا ظلما وقهرا. بعد مدينة حلب وصل الأرمن الى لبنان ارض العطاء، آملين ان ينتهي كابوسهم، لكنهم لم يدركوا ان القبضة التركية ستلحق بهم. وجاء مخطط تتريك الايتام الوافدين الى لبنان ليؤكد ما كان قد خطط له الاتراك لاتمام سياستهم الهادفة الى ابادة العنصر الارمني ووضع حد نهائي للوجود الارمني اينما كان. لم يستغرب الارمن يوما ما قد خططته ونفذته السلطات العثمانية بحق الشعب الارمني، لكنهم لحقوا بهذا الشعب الى لبنان ليضعوا موضع التنفيذ سياسة تتريك الاطفال اليتامى الذين فقدوا كل ما لديهم ووقعوا فريسة الاجرام التركي. يقول كيليشيان: “من خلال تصفحي لكتاب “أسود مرعش” وأنا ابحث عن صور تتعلق بالابادة الارمنية، لفتت انتباهي صورة مؤثرة كتب تحتها: جمال باشا في منطقة عينطورة امام مدخل مدرسة فرنسية والى جانبه خالدة هانم وهي شخصية بارزة في مجال تتريك الاطفال الارمن الايتام. كان مكتوبا ايضا ان جمال باشا اسس في هذه المدرسة ميتما للاطفال الارمن بادارة خالدة هانم. هذه الصورة بالذات كانت مؤثرة جدا كما انها كانت تشير الى بوادر مأسوية جديدة”. ويضيف: “في الثامن من كانون الاول توجهت الى عينطورة وعثرت على المدرسة المذكورة. هذه المدرسة الفرنسية التي تأسست على يد الآباء اليسوعيين. التقيت مدير المدرسة واوضحت له ما يدور في مخيلتي طالبا منه ان يساعدني في ابحاثي. وعندما اعطيته الصورة تعجب كيف انها قد وصلت الي. فزودني المسؤول عن الارشيف المعلومات اللازمة وقمنا معا بجولة في ارجاء المدرسة لا سيما في المواقع التي كانت تتضمنها الصورة”. وفي هذا المجال اكد المسؤول عن الارشيف ان العنصر الاهم في الصورة يكمن في وجود جمال باشا وخالدة هانم الى جانب الايتام الارمن. فخالدة هانم كانت تعتبر من رواد الحركة النسائية آنذاك وكانت قد قابلت غاندي وتوجهت الى الولايات المتحدة الاميركية والتقت اعضاء من الحركة النسائية هناك. احبت اتاتورك، لكن الاخير لم يعرها اي اهتمام. اما بالنسبة الى الارمن فخالدة هانم كانت تعتبر من الاشخاص الذين أوكلت اليهم مهمة الابادة الارمنية عن طريق التتريك الكامل، وقد قامت بهذه العملية على أكمل وجه. وبحسب المعلومات المتوافرة لدى ميساك كيليشيان ان المدرسة كانت ملكا للآباء اليسوعيين الذين بقوا فيها من عام 1657 الى عام 1783. اما الآباء العازاريون فتسلموا المدرسة من 1783 الى 1834. عاش في المدرسة نحو الف ومئتي يتيم حتى شهر تموز 1919. وبعد الآباء العازاريين والاتراك تسلم المدرسة كل من الصليب الاحمر الاميركي ومؤسسة “نير ايست ريليف”. وكانت المدرسة تعتبر اولى المؤسسات الثانوية في منطقة الشرق الاوسط التي احتلها الاتراك وحولوها ميتما. اعلنت تركيا الحرب على فرنسا وبريطانيا وروسيا في 29 تشرين الاول عام 1914، ولذا، فان الاتفاق المبرم بين لبنان وفرنسا في 9 حزيران 1861 اعتبر بحكم الملغى، وحل علي منيف بك مكان المتصرف اوهانس قيومجيان وبدأت سلسلة من المآسي على اللبنانيين كالجوع والفقر والظلم والمشانق… في اواخر 1915 اعلم قائمقام جونية مسؤولي مدرسة عينطورة بوجوب اقفال المؤسسة فانتقل بعض الآباء العازاريين الى دير آخر، والبعض الآخر اخذ الى الاناضول واورفا. وبعد اخلاء المدرسة حوّل المكان ميتما ضم اطفالا من الارمن والاتراك والاكراد. وفي عام 1915 كان في المدرسة ثمانمئة يتيم وثلاثين جنديا يحرسون المكان. اما الادارة فكانت بأيدي نبيه بك. وفي تلك الايام بدأت عملية تتريك الاطفال الارمن: تقام اولا عملية الختان. ثم تستبدل اسماؤهم بأخرى تركية وعربية، فيصبح مثلا اسم هاروتيون ناجاريان حميد نظيم، وبوغوص مردينيان بكيم محمد. كما ان الامراض وسوء التغذية فتكت بعدد كبير من الاطفال. ولدى زيارة المدرسة كان المسؤولون الاتراك يوبخون نبيه بك بشدة على سوء معاملته للايتام. عام 1916 ابدى جمال باشا رغبته في زيارة المدرسة. عند علمه بالزيارة قام نبيه بك بنزع كل من تمثالي مار يوسف واحد الآباء اليسوعيين عن مدخل المدرسة. رافقت جمال باشا في الزيارة خالدة هانم التي عينت نائبة لمدير المدرسة، وعاونها في المهمة خمس راهبات لبنانيات في مجال التغذية والنظافة. وكلفت خالدة هانم ايضا ادارة مدرسة الناصرة في بيروت التي اغلقت ابوابها عام 1917. ووصل الى عينطورة مع زيارة جمال باشا نحو اربعمئة يتيم تراوح اعمارهم بين الثالثة والخامسة عشرة. ورافق هؤلاء الايتام نحو خمسة عشر صبية من العائلات التركية النبيلة لمساندة اربعين شخصا يهتمون بعملية التتريك في عينطورة. كانت خالدة هانم تتمتع بصلاحيات واسعة جدا، وكان هدفها الاول والاخير الاسرع في عملية التتريك لكي تصبح المدرسة صرحا مثاليا بالمفهوم التركي. كان التعليم في المدرسة باللغة التركية، اما الاطفال الاكبر سنا فكانوا يتدربون على مهن مختلفة كالنجارة وصناعة الاحذية، وكانت التربية الدينية صارمة بحيث كانت تقام الصلوات خمس مرات في اليوم الواحد وكان الاطفال ينشدون بانتظام “عاش السلطان”. عام 1918 تفشى مرض البرص داخل المدرسة، وكانت تركيا بدأت بالانهزام في كل من مناطق البلقان وفلسطين. اما تفشي المرض فبسبب ابتعاد كل من خالدة هانم ولطفي بك ورشيد بك من المدرسة. ومع هذا الابتعاد عمت الفوضى في المدرسة، وغادر التلامذة المكان، اما بعضهم فتشاجر مع البعض الاخر: عراك بين الارمن والاكراد والارمن والاتراك، ولم يتحسن الحال الا بتدخل الجنود الاتراك لفصل الارمن عن الآخرين. وكما كنا قد ذكرنا آنفا فان العدد الاجمالي للأيتام كان الفا ومئتي يتيم بنسبة الف طفل ارمني مقابل مئتي كردي وتركي. وكان الاطفال الارمن يحتفظون بسكاكين الطعام للدفاع عن انفسهم. وعند ابتعاد الاتراك عن المدرسة عاد الفرنسيون والانكليز والآباء الى عينطورة. وبعد الاطلاع على الاحوال المأسوية السائدة في المدرسة سارع احد المسؤولين عن المدرسة الى طلب المساعدة من الجامعة الاميركية في بيروت وتحديدا من رئيسها بايارد دودج الذي بادر فورا الى ارسال المواد الغذائية بواسطة الصليب الاحمر الاميركي. وفي الاول من تشرين الأول 1919 اخلى الاتراك المتبقون المدرسة نهائيا. وفي السابع من تشرين الاول عاد الاب سرلوط الى عينطورة وتأكد بنفسه من مأسوية الحالة السائدة. بادر اولا الى ارسال الايتام الاكراد والاتراك الى دمشق لنزع فتيل الصراع بين الموجودين. ثم نادى الايتام الارمن وطلب منهم التخلي عن اسمائهم التركية والعودة بالذاكرة الى اسمائهم الارمنية، موضحا لهم ان الحقبة التركية قد انتهت في المدرسة. واعيد تمثال مار يوسف الى مكانه كما رفع العلم الفرنسي على شرفة المدرسة. لكن الاب سرلوط كان يدرك تماما ان الامكانات المتوافرة لديه غير كافية للاستمرار بالحياة الطبيعية داخل المدرسة، فبادر الى طلب المساعدة من دودج بغية تدخل الصليب الاحمر الاميركي مجددا لمساعدة هؤلاء الايتام. وفي تلك المرحلة عين السيد كروفرد مديرا لمدرسة عينطورة فلجأ الى استخدام اساتذة ارمن ولبنانيين للتدريس. بعد كروفرد تولت مؤسسة “نير ايست ريليف” ادارة المدرسة، وفي خريف 1919 اقفلت المدرسة ابوابها ورحل الايتام الذكور الى حلب، اما الفتيات فأرسلن الى ميتم غزير. وتؤكد المعلومات ان نحو ثلاثمئة ولد توفوا في المرحلة التي ادار فيها الاتراك المدرسة، والوفاة تعود الى تفشي الامراض وسوء التغذية. ودفن هؤلاء في الملعب بجوار المدرسة. وفي عام 1993 وبهدف توسيع مساحة المدرسة، قامت الحفريات اللازمة وخلال هذه العملية ظهرت العظام التي جمعت ودفنت في مدافن الآباء. عند تسلم الاب سرلوط ادارة المدرسة اكد ان عدد الايتام كان 670 توزعوا بين 470 ولدا ذكرا و200 فتاة. ويضيف ميساك كيليشيان: “عند التجوال داخل حرم المدرسة لفتت نظري زاوية كنت قد رأيتها يوما وشاهدتها في صورة ما. عدت الى البيت وبدأت التدقيق بين ملفاتي فوقعت يدي على صورة طفل ارمني يتيم يقف في تلك الزاوية التي شاهدتها في المدرسة. اما الصورة فكنت قد اخذتها من ارشيف بطريركية الارمن الارثوذكس لبيت كيليكيا في انطلياس. والصورة تعود الى الصور والملفات التي تركتها مسؤولة “نير ايست ريليف” ماري جاكسون بعد مغادرتها لبنان. ان هذه الصورة تمثل الدليل القاطع على وجود هؤلاء الاطفال الارمن في مدرسة عينطورة التي كانت شاهدا على ابادة من نوع آخر، عنيت التتريك، اذا كان يجب محو اي اثر للأرمن من اي نوع كان. ان قصة مدرسة عينطورة ليست سوى عينة واحدة بين عينات كثيرة تصور عذابات الارمن ومآسيهم، فوصية الاجداد غالية وعلينا احترامها من اجل وطن ترخص التضحية من اجله ايا تكن الاثمان”.

بلجيكا-البرلمان

الأرمن.. التاريخ الصامت

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تقرير طلعت باشا حول الإبادة الجماعية الأرمنية

أرشيف