القضية الارمنية في اطار العولمة والشتات الارمني

د.انطوان سيف * “القضية الارمنية في الفكر اللبناني” بيروت – 2000 لقد كتب الكثير عن تاريخ أرمينيا الحديثة ومآسي الشعب الأرمني وحقوقه الوطنية. وليس مستغربا ان تستأثر المقاربة التاريخية بالقدر الأكبر من الكتابة. فالمقصود من هذا التراكم في الكتابة التاريخية إبقاء الفظائع التي ارتكبت بحق الأرمن حية في الذاكرة، عاصية على النسيان والتلاشي في الضمير الأرمني أولا، وبخاصة في الضمير العالمي. ولئن كان صحيحا أن التاريخ حول هذه المسألة الهامة غير قابل للإستنفاد، وعلى الخصوص عندما تكون ثمة خطة مضادة تجهد لتزوير التاريخ ونكران حصول هذا الحدث التاريخي، فالصحيح أيضا أن مقاربات أخرى للقضية لا بد أن لها موقعا موازيا للكتابة التاريخية المستمرة، وداعما لها. لقد اخترت في هذه المناسبة التذكير بمقارنتين؛ وإثارة الإعتبار الناجم عنهما: الأولى: بين لبنان وأرمينيا في تاريخهما الحديث. والثانية: بين إستقلال دولة أرمينيا الحديثة وظهور العولمة. المقارنة الأولى: 1- في 9 حزيران 1861، بعد حرب أهلية في جبل لبنان إستمرت أكثر من خمسة أشهر ذهب ضحيتها عدد كبير من الأهالي المسيحيين والدروز، وبعد إجتماعات لمندوبي الدول الكبرى آنذاك مع مندوب السلطنة العثمانية، أصدرت هذه الدول نظاما أساسيا لجبل لبنان عرف بــ”النظام الأساسي” أو “البروتوكول”، مؤلفا من ست عشرة مادة، ومادة إضافية، اعترف بموجبه للبنان بالإستقلال الذاتي تحت إسم “متصرفية جبل لبنان”. وتم به الإعتراف أيضا بأن البنية الإجتماعية – السياسية لجبل لبنان هي مؤلفة أساسا من طوائف مسيحية وإسلامية يرأسها، من قبل السلطنة، متصرف عثماني مسيحي. وتم إختيار داود براميان الأرمني المسيحي، مدير البريد في اسطنبول، عاصمة السلطنة، متصرفا لجبل لبنان لمدة ثلاث سنوات “على سبيل التجربة”. بعد سنتين من هذا التاريخ، أي عام 1863، أقر السلطان العثماني “الدستور الوطني الأرمني” الذي صاغه عدد من المفكرين الشباب الأرمن الذين أتموا تحصيلهم العلمي في فرنسا. 2- اقر ” النظام الاساسي ” لجبل لبنان بحق الاقتراع الشعبي، في مبادرة لاسابق لها في الشرق! فكان” مجلس ادارة حكومة جبل لبنان ” ينتخب انتخابا حرا:”.. اعضاء مجلس الادارة ينتخبون بمعرفة مشايخ القرى. كما ان انتخاب الشيخ( العمدة، او رئيس البلدية) يكون بمعرفة اهل القرية” ( المادة العاشرة)، ” ويكون في كل قرية شيخ(رئيس بلدية) ينصبه المتصرف بانتخاب اهلها”(المادة الرابعة). و”الدستور الوطني الأرمني” خوّل الأرمن المقيمين في السلطنة العثمانية حق إنتخاب مجلس وطني أرمني علماني وكنائسي بالإقتراع العام. 3- في الفترة عينها، أي القرن التاسع عشر، إنتشرت في كلا البلدين، لبنان وأرمينيا، الطباعة والصحافة على نطاق واسع وسريع، قبل سائر مناطق ودول السلطنة العثمانية. كما انتشرت مراكز التعليم الحديثة: المدارس والجامعات (في بادئ الأمر الأوروبية والأميركية)، ومظاهر أخرى من الحداثة الوافدة من الغرب، في عصر عرف لأول مرة سرعة الإتصالات والمواصلات: سفينة البخار، الإتصال البرقي، السيال الكهربائي… 4- وفي كلا هاتين المنطقتين (لبنان وأرمينيا) المستقلتين حديثا في إطار السلطنة العثمانية، رافقت هذه الإنجازات الحداثوية، هنا وهناك، مجازر وفظائع لم يعرف لها مثيل في الشرق منذ قرون عدة! فمنذ مجازر 1841 و 1860، لم يعرف لبنان خلال قرن كامل من هذا التاريخ، حوادث دموية تذكر، حتى خلال الحرب العالمية الأولى. أما أرمينيا، فشهدت أكثر المجازر فظاعة، إتخذت شكل إبادة جماعية، في الأعوام 1877 و 1878؛ وفي 1895 و 1896؛ وفي 1909؛ وبخاصة في 1915 – 1916 حيث بلغت ذروتها الوحشية؛ وبعد ذلك في 1920 – 1921… وهذه الأبادات المنظمة لم تتوقف كليا في فترات متقطعة بين تلك السنوات… إن المجازر الرهيبة ضد الأرمن تكثفت ضمن فترة زمنية لا تتجاوز الربع قرن الذي يعتبر أقسى ربع قرن عرفه تاريخ شعب، وحتى أحد الأقسى في تاريخ البشرية. 5- المجازر أدت أيضا إلى الشتات الكبير الذي يفوق لدى اللبنانيين ولدى الأرمن عموما، عدد المقيمين! 6- ولكن على الرغم من كل ذلك استمرت الدولية الأرمنية “كنواة” لأرمينيا التي تقلصت إلى سدس أرض أرمينيا التاريخية، التي أقرتها في 10 آب 1920 معاهدة سيفر. من المعروف أن الشعوب هي أكثر قدرة من الأفراد على التكيف مع الوقائع القاسية المستجدة؛ فالشعوب تعطي لغريزة الحياة والبقاء والإستمرار قيمة “أولية، وأسبقية” على المبادئ والأفكار. لقد بقيت أرمينيا بفضل مجموعة أرمنية بقيت فيها، فرضت عليها الظروف أن تكون هناك، تعض على جرحها النازف ليلا نهارا، في إمتحان نادر للإرادة الوطنية. وبالمقابل استمرت أرمينيا في ضمير الشتات الأرمني أينما حل، قضية حية. إن التاريخ الأكبر (الماكرو – تاريخ) ينساق إلى التفتيش تلقاء عن مقولات كبرى جامعة لتلك “المنشورات”: حداثة، ثقافة، مجازر، تهجير، شتات… المؤرخون التقليديون طرحوا فكرة المسألة الشرقية” وصفة جاهزة تفسر آليا كل ما حدث”! ولكن من غير التنبه إلى “دلالات” هذه التحولات التي تتلازم فيها الثقافة الحديثة للأقليات بالمأساة. كأن هذه “فدية” ضرورية لتلك! المقارنة الثانية: في 23/9/1991 أعلن إستقلال “الجمهورية الأرمنية” باعتراف دولي، دولة ذات سيادة فعلية، مختلفة جوهريا عن واقع الإستقلال الشكلي داخل الكتلة السوفياتية السابقة. في الفترة نفسها، ونتيجة لها، انهار الإتحاد السوفياتي. وانهارت معه ثنائية القطب التي هيمنت على العالم خلال النصف الثاني من القرن العشرين، مفسحا أمام نشوء العولمة الأحادية القطب (الأميركي). نشأت الدولة الأرمنية المستقلة مع نشوء العولمة، وبسبب نشوء العولمة، وفي إطارها. إنها دولة تدين بنشأتها أولا إلى هذا الحدث الدولي التاريخي. ما المغزى الذي يمكن إستخلاصه من هذا التلازم بين النشأتين، من الجانب الأرمني خصوصا؟ التلازم ليس مجرد صدفة. هو شبكة كبرى من العلاقات. هذا الحدث يشكل منعطفا نوعيا في النضال من أجل القضية الأرمنية. فعلى الرغم من الحملات الإعلامية الذكية، والناجحة عموما، التي خاضها أرمن الشتات، أحفاد المشردين الذين خلصوا من المجازر، في كل أنحاء العالم، وبخاصة في الدول التي لجأوا اليها واستضافتهم وباتوا من رعاياها ومواطنيها الناشطين، فإن ثمة – مع ذلك – مجالات رحبة، في نطاق الإعلام خصوصا، وبالضغوط بالوسائل الديمقراطية المختلفة، لتأليب الرأي العام الدولي، وشرح القضية وتوسيع التأييد لعدالتها وحقها. ويخشى فعلاً من أن يكون بعض الإتجاهات داخل المجموعات الأرمنية قادرا على أن يجعل أرمينيا (بمواطنيها وشتاتها، وأصدقائها أيضا) آخر المتنبهين “لروح” هذه المرحلة التاريخية الراهنة والمستقبلية! فالإتجاهات الجديدة المعروفة باسم “العولمة” هي إنفتاح لا عوائق أمامه، وخرق للحدود المادية أو النفسية، الفعلية أو المصطنعة. فالكل يعرف مدى “العوائق النفسية” التي تحبط الأرمن عن الإنخراط، طوعا وعفويا، في هذه التوجهات الجديدة إزاء قضيتهم، وربما غدوا “ملتزمين” بنمط من النضال دأبوا على مزاولته منذ قرن تقريباً، واضح المواقع والمواقف! إلا أن ثمة وقائع جديدة تقتضي “واقعية” جديدة ممكنة ومحتملة وغير باهظة، وأكثر فعالية، تحمل سلبيات وتراجعات! هذه “المهمة” الجديدة، أو “الأسلوب” النضالي الجديد، هو برسم أرمن الشتات، قبل المقيمين. فالأرمن اللبنانيون، على سبيل المثال، أغنوا خبرتهم السياسية بفضل مزاولتهم العمل السياسي الرسمي خصوصا (مشاركتهم في السلطة اللبنانية)، والأهلية (معاناتهم ما عاناه شعب لبنان) والمدنية (نضالهم مع مختلف فئاته: نقابيا وثقافيا وإعلاميا وإجتماعيا…) وباتوا على معرفة مرهفة ودقيقة بالوقائع والتطلعات اللبنانية والعربية، المسيحية الشرقية والإسلامية. أضف إلى ذلك علاقتهم الطيبة بالدول والشعوب العربية، وبكثير من الدول والشعوب الإسلامية غير العربية (إيران مثلا) التي يمكن جعلها نماذج محتملة لجبهة واسعة من الأصدقاء يمكن أن تعمد بشجاعة وبعزم لإعادة فتح ملف القضية الأرمنية، على ضوء وقائع العولمة الحديثة، أمام كل دول المنطقة وشعوبها. الكل يعرف أن الحوار الأرمني – التركي، خصوصا على المستوى الرسمي، صعب وقاس؛ وليس له اليوم، وفي الأفق المنظور، أي مؤشر لنجاح يعتد به! إلا أن الرهان على “الجبهة الواسعة” المقترحة والممكنة، الإقليمية العربية والإسلامية والدولية، يفتح لأرمن الشتات أبوابا جديدة من النضال الشجاع، ومن المسؤولية التاريخية أيضا، لضم قواهم المعروفة، وخبراتهم الواسعة، وكفاءاتهم المشهود لها، لإقامة توازن ضروري لا يمكن الحصول عليه خارج هذه “الجبهة الصديقة” على المستوى الدولي. فأرمن الشتات في أميركا واوروبا، كما في العالم العربي والإسلامي، هم أكثر خبرة وقدرة على النضال المنظم (اللوبي، أو مجموعة لوبيات) في سبيل القضية بموازاة نضالهم في قواطنهم، وفي ضوء مستجدات العولمة الراهنة. إلا أن العولمة ليست أدوات وحلولا، بأكثر مما هي جملة إمكانيات وجملة تحديات (ومخاطر أيضا!) لا يمكن الإنسحاب منها، أو الإحتماء منها بتجاهلها. فلا بد من الإنخراط فيها بإتقان قواعدها. هذه الإمكانات في العولمة تعطى للأكفياء من “الصغار”، دولا وشعوبا ومجموعات، مجالات مضاعفة من القدرة والقوة عن طريق التواصل والإنفتاح الجريء من غير مخاوف. لقد كانت القضية الأرمنية الجرح الأكبر للقرن العشرين في بدايته، وإحدى النتائج المأساوية لمنعطفات الصراع الدولي. وها هي، قبل نهاية هذا القرن العشرين، وفي إطار منعطف دولي كبير أنشأ العولمة، تسجل إنتصارا هاما (وإن ناقصا) بإقامة الدولة الأرمنية الحديثة المستقلة. ولكن الدولة ليست نهاية التاريخ، ولا مستقره. فالمخاطر تبقى قائمة. والبعد الماضي (التاريخي) للقضية الذي ظل لليوم وجهها الأبرز، لا بد وأن يدعم بمواقف راهنة، وبرؤى مستقبلية، فيها من الخبرة الأرمنية والجدة والجرأة ما لم يصر إلى استخدامه وامتحانه بصبر رواقي، وأمل واثق، قبل الآن . هذه المواقف النضالية الجديدة والشجاعة هي الهدية المنتظرة للقضية على بوابة القرن الحادي والعشرين. * استاذ في الجامعة اللبنانية

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *