الراعي والدولة الانكشارية

ادمون صعب 19 كانون الثاني/يناير 2012 صحيفة السفير-لبنان لم يفاجأ البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي بزيارة وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو لبكركي، كما لم يفاجأ باللغة الديبلوماسية التي تحدث بها الوزير التركي إلى رأس الكنيسة المارونية الذي لم يتردد منذ توليه السدة البطريركية، وصادف ذلك مع انطلاق الثورات العربية وصولاً إلى الجارة سوريا، في إبداء قلقه من إمكان وصول جماعات إسلامية متشددة إلى السلطة، وخصوصاً في الدول التي تضم طوائف مسيحية ذات وزن مثل مصر وسوريا، مما يعيد إلى الأذهان الصور البشعة لتعامل السلطة العثمانية، في عهد بعض السلاطين والولاة المتعصبين، مع المسيحيين لدى نزولهم من الجبال إلى المدن، مثل السير إلى اليسار و«الطورقة» والقيام بأعمال السخرة. كذلك هو تذكّر ما قرأه في كتب التاريخ حول الدور الذي أداه الأتراك وجنودهم في إذكاء نار الفتنة في الجبل بتوزيعهم السلاح والذخائر، وفي تحريض كل من الطرفين المسيحي والدرزي على الآخر، الأمر الذي أدى إلى مجازر فتحت الباب واسعاً أمام التدخل الأجنبي لحماية المسيحيين والدروز، وخصوصاً من جانب فرنسا وبريطانيا وروسيا. وهذا التدخل لا يزال قائماً إلى الآن ليس في لبنان فحسب، بل هو ظاهر في سوريا حالياً تحريضاً طائفياً ومذهبياً وتمويلاً وتسليحاً لبعض الجماعات، ومعظمها أصولي تكفيري، بدل العمل على مساعدة المعارضة السورية على الحوار، والضغط على نظام الحكم من أجل الوصول إلى قواسم مشتركة مع المعارضة. وسبق للبطريركية ان وثقت أعمال البطش والتجويع والتجنيد الإجباري إلى غير رجعة في ما عرف بـ«سفر برلك» أيام العثمانيين، وضمنت ذلك المذكرة التي تقدم بها البطريرك الياس الحويك عام 1919 إلى مؤتمر السلام في باريس وأشار فيها إلى مسؤولية السلطة العثمانية عن هدر أرواح ثلث الشعب اللبناني من طريق التجويع والتجنيد الإجباري ومصادرة المحاصيل الزراعية، فضلاً عن تعليق الأحرار المطالبين بالاستقلال والحرية والسيادة على أعواد المشانق بين عاليه مقر أحمد باشا الجزار، وساحة البرج في بيروت التي تعمدت باسم ساحة الشهداء. وكان البطريرك تابع النشاط السياسي لأوغلو، متوقفاً عند إعلانه أخيراً أن الثورات العربية التي تدفع بالإسلاميين إلى السلطة على حساب الليبراليين والقوميين، هي بداية «الإحياء السني» الذي تقوده تركيا، بعد انحسار موجة «الإحياء الشيعي» الذي تقوده إيران، الأمر الذي يشرّع الأبواب للفتن المذهبية السنية ـ الشيعية في لبنان وسواه، بما يخدم المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي ـ ويفتت المنطقة ويحيي فكرة «المسألة الشرقية» التي أدت إلى تقاسم تركة الإمبراطورية العثمانية بين الدول الكبرى، وكانت كارثية على العرب والمسلمين بإنشاء دولة صهيونية في قلب فلسطين، وتشريد أهلها، والحؤول دون استقلال الدول التي كانت تحت الحكم العثماني بعد انهيار هذا الحكم. وما ورد في ذهن البطريرك لم يكن من صنع الخيال، إذ ان الحكم العثماني لأكثر من نصف العالم، والذي يرث تاريخه وتراثه حزب أوغلو، لم يتردد سلاطينه في الإعلان ان دولتهم هي دولة الخلافة الإسلامية، وأن للسلطان الحق في حمل لقب «الخليفة». وكانت البداية مع سليم الأول الذي اعترف له شريف مكة بذلك، وبأنه «خادم الحرمين الشريفين» وحاميهما، تماماً كما هو اليوم الملك عبد الله بن عبد العزيز السعودي. واستمر السلطان «خليفة المؤمنين» حتى عام 1924 مع قيام الجمهورية بقيادة مصطفى كمال وإرسال آخر السلاطين إلى المنفى. بعد ذلك يكون السؤال، من البطريرك وسواه، مشروعاً: ماذا لو أعادت تركيا، بدعم أميركي وإسرائيلي وربما خليجي، المشروع السلطاني، علماً أن السلطان سليم الأول كان هزم الشاه اسماعيل عام 1514 وسيطر على إيران، بعدما كان محمد الثاني، «الفاتح»، هزم المسيحية المشرقية في القسطنطينية عام 1453 بعد حصار للمدينة امتد شهراً ونصف شهر. وقد رافق سقوط المدينة فوضى وسفك دماء. ولم يبدُ البطريرك انه اقتنع بنظريات أوغلو في التسامح الديني، في بلد حكمه سلاطين بني عثمان قرابة 500 سنة، ولا تزال آثارهم تدل عليهم. فقد خلّفوا وراءهم مجتمعاً مفككاً، غير متجانس، منقسماً على نفسه طوائف في شكل دول، ولاء معظمها للخارج الذي يدعمها ويحميها، وتفتقر إلى القاسم المشترك الذي يوفّر لها الديمومة والتقدم، ويصوغ لها هوية وطنية، ويؤسس لديها ولاء للأرض وللشعب الواحد. وكان الراعي واضحاً في وصفه البلد الذي أورثنا إياه الأتراك والفرنسيون. «ليس واحداً موحداً، بل دويلات يتقاسم مؤسساته وماله العام أفراد نافذون وفئات، على حساب الشعب وحياته المعيشية الكريمة»، داعياً إلى «دولة قوية متماسكة (…) توجب الولاء الأول والأخير لها». وحتى يتحقق هذا الهدف «على اللبنانيين والأسرة الدولية ان يعملوا على إعلان لبنان بلداً محايدا، حياداً ايجابياً (…) فلا يكون مقراً لعناصر عدم الاستقرار في المنطقة، ولا تكون أرضه مسرحاً لحروب الآخرين». ولكن ماذا يعني البطريرك بـ«الحياد الإيجابي»؟ أجاب: «ان يلتزم القضايا العربية المشتركة بحكم عضويته في الجامعة العربية، وقضية السلام والعدالة والحقوق وترقي الشعوب، التزاماً بعضويته في منظمة الأمم المتحدة والشرعية الدولية». وهذه الفكرة ليست بجديدة، إذ سبق ان طرحها لبنان في الجمعية العمومية للأمم المتحدة التي انعقدت في 5 حزيران 1978، أي بعد ثلاثة أشهر على صدور القرار 425 الذي بقي من دون تنفيذ حتى 25 أيار 2000 تاريخ انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي اللبنانية تحت ضربات المقاومة. وكان السفير غسان تويني آنذاك رئيساً للوفد اللبناني لدى المنظمة الدولية، وقد تحدث عن الاحتلال الإسرائيلي تلك السنة لأجزاء من الجنوب والبقاع الغربي، وقال: «إن واجب مجلس الأمن الدولي هو ان يحول دون ذبح دولة هي عضو في المنظمة». وقال تويني إن مثل هذا الحياد يمكن أن يأخذ شكلاً تدويلياً، بحيث يصبح الدفاع عن حدود الدولة مهمة قوة حفظ السلام الدولية، التي لها صفة دائمة وليست مؤقتة مثل «اليونيفل». ذلك «ان وجود القوة الدولية الدائمة الحامية للحياد الإيجابي يؤدي إلى تطوير نظم ديموقراطية تحل مكان النظم الاستبدادية ذات الطبيعة العسكرية والمخابراتية القمعية للحريات وحقوق الإنسان»، على أن تتحول الجيوش الوطنية أدوات للأمن الداخلي «ويمكن ان تضطلع بدور أساسي في الانصهار الوطني، وفي التنمية الاقتصادية والإعمار». وقد أعيد طرح هذه الفكرة في حلقة بحثية عقدت في 2 أيلول 2007 في اسطنبول تحت شعار «حماية الدول الصغيرة في حالات الحرب». وقد شارك فيها إسرائيليون ووزعت فيها ورقة بحثية لبنانية حول الحروب الإسرائيلية على لبنان منذ عام 1969 حتى حرب تموز 2006، وما أنزلته به من ضحايا وخلّفته من دمار وخراب للحقول والممتلكات والبنى التحتية. وكما لم يفت الأستاذ تويني تذكّر القوى التي تسيطر على المنظمة الدولية وتوجهها بما يخدم مصالحها، كذلك لن تغيب عن بال البطريرك حقيقة أن الإرادة الموحّدة للشعوب وتضامنها وتمسكها بوحدتها هي الضامن الوحيد لوجودها، ولسيادتها وحرياتها. علماً أن تويني كان أنهى عرض فكرته بالآتي: «إن توقنا إلى السلام وهو طبيعي ـ ألا يبدو أحياناً وهمياً؟».

أرمينيا وأذريبجان … حملة ضد “بريزا”

يوم تتسبّب ذكرى 24 نيسان في ولادة شعب

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تقرير طلعت باشا حول الإبادة الجماعية الأرمنية

أرشيف