جريدة النهار-لبنان 10تشرين الثاني/نوفمبر2010 كتب غسان حجار الراهب اليسوعي الأب بيتر هانس كولفنباخ في بيروت بعد غياب 25 عاماً حافظ التراث الأرمني في المكتبة الشرقية والباحث في أدب المسيحيين العرب قبل مدة حاولنا ان نقرع الباب فلم يفتح لنا، لا لتكبّر، أو ضيق وقت اكيد، وانما لتواضع العلماء الكبار، ولصمت رباني يسكن هذا الراهب الكبير في علمه وثقافته وايمانه وتواضعه. انه الراهب اليسوعي الأب بيتر هانس كولفنباخ، الرئيس العام السابق للآباء اليسوعيين في العالم، والذي استقال من منصبه ليعود فيتفرّغ للبحوث والدراسات وتحديداً الأرمنية. ولكن اين؟ هل في المدينة العظيمة روما؟ لا. بل في بيروت العابقة بتاريخ يخاف الراهب اليسوعي ان يندثر مع تراجع الاهتمام الرهباني بهذا التراث اولاً، وقلة عدد الدارسين او الطلاب فيه. هكذا عاد الأب كولفنباخ الى لبنان، ليلزم المكتبة الشرقية، تلك التي لا يعرف كثيرون قيمتها الحقيقية، بما تحويه من كنوز ومراجع ووثائق. عاد متفرغا للعمل والصلاة، فهذه حال اليسوعيين اينما حلوا. اطلالة اخيرة له في محاضرة الشهر الفائت، سمحت لنا بالتقاط صور حديثة له، أفدنا منها لننشرها مع هذا النص المترجم الذي اخذناه من دون اذن، من مجلة “jésuitas” الخاصة باليسوعيين في اسبانيا. علما أن معد النص هو الراهب اليسوعي ايضاً الأب لويس بواسيه، الذي يعرفه كثيرون لتاريخه اللبناني ايضا. المجلة اللبنانية “Info-pro” الخاصة باقليم الشرق الاوسط في الرهبانية عادت ونشرت النص، فكان لنا نصيب في “القبض عليه” وترجمته الى العربية. هذه كانت فرصتنا الوحيدة، بعدما حاولنا الحديث معه مباشرة، ولم نوفق: إنه الأول من تشرين الاول 1958، ووسط مؤشرات الصراع الطويل الذي شهده لبنان في ما بعد، قام بيتر هانس كولفنباخ، طالب اللاهوت في المعهد الشرقي في بيروت، بزيارته الاولى الى لبنان ومكث حتى عام 1964، قبل ان يغادر الى فرنسا لمتابعة دراساته العليا في الألسنية في اللغة الارمنية، وانتقل بعدها الى الولايات المتحدة لاستئناف دراساته. وفي العام 1968 عاد الى بيروت، حيث شغل منصب استاذ الألسنيات العامة واللغة الارمنية الكلاسيكية في معهد الآداب الشرقية، ومدير معهد الفلسفة في جامعة القديس يوسف، فيما كان يقيم في كلية القديس غريغوريوس المنور في بيروت. بين عامي 1974 و1981 تولى مسؤولية اقليم الشرق الاوسط في الرهبانية اليسوعية، وكان يقوم بزيارات عدة الى دول الاقليم، اي لبنان ومصر وسوريا. وعيّن في كانون الثاني 1981 رئيساً للمعهد الحبري الشرقي في روما، وانتخب في العام 1983 خلال المجمع العام الثالث والثلاثين للآباء اليسوعيين رئيساً عاما وفي كانون الثاني عام 2008 سمح المجمع العام الخامس والثلاثون، للأب كولفنباخ بالتخلي عن منصبه، ليعود مجددا الى لبنان في آذار من العام نفسه. نادرة هي الحالات في تاريخ الرهبنة اليسوعية التي يتخلى فيها رئيس عام عن منصبه المنتخب له مدى الحياة. فهل يكون مصطلح “التقاعد” مناسبا لوصف حاله؟ ورغم انتخاب الرئيس العام لمدى الحياة وليس لسنوات محددة، يجيز له القانون التقدم بطلب الاعفاء من المسؤولية، لأسباب مهمة وقاهرة احياناً، وعلى المجمع العام ان يبت في الطلب. وهذا ما قام به الاب بيدرو اروبي في العام 1983. قليلون هم الآباء العامون الذين استمروا في رئاسة الرهبنة اليسوعية أكثر من عشرين عاماً. وعندما تطول ولاية الرئيس يساعده نائب عام اذا كان مسنّا. هذه الطريقة تضمن استمرار العمل، ليس فقط للأب العام المستمر على قيد الحياة، بل ايضا للجسم الرهباني والادارة القادرة على احياء الحياة الرسولية الخاصة بالرهبنة. وقد ساهمت القوانين الحالية في تسهيل هذه العملية. منذ عودته الى لبنان، يمارس الاب كولفنباخ في الرهبانية اليسوعية في بيروت مهمات متنوعة، كالوعظ في الرياضات الروحية او المشاركة في الندوات والمؤتمرات الى اعمال خاصة بالتراث الارمني في المكتبة الشرقية وفي مركز التوثيق والبحوث العربية المسيحية CEDRAC. وعن ذلك يقول ردا على سؤال: “انا ممتن لليسوعيين في الشرق الاوسط، اذ استقبلوني من جديد بعد غياب اكثر من 25 عاما. ولأن القديس اغناطيوس، مؤسسنا، يطالبنا في القوانين الرهبانية بالبحث في الدراسات التي نجريها عن مجد الله وخير النفوس فحسب، اظن ان العمل العلمي والروحي يتغذى من المصدر عينه ومن الالتزام الرسولي نفسه. • ماذا عن التراث الارمني الخاص بالمكتبة الشرقية؟ – ان السبب الذي دفعني للعودة الى بيروت مجددا يتمثل في الحقيقة المحزنة، انه بوفاة الاب ساحاق كشيشيان عام 2005، صرت وحدي ملماً في التراث الارمني في البعثة التي شرع بها اليسوعيون في القرن السابع عشر. وبهدف خدمة الارمن، وضعت الجمعية شبكة تعليمية كاملة للمدارس والكليات. وفي 24 كانون الثاني 1915 اطلق طلال باشا خطة واسعة للابادة والترحيل الجماعي للأرمن. ومتابعة للأرمن في منفاهم اسس اليسوعيون مدارس خاصة بهم في سوريا ولبنان. وعلى المستوى الجامعي، تم تأسيس كرسي خاص في الحضارة الأرمنية في جامعة القديس يوسف في بيروت، والذي لا يزال يضم حتى اليوم مجموعة كبيرة من الكتب والمؤلفات في المكتبة الشرقية. تجدر الاشارة الى ان المعاهد والكرسي أقفلت، ولم يبق من البعثة الارمنية الا المجموعة الكبيرة من المنشورات والبحوث التي أنيطت بها. • وماذا عن مركز التوثيق والبحوث العربية المسيحية CEDRAC؟ – السبب الآخر الذي دفعني للعودة الى لبنان هو طلب الأب سمير خليل مني ان اصبح نائبا لمدير المركز. ولأنه يتم المزج غالباً ما بين اللغة العربية والاسلام، أسس الأب سمير CEDRAC في عام 1991 لدراسة الادب العربي الخاص بالمسيحيين وتعزيز هذا التراث. وقد اجرى جورج غراف اول جردة لهذا الأدب عام 1950، ومنذ ذلك الحين تكثّفت البحوث. كما كلفني CEDRAC بدراسة مساهمة اليسوعيين العرب والمستشرقين – ما يقارب 200 يسوعي ابتداء من القرن السابع عشر في مشروع الثقافة العربية أو المجتمع الاسلامي المسيحي. وسيكون في الامكان نشر النتائج الأولية لهذا العمل في السنة المقبلة 2011. • بعدما غادرت بيروت الى روما في العام 1981 استمر اهتمام اليسوعيين بلبنان واقليم الشرق الاوسط، ولكن خلال فترة غيابك تبدل تاريخ المنطقة واجتازت الكنائس مراحل مصيرية. اين يكمن قلقك اليوم، وما هي دوافعك لبناء الأمل في مستقبل واعد للبنان والكنائس الشرقية؟ استُدعيت الى روما في العام 1981، وقد غادرت لبنان في وقت كان يعصف به العنف الدموي. ولكن تبقى راسخة لديّ كلمة البابا يوحنا بولس الثاني أن لبنان أكثر من بلد: انه رسالة، وارض للتبادل واللقاء بين الاديان والكنائس والمجموعات العرقية. ولا تزال أيضاً ملاحظة جيرار دي نرفال في العام 1851 خالدة، إذ قال بعد زيارته الجبل اللبناني: هناك تنوّع كبير من الناس، ولكن لسوء الحظ، هناك الكثير من البلدان المجاورة والشعوب التي تسعى الى استغلال انقساماتهم. ورغم الهدوء الحالي، فإن القلق يسود البلاد، بسبب المؤشرات الدائمة التي تظهر عدم استقرار العيش المشترك، أو بالاحرى استحالته. وقد عبّر غبطة البطريرك الماروني عن هذه الحال بالقول: إنها خسارة للمسيحية والاسلام على السواء، اذا بقيت هذه الارض من دون مسيحيين. ولكننا لا نستطيع أن نطلب من المسيحيين البقاء اذا ما فشلوا في العثور على عمل ما، ولم يتمكنوا من المشاركة في السلطة، وإن لم تكن كرامتهم محفوظة. هذه هي مصادر القلق الواضحة. • عندما نلتقي كيسوعيين، يسألك البعض عن صحتك. ونحن نجيبهم بأن صحتك جيدة وتخضع للمراقبة الدائمة في مستشفى أوتيل ديو، كما هي حال كل الآباء والأخوة في الأقلية. فهل يعكس ردّنا الواقع في شكل دقيق؟ – أعتقد ذلك. في الواقع، لكي أتجنب فرض عبء اضافي على اقليم الشرق الاوسط، خضعت لفحص طبي قبل عودتي. وأكد الاطباء في روما وجود مشكلات صحية تمنعني من استئناف مهماتي كرئيس عام. والاطباء اللبنانيون هم الذين اكتشفوا مشكلات في القلب ونظفوا شرايين قلبي قدر المستطاع. لقد وصفوا لي بعض الادوية، وحددوا لي نظاماً غذائياً بسبب مرض السكري الذي أعانيه. هذا هو وضعي الصحي. • يلاحظ القريبون منك أنك لم تغير في بيروت من وتيرة الحياة التي كنت تتبعها في روما، علماً ان حياتك هناك كانت مكتظة بالتزامات عدة: جلسات واجتماعات ومراسلات، وسفر… هل تستمتع بطريقة عيشك الجديدة؟ ما هي نقاط القوة والعبر أو النعم التي اكتسبتها؟ – كان البعض ينتقدون سلفي أحياناً، الأب بيدرو اروبي، لإدارته الرهبنة اليسوعية من الطائرة التي كانت تسمح له بلقاء العشرين ألف يسوعي في العالم. ولكن رغم المظاهر، كان يقضي معظم وقته راكعاً يصلي، أو في مكتبه في بورجو سانتو سبيريت. كان يتابع آلاف الرسائل التي ترده في عمل الرهبنة. وكان ينبغي عليه أيضاً أن يكون حاضراً لاستقبال الزوار والمحافظة على العلاقات الوثيقة مع الفاتيكان وتنسيقها. ومما لا شك فيه أن ملاقاة كل يسوعي شخصياً هي مصدر تشجيع. ولكن هذه المشكلة لم تعد تطرح نفسها معي، على الاقل الآن، في نوع الحياة الجديدة في العاصمة اللبنانية. • يضم دير القديس يوسف للآباء اليسوعيين في بيروت مجموعات عمل عدة منها مجموعة القديس اغناطيوس للطلاب الشباب والمبتدئين، وهم يقدرون وجودك. ما هي الرسالة التي تود أن تنقلها لهم ومن خلالهم لليسوعيين الذين تعرفت اليهم خلال رسالتك ورئاستك العامة؟ – القاعدة الاساسية استمدها من القديس بينيديكتوس الذي يجعلنا نهتم بما يقوله الرب لنا على لسان الرهبان الشباب أو الأكثر شباباً. ومع دعوة هؤلاء الشبان، المتحضّرين للحياة الرهبانية، فإن الروح القدس يعلمنا بالتأكيد ما يطلبه وما يأمله من رهبانيتنا.