رسالة بيروت ـ ميرفت فهد 12 ايلول/سبتمبر2009 علي الرغم من أن المفاوضات الأرمينية ـ التركية قد بدأت منذ عام مع زيارة الرئيس التركي عبد الله جول إلي أرمينيا وتوقيع بروتوكول لتطبيع العلاقات بين البلدين في الأيام القليلة الماضية تمهيدا لزيارة مماثلة سوف يقوم بها الرئيس الأرميني إلي تركيا في أكتوبر المقبل فإن القضية الأرمينية مازالت حاضرة اليوم علي الساحة الدولية. نظمت جامعة هايكازيان والهيئة الوطنية الأرمينية ـ الشرق الأوسط مؤتمرا دوليا بعنوان’ الإبادة الأرمينية والقانون الدولي’ في الفترة ما بين3 و4 سبتمبر2009, داخل جامعة هايكازيان في بيروت, لبنان, بحضور نخبة من الأكاديمين والخبراء في القانون الدولي والإبادة من مصر ولبنان وتركيا وأيرلندا وسويسرا وهولندا وكندا والولايات المتحدة الأمريكية. وقد كان هدف المؤتمر هو البرهان علي أن المذبحة الأرمينية لا تخص الأرمن فحسب بل هي مشكلة دولية. ففي كلمة الافتتاح قال رئيس الجامعة, القس الدكتور بول هايدوسيان إن الحضارة الإنسانية لا تعتبر متقدمة إذا لم تنتصر للضحايا المظلومين في العالم أجمع, والجميع في المؤتمر حاضرون كمجتمع دولي لمناقشة قوانين ومعايير دولية تحد من جرائم الحرب. وقد ناقش د.جورج شرف ـ عميد كلية الحقوق والعلوم السياسية بالجامعة اللبنانية ـ مشكلة الأقليات والأكثريات باتخاذ الإمبراطورية العثمانية كدراسة حالة, حيث إن معيار تعريف هذين المصطلحين يكون العدد. وبالتالي مفهوم الأكثرية لا يحتوي علي التفوق الحضاري والثقافي وكذلك الحال مع الأقلية. والتفوق العددي لا يعطي الأكثرية الحق في السلطة. إلا أن المنطق الإمبراطوري أبقي استقلالية ذاتية للأقليات وإخضاعها للأكثرية. كما يقوم هذا المنطق علي معادلة القوي ـ الضعيف علاوة علي مفهوم خطير هو المتفوق والدوني. وهو مرتكز فلسفي يعتبر الأكثرية متفوقة علي الأقلية مما أوجد تراتبا في سلم القيم. وعندما قامت الإيديولوجيات القومية في القرن19, لم يكن للأقليات سوي حلين: إما الاستسلام وإما المقاومة وقد اختارت الثانية. وبالتالي نشأ الصراع بين الأكثريات والأقليات حول الحق في الأرض والمشاركة في السلطة. وكانت الإمبراطورية العثمانية نموذجا لهذه العلاقة بين الاثنين. كما كانت تتبع عزل الملل غير الإسلامية مما يعكس مفهوم المجتمع التراتبي وأيضا عزل الجماعات الأقلية. ولكن اليوم هناك تغير في الدولة التركية قد يكون بالسلب أو بالإيجاب. هناك تفسخ إيديولوجي ويقابله التصدع السياسي في الواقع التركي بين الحزب الإسلامي الحاكم والجيش, ويتمثل ذلك في اتجاه الحكومة في إيجاد حل سلمي لقضية الأكراد في حين يظل موقف الجيش متصلبا. ويتساءل د. شرف بأنه إذا اعترفت تركيا بالأكراد فهل سيمتد ذلك إلي حق تقرير المصير؟ أم الوقوف فقط عند الحقوق الثقافية؟ وبأية حال من الأحوال, هناك بداية لإعادة النظر في الجذور الإيديولوجية للدولة التركية ويمكن القول إنها قد تعيد قراءة وبصورة نقدية أن الأرمن تشكل جماعة لها حقوق في الدولة العثمانية. ويري د. أوجور أنجورـ محاضر بجامعة شيفلد ومجال اهتمامه الرئيسي هو علم الاجتماع التاريخي للعنف الجماعي والقومية في العالم الحديث ـ أن نظام تركيا الفتاة حاول في الفترة الممتدة بين العامين1913 و1950 إنشاء نظام مبني علي ديموجرافية معينة, فسلك طرق التهميش وتعديل الحدود والترحيل وتبادل السكان والإبعاد. وبالنظر إلي تلك الفترة, يقول الباحث إنه كانت هناك خصومات داخل الدولة بحيث انقلب الحزب في اسطنبول وأرسي الديكتاتورية وأصبح عنف الدولة من الروتين بحيث طال أرمنا وآشوريين ويونانا وأكرادا. وقد شهدت مجموعات الضحايا أعمال استبعاد. وضمنت استمرارية العنف ثلاثة أمور: أولها استمرار النظام, ومن ثم تحول جمعية الاتحاد والترقي إلي الحزب الحاكم, بالإضافة إلي الاستمرارية في الإيديولوجية. وأشار رجيب زاراكولو ـ كاتب وصحفي وناشر مولود في اسطنبول ـ إلي استمرار الحكومة التركية بعد انهيار السلطنة العثمانية في سياسة التطهير معتبرة هذه السياسة شرطا أساسيا لبناء أمة توحيدية. ولفت النظر إلي أن العالم يشهد منذ تسع سنوات سياسة تركية جديدة تجاه الاعتراف بإبادة الأرمن. فقبل هذه السنوات كان الصمت سائدا. أما اليوم فعاد الأتراك إلي اتباع سياسة الإنكار وليس فقط علي صعيد الأرمن. وقد أوضحت سيهان بايراكتار ـ باحثة في جامعة زيورخ ـ أن الصحافة التركية كانت تتخذ موقف الإنكار مثلها مثل الحكومة التركية. ولم تتطرق للموضوع الأرميني إلا عبر محفزات خارجية كان أبرزها اعتراف فرنسا مثل الولايات المتحدة الأمريكية بإبادة الأرمن من قبل الأتراك بعد عام1990, فقد أدرجت قضية الإبادة علي الأجندة التركية وأضيف إلي هذا التحول زيارة أحد الأعضاء البارزين في الحزب الحاكم للنصب التذكاري لشهداء الأرمن في ياريفانا وذلك بعدما أقرت بعض المحاكم علانية حصول فعل الإبادة. كما شكل عام1987, خطا مفصليا في الخطاب التركي لا سيما بعد إقرار الاتحاد الأوروبي حصول الإبادة. فما كان من الحكومة إلا رفض الحديث الأوروبي علي أساس أنه تدخل في الشئون الداخلية التركية. وفي هذا الوقت, كان الرأي العام يربط القضية الأرمينية بالنظام التركي دون غيره. أما عن الصحافة العربية, فقد قال د. محمد رفعت الإمام- مدرس مساعد التاريخ الحديث ـ جامعة الإسكندرية إن مصادر عربية مختلفة كتبت عن القضية الأرمينية. ويقصد بالمصادر العربية أو بالأحري الكتابات العربية أنها الأدبيات التي كتبها عرب سواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين بلغة الضاد. وتناولت القضية الأرمينية بكل أبعادها وتداعياتها, ولم تنكر هذه المصادر المذابح الحميدية أو الإبادة الاتحادية ولكن معظمها انصب في قوالب تبريرية إذ رأت في الأرمن قومية مسيحية تحتمي بالصليبيين للنيل من الإسلام. في حين أن الأدبيات الصحفية تبنت مواقف مختلفة من الموضوع متبنية إما الموقف الإسلامي أو العثماني أو الفرنسي أو البريطاني, ومنها ما وصف الأحداث بالاستئصال. وذكر خاتشيج مراديان ـ باحث دكتوراة في دراسات الإبادة بجامعة كلارك وهو أيضا صحفي وكاتب ومترجم ـ أن المصطلحات لها أهمية كبيرة. وأن المرة الأولي التي ذكرت فيها الولايات المتحدة كلمة إبادة بالنسبة لمذابح1915 كانت في خطاب الرئيس الأمريكي باراك أوباما في ذكري المذبحة في الرابع والعشرين من إبريل الماضي. وقد اتفق مع د. محمد رفعت الإمام في أن الصحف العربية كانت تستخدم كلمة إبادة في حين أن الصحف الأرمينية كانت تعتمد علي وصف الصحافة الأمريكية والفرنسية والبريطانية. وكانت الكلمات الأكثر استخداما في الصحف الأرمينية في ذلك الوقت هي كارثة ومأساة كبري, حيث جاء استخدام كلمة إبادة بعد قرار الأمم المتحدة عام1948 بإصدار اتفاقية منع جريمة الإبادة. ومن ناحية أخري, لفتت بلجين آياتا ـ باحثة دكتوراة بقسم العلوم السياسية بجامعة جون هوبكنز, بلتيمورـ النظر إلي مبادرات فردية في إعادة الاعتبار إلي الأرمن, ومنها حملة الاعتذار الشهيرة من قبل المجتمع المدني ومثقفين مستذكرة شابا كرديا علم بأن أرضا ورثها تعود إلي آشوريين, فذهب إلي مركز جمعية آشورية في السويد وأعاد الأرض لها. غير أن إعادة الاعتبار للأرمن تبدو صعبة أمام الشريحة الأكبر من الأتراك لا سيما مع إدراج موضوع الإبادة ضمن المحرمات. في حين قال روجيه سميث ـ مدرس بجامعة فيرجينيا ـ إنه إذا كانت هناك دول تعترف بمحرقة اليهود فإنها تنكر إبادة الأرمن. وشرح أن بعض الكتاب يعتبرون أنه لو لم ينقل الأرمن من المجتمع التركي لكانت تركيا تراجعت. فيما يؤكد بعض المؤرخين أن الإبادة وحدت تركيا فأصبحت قوية. وعدد سميث سبل التنصل من موضوع الإبادة لافتا النظر إلي أن البعض يزعم بأن الأرمن كانوا سيطالبون بأجزاء من تركيا والأناضول, فيما كان البعض الآخر يروج لمقولة إن مجرمين نفذوا عملية الإبادة أو أن أتراكا قتلوا علي حد سواء كما الأرمن أو أن الضحايا كانوا مجرمين. ويعتبر د.تانر أكام ـ رئيس قسم دراسات الإبادة الأرمينية بجامعة كلارك ـ أن هناك أسبابا أهم من التهرب من الموضوع أو نكرانه ومنها نقص الوعي التاريخي في المجتمع التركي. يضاف إليه إدخال الأبجدية اللاتينية من دون أن تحصل الأجيال علي نسخة من التاريخ المكتوب باللغة الأصلية إذ تم تحديثها لدرجة بات من الصعب عودة الأجيال الجديدة إلي التاريخ. لكن د.أكام أشار إلي أن الإبادة شكلت نوعا من الصدمة والألم لدي المجتمع التركي الذي حاول التخلص من آثارها عبر نكرانها بل اعتمد إنشاء الدولة علي أساس الإبادة, بحيث أعلن أحد أعضاء حزب الاتحاد والترقي في موضوع الإبادة أنه لو لم نتخلص من الأرمن الذين كانوا يتعاونون مع الروس لما أنشأنا دولتنا. هذه أمور حدثت لضمان أمور أكثر قيمة ولها تأثير علي مستقبل دولتنا’. وقد دعا أكام إلي مأسسة التذكر في تركيا لأنه بحسب رأيه86 عاما من النسيان لم تنشأ دولة في تركيا, مضيفا أنه إذا لم نواجه التاريخ فلن نحل قضايا الماضي. وقال د. ألفريد دي زاياس ـ محامي وكاتب ومؤرخ أمريكي, بالإضافة إلي كونه مسئول عالي المستوي سابقا في الأمم المتحدة ـ إن كلا من الإبادة والجرائم ضد الإنسانية تعد من أفظع الجرائم الدولية وتنطوي كل منهما علي عواقب مدنية وجزائية. وبسبب طبيعة الجرائم, فإن كلا من مسئولية الدولة عن تعويض الضحايا وسلالتهم والمسئولية القانونية الجنائية الفردية لا تخضع لحق التقادم أو لنظام المهلة القانونية. وفي حالة المذبحة العثمانية ضد الأرمن والأقليات المسيحية أثناء وبعد الحرب العالمية الأولي, فإن مرتكبيها أصبحوا في عداد الأموات وتجاوزوا العدالة الجنائية ولكن الدولة التركية مازالت مسئولة عن الجرائم التي ارتكبتها الإمبراطورية العثمانية. ويري زاياس أنه وفقا للنتائج المنطقية لتطبيق معاهدة الإبادة ضد كل من الأرمن والأقليات المسيحية, فإنه تجب إعادة الأديرة والكنائس والأصول الأخري التاريخية والثقافية علاوة علي منح تعويض مناسب لأهالي الضحايا. كما أن تأسيس صندوق تعويضات عام سيكون الخطوة الأولي في الطريق الصحيح. و أوضح د. وليم شاباز ـ مدير المركز الأيرلندي لحقوق الإنسان بجامعة أيرلندا ـ أن القانون الدولي ليس القانون الذي يعني بعراك وقع بين أفراد. ولكن يتعلق بالجرائم التي تقع خارج اختصاص الدول مثل القرصنة, وكذلك كل ما يتعلق بحقوق الإنسان مثلا ارتكاب دول فظائع مع شعوبها أو مع دول أخري. وهو لا يظن أن القانون الدولي كان موجودا قبل1915, عندما ارتكبت تركيا الفظائع في حق الشعب الأرميني وأصدر كل من الروس والبريطانيين إعلانا يفيد ارتكاب تركيا جرائم ضد الإنسانية والحضارة. وهو ما يشير إلي الجدة والتطور في القانون بشكل عام والدولي بشكل خاص. وقد أشار إلي عدد من المعاهدات التي تقضي بمعاقبة مرتكبي الجرائم ضد الإنسانية وملاحقتهم, وأيضا في بعض الحالات العفو مثل سيفر وفرساي ولوزان, وهي كلها التي دعت إلي قوننة هذه المبادئ وسن القوانين التي تعاقب الجرائم ضد الإنسانية في زمن الحرب أو السلم بالإضافة إلي التوصيف الدقيق لهذه الجرائم. و يري د. ريتشارد هوفانيسيان ـ أستاذ التاريخ الأرميني والشرق الأدني بجامعة كاليفورنيا, لوس أنجيلوس ـ أن هناك مسئولية ملقاة علي عاتق الأرمن داعيا إياهم إلي نبذ الرقم, لأن مليونا ونصف المليون شهيد أرميني هو رقم كبير بالنسبة للأرمن لكنه نسبيا بالنسبة إلي عدد الشهداء الذين يسقطون كل يوم في العالم. ودعا أهل القضية إلي التركيز علي الخسائر المعنوية والمادية من أراض وتاريخ. فالإبادة هي جزء من التاريخ العالمي وأبرز عواقبها تعريض حضارة كاملة للزوال. وقد ذكر أن كل أرميني نجا, إنما نجا بفعل مسلم صالح, خاتما بالدعوة إلي بيع الإبادة علي المستوي العالمي. فـألمانيا مازالت حتي اليوم تستذكر وتأخذ العبر والأمثولات من المحرقة.*