سمير صالحة صحيفة الشرق الاوسط 25 كانون الثاني/يناير 2012 بينما كان البعض يستعد لإحياء الذكرى الخامسة لاغتيال الصحافي الأرمني هرانت دينك، كانت محكمة الجزاء في إسطنبول تضع اللمسات الأخيرة على قرار قتل هذا الإعلامي لتصل إلى قناعة أن العملية عبارة عن حادث فردي وتحمل مسؤولية ارتكابه إلى قاصر أراد الانتقام من «أرمني أهان الأتراك». محكمة تصدر حكمها بحق الفتى الذي أطلق النار غدرا من الخلف على هرانت دينك ليرديه قتيلا على باب جريدة «اغوس»، التي كان رئيس تحريرها وقتها. أوغون ساماست، مراهق السابعة عشرة، اعترف يومها بارتكاب الجريمة التي هزت الداخل والخارج وأثارت جملة من التساؤلات، خصوصا بعدما وقف محامي القتيل يقول إنه من المهم طبعا أن تكون السلطات اعتقلت الفاعل بهذه السرعة والفاعلية، لكن الأهم هو تحديد أسباب الجريمة والجهة المحرضة لنعرف ما إذا كان فعلا يستحق الموت بهذه الطريقة. 19 متهما أطلق سراح 18 منهم وبقي الفتى ساماست وحيدا في القفص يتحمل المسؤولية بمفرده، حيث سقط احتمال وجود أي تحرك جماعي وراء الهجوم. المدعي العام استأنف الحكم في مسألة يحاول البعض تفسيرها على أنها قضية بائع كعك أزعجته تصريحات ومواقف الإعلامي دينك فقرر التخلص منه. هي قضية تبناها جناح مدينة طرابزون في منظمة أرغنيكون واختار إسطنبول ساحة لتنفيذها، كما يقال، لكن الأدلة والإثباتات تتبعثر. الكثير من المفكرين والكتاب الليبراليين الذين دعموا حكومة العدالة والتنمية وراهنوا على قدرتها في الإصلاح والتغيير يعيشون خيبة أمل قاسية وصدمة قوية دفعتهم للتساؤل ما إذا كانت تركيا تعود إلى ما قبل عشر سنوات، خصوصا أن الحكومة تهدر يوميا المزيد من الفرص السانحة، بينها سلبية موقفها في التعامل مع قضية هرانت التي قال فيها الحاكم إنه لم يجد أدلة ومعلومات أقوى من ذلك ليصدر قرارا من نوع آخر. أردوغان وحكومته في دائرة الخطر، فهو الذي قال قبل 5 سنوات: «إن هذا العمل يشكل اعتداء على حرية التعبير في تركيا ويستهدفنا جميعا ويهدد وحدتنا واستقرارنا وحياتنا الديمقراطية». لكن بعض المنتقدين يقول اليوم إن حكومة أردوغان التي وقفت حتى النهاية وراء القضاء في مسائل أرغنيكون والمطرقة وقضية اعتقال رئيس الأركان السابق إيلكر باشبوغ، لم تظهر الإرادة نفسها في قضية دينك، خصوصا أن البعض قطع الطريق على محاولات تعقب الكثير من البيروقراطيين المشتبه بهم، وعن رجال أمن يلتقطون الصور التذكارية مع المتهمين خلال اعتقالهم للاستجواب. أسرة القتيل تقول: «إنها مسرحية كنا نتوقع وصولها إلى هذه النهاية، لكننا كنا نراهن على دخول البعض على الخط لتغيير مسارها في اللحظة الحاسمة وإنقاذ نفسه من هذه الورطة». أصوات معترضة منتقدة كثيرة في تركيا تقول إنها ستتابع تفاصيل الملف حتى النهاية وتصر على أنها ما دامت لم تقل هي إن القضية أغلقت فلن تسمح بإغلاقها بمثل هذه البساطة. الحكومة، كما هي الصورة اليوم، أمام اختبار جديد لمواجهة تنين برأسين يريد قطع الطريق سياسيا عليها من جهة، ومحاولة لعب ورقة العداء للأرمن لمحاصرتها وتعطيل سياستها الانفتاحية في هذا الموضوع من جهة ثانية. فهل ستنجح في هذا الاختبار أم أنها ستستسلم وتكون في موقع المتفرج. الحكومة في تصوير آخر كادت تمسك الحرباء من ذيلها، لكنها هربت وتركت ذيلها بين يدي العدالة والتنمية يتحمل كل هذه الانتقادات بسبب تحقيق مبتور وحكم قضائي ينتظر التمييز ليقول كلمته. الصورة الماثلة في الأذهان هي طبعا الحذاء المهترئ والنعل المبخوش، التي طغت على شخصية مثالية متواضعة محببة اسمها دينك انتزعت إعجاب وصداقة مئات الإعلاميين والمثقفين ورجال السياسة. حكومة العدالة والتنمية لم تفرط فقط بهذه الفرصة لتكون خطوة حقيقية على طريق الحوار والتقارب التركي – الأرمني، بل أهدرت حظوظها بترجيح انتظار قرار المحكمة بدل التحرك لكسب أرمن الداخل والخارج إلى جانبها، وهي التي أعلنت دبلوماسية الأبواب المفتوحة مع الجيران، خصوصا مع أرمينيا، ففشلت كل اقتراحاتنا يومها بتحويل قصة حياته إلى عمل سينمائي ضخم بتمويل تركي – أرمني مشترك، وإطلاق اسمه على الجادة التي عاش فيها لسنوات طويلة وسقط فيها شهيدا، وعلى مكتبة متخصصة في اللغة والآداب الأرمنية تتولى أهم جامعات إسطنبول مسؤولية الإشراف عليها. وهي فرصة ثانية أهدرتها حكومة أردوغان ولا تقل قيمة عن فرصة مشروع ترميم وافتتاح كنيسة «اقدمار» التي لا نعرف حتى الساعة ما إذا كانت متحفا أم كنيسة. دون أن نهمل طبعا البعد الأوروبي من القضية، خصوصا أن أنقرة تصر على أن تكون جزءا من هذه المنظومة سواء أكان ذلك ضمن الاتحاد الأوروبي أو المجلس الأوروبي ومحكمته الشهيرة في ستراسبورغ التي تطارد قرارات المحاكم التركية والقوانين والتشريعات التي تعرقل في الكثير من الأحيان مسار تقدم العملية الديمقراطية وحقوق الإنسان في تركيا.